ثم بدأ الصداع يزحف إلى أسفل ويصيب الرقبة وفقرات الصدر، وما كادت الزوجة تمد يدها ذات ليلة وتجذب الغطاء من فوقه لتسند به الظهر الذي بدأ الوجع ينتابه، حتى تنبه الرجل تماما وصحا ولم ينم.
وهكذا لم تستمر مطالبات الزوجة بالفستان الحرير للصيف طويلا، ولا المناكفات أو المهاترات؛ إذ سرعان ما جاء اليوم الذي عاد فيه الهدوء إلى البيت، فانقطعت أرجل الذكور، وانقطع عواء أنيسة، وانقطع الوجع الظهري والمطالبات التي لا تنتهي.
وكذلك انقطع المرض الشهري.
مارش الغروب
كانت الصاجات تخرج صاخبة زاعقة، وعلى دفعات كهدير الديك الرومي، وكنت تستطيع أن تسمعها من بعيد، حتى إذا ما وصلت إلى كوبري شبرا البلد عثرت على مصدرها؛ على بائع العرقسوس.
كان الرجل مسنا كمعظم بائعي العرقسوس، ويرتدي زيهم التقليدي؛ فوطة حمراء قديمة نظيفة لفها حول وسطه، وفانلة بمبة بأكمام، ولا شيء غير هذا يستر الجسد خلا السروال الطويل الذي يترك الساقين عاريتين.
وكان للبائع لحية طويلة، ولكنه لم يكن سنيا، كان واضحا أنه يطلق لحيته كنوع من عياقة الكبار، أو لإحاطة نفسه برهبة مصطنعة، أو على أقل تقدير ليوفر ثمن حلاقتها كل يوم كل يوم.
كان واقفا في وسط الكوبري تماما وهو وإبريقه يكادان يسدان الطريق؛ فالإبريق كان ضخما قديما، وكأنه هو الآخر عجوز مقعد كتب على البائع أن يحمله فوق صدره مدى الحياة، وكانت له بوز رفيعة ممتدة وملتوية عند آخرها، وكأنها يد العجوز التي عوجها الشلل حين تمتد لتستجدي.
وكانت يدا الرجل مدلاتين خلفه، ويده اليمنى لا تكف عن دق الصاجات، ويخرج صوتها له ضجة وصراخ. وكان يدق على دفعات كل دفعة دقتين متتاليتين، ثم يصمت برهة، ويعود على الدق، ويقول: «يا منعنش!» وكان ينطق منعنش بلهجة لا نعنشة فيها ولا حماس؛ فالدنيا كانت شتاء، والشمس غابت من هنيهة، والكون يعبق بذلك الجو المريض الذي يتبع مغرب الشمس، ويسبق حلول الظلام. وكان الناس يمضون فوق الكوبري صامتين مسرعين. في إسراعهم كآبة يوم يموت، وبرودة شتاء.
كان الناس يمضون ولا أحد يلتفت إلى البائع أو تسترعيه دقاته؛ فالدنيا شتاء، ومن يشرب عرقسوسا في الشتاء؟! من يفكر حتى في فتح فمه أو التلكؤ لأخذ شفطة؟!
صفحة غير معروفة