الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة
الناشر
دار ابن خزيمة
رقم الإصدار
الأولى ١٤١٨هـ
تصانيف
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فإن حسن الخلق هو بذل الندى، وكفّ الأذى، واحتمال الأذى.
وهو التخلي من الرذائل، والتحلي بالفضائل.
وجماع حسن الخلق أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك.
ثم إن لحسن الخلق فضائل عديدة، فهو امتثال لأمر الله ورسوله"وبه ترفع الدرجات، وتيسر الأمور، وتستر العيوب، وتكسب القلوب.
وبه يسلم المرء من شرور الخلق، ويفي بالحقوق الواجبة والمستحبة، كما أن به السلامة من مضار الطيش والعجلة، وبه راحة البال، وطيب العيش إلى غير ذلك من فضائل حسن الخلق.
1 / 3
ولقد يسر الله أن كتبت في هذا الشأن كتابا عنوانه:
سوء الخلق
مظاهره- أسبابه- علاجه
ولقد تضمن ذلك الكتاب فصلا في أسباب اكتساب حسن الخلق، بعد أن تم الحديث عن سوء الخلق ومظاهره وأسبابه.
وبما أن ذلك الكتاب من القطع الكبير وعدد صفحاته١٨٣ رأيت أن يفرد ذلك الفصل مستقلا في كتيّب لأجل أن يسهل تداوله وقراءته وتوزيعه، فيسر الله ذلك بمنه وكرمه، وأسميته:
الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة
ولقد حذف في هذا الكتيب أكثر الهوامش إلا ما لا بدّ منه، فمن أراد التفصيل والإحالة فليراجع الأصل، والله المستعان وعليه التكلان.
محمد بن إبراهيم الحمد
الزلفي ٤/١/١٤١٨هـ
ص. ب: ٤٦٠
١١٩٣٢
1 / 4
أسباب اكتساب حسن الخلق
لا ريب أن أثقل ما على الطبيعة البشرية تغيير الأخلاق التي طبعت عليها النفس، إلا أن ذلك ليس متعذرا ولا مستحيلا.
بل إن هناك أسبابا عديدة، ووسائل متنوعة يستطيع الإنسان من خلالها أن يكتسب حسن الخلق.
ومن ذلك ما يلي:
١- سلامة العقيدة: فشأن العقيدة عظيم، وأمرها جلل; فالسلوك- في الغالب- ثمرة لما يحمله الإنسان من فكر، وما يعتقده من معتقد، وما يدين به من دين.
والانحراف في السلوك إنما هو ناتج عن خلل في المعتقد.
ثم إن العقيدة هي الإيمان، وأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا; فإذا صحت العقيدة حسنت الأخلاق تبعا لذلك; فالعقيدة الصحيحة تحمل صاحبها على مكارم الأخلاق من صدق، وكرم، وحلم، وشجاعة، ونحو ذلك.
1 / 5
كما أنها تردعه وتزمّه عن مساوئ الأخلاق من كذب، وشحّ، وطيش، وجهل، ونحوها.
٢- الدعاء: فالدعاء باب عظيم، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات.
فمن رغب بالتحلي بمكارم الأخلاق، ورغب بالتخلي من مساوئ الأخلاق- فليلجأ إلى ربه، وليرفع إليه أكف الضراعة; ليرزقه حسن الخلق، ويصرف عنه سيئه; فالدعاء مفيد في هذا الباب وغيره، ولهذا كان النبي- ﵊ كثير الضراعة إلى ربه يسأله أن يرزقه حسن الخلق، وكان يقول في دعاء الاستفتاح: "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق; لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها; لا يصرف عني سيئها إلا أنت" ١.
وكان من دعائه: "اللهم جنبني منكرات الأخلاق، والأهواء، والأعمال، والأدواء" ٢.
وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والهرم، والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر،
١ رواه مسلم "٧٧١". ٢ أخرجه الحاكم ١/٥٣٢ وصححه، ووافقه الذهبي.
1 / 6
ومن فتنة المحيا والممات" ١.
٣- المجاهدة: فالمجاهدة تنفع كثيرا في هذا الباب; ذلك أن الخلق الحسن نوع من الهداية يحصل عليه المرء بالمجاهدة.
قال ﷿: ﴿والّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين﴾ [العنكبوت:٦٩] .
فمن جاهد نفسه على التحلي بالفضائل، وجاهدها على التخلي من الراذئل حصل له خير كثير، واندفع عنه شر مستطير; فالأخلاق منها ما هو غريزي فطري، ومنها ما هو اكتسابي يأتي بالدربة والممارسة.
والمجاهدة لا تعني أن يجاهد المرء نفسه مرة أو مرتين أو أكثر، بل تعني أن يجاهد نفسه حتى يموت; ذلك أن المجاهدة عبادة، والله- ﵎ يقول: ﴿واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين﴾ [الحجر: ٩٩] .
٤- المحاسبة: وذلك بنقد النفس إذا ارتكبت أخلاقا ذميمة، وحملها على ألا تعود إلى تلك الأخلاق مرة أخرى، مع أخذها بمبدأ الثواب إذا أحسنت، وأخذها بمبدأ العقاب
١ رواه البخاري ٧/١٥٩. ومسلم "٢٧٠٦".
1 / 7
إذا توانت وقصّرت.
فإذا أحسنت أراحها، وأجمّها، وأرسلها على سجيتها بعض الوقت في المباح.
وإذا أساءت وقصّرت أخذها بالحزم والجد، وحرمها من بعض ما تريد.
على أنه لا يحسن المبالغة في محاسبة النفس; لأن ذلك قد يؤدي إلى انقباضها وانكماشها.
قال ابن المقفّع: ليحسن تعاهدك نفسك بما تكون به للخير أهلا، فإنك إن فعلت ذلك أتاك الخير يطلبك كما يطلب الماء السيل إلى الحدورة.
٥- التفكر في الآثار المترتبة على حسن الخلق: فإن معرفة ثمرات الأشياء، واستحضار حسن عواقبها- من أكبر الدواعي إلى فعلها، وتمثلها، والسعي إليها.
فكلما تصعّبت النفس فذكّرها تلك الآثار، وما تجني بالصبر من جميل الثمار; فإنها حينئذ تلين، وتنقاد طائعة منشرحة; فإن المرء إذا رغب في مكارم الأخلاق، وأدرك أنها من أولى ما اكتسبته النفوس، وأجل غنيمة غنمها الموفقون- سهل عليه نيلها واكتسابها.
1 / 8
٦- النظر في عواقب سوء الخلق: وذلك بتأمل ما يجلبه سوء الخلق من الأسف الدائم، والهم الملازم، والحسرة والندامة، والبغضة في قلوب الخلق; فذلك يدعو المرء إلى أن يقصر عن مساوئ الأخلاق، وينبعث إلى محاسنها.
٧- الحذر من اليأس من إصلاح النفس: فهناك من إذا ابتلي بمساوئ الأخلاق ظن أن ذلك الأمر ضربة لازب لا تزول، وأنه وصمة عار لا تنمحي.
وهناك من إذا حاول التخلص من عيوبه مرة أو أكثر فلم يفلح- أيس من إصلاح نفسه، وترك المحاولة إلى غير رجعة.
وهذا الأمر لا يحسن بالمسلم، ولا يليق به أبدا; فلا ينبغي له أن يرضى لنفسه بالدّون، وأن يترك رياضة نفسه; زعما منه أن تبدّل الحال من المحال.
بل ينبغي له أن يقوّي إرادته، ويشحذ عزمته، وأن يسعى لتكميل نفسه، وأن يجدّ في تلافي عيوبه; فكم من الناس من تبدّلت حاله، وسمت نفسه، وقلّت عيوبه; بسبب دربته، ومجاهدته وسعيه، وجدّه، ومغالبته لطبعه.
قال ابن المقفع: وعلى العاقل أن يحصي على نفسه
1 / 9
مساويها في الدين، والأخلاق، وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدره، أو في كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه، ويكلفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفا من إصلاح الخلّة أو الخلتين في اليوم، أو الجمعة، أو الشهر.
فكلما أصلح شيئا محاه، وكلما نظر إلى محو استبشر، وكلما نظر إلى ثابت اكتأب.
٨- علو الهمة: فعلو الهمة يستلزم الجد، والإباء، ونشدان المعالي، وتطلاب الكمال، والترفع عن الدنايا، والصغائر، ومحقرات الأمور.
والهمة العالية لا تزال بصاحبها تضربه بسياط اللوم والتأنيب، وتزجره عن مواقف الذل، واكتساب الرذائل، وحرمان الفضائل حتى ترفعه من أدنى دركات الحضيض إلى أعلى مقامات المجد والسؤدد.
قال ابن القيم ﵀: فمن علت همته، وخشعت نفسه اتصف بكل خلق جميل، ومن دنت همته، وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل.
وقال- ﵀: فالنفوس الشريفة لا ترضى من
1 / 10
الأشياء إلا بأعلاها، وأفضلها، وأحمدها عاقبة.
والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار; فالنفوس العليّة لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة، ولا بالخيانة; لأنها أكبر من ذلك وأجل.
والنفوس المهينة الحقيرة الخسيسة بالضد من ذلك.
فإذا توفر المرء على اقتناء الفضائل، وألزم نفسه على التخلق بالمحاسن، ولم يرض من منقبة إلا بأعلاها، ولم يقف عند فضيلة إلا وطلب الزيادة عليها، واجتهد فيما يحسن سياسة نفسه عاجلا، ويبقي لها الذكر الجميل آجلا- لم يلبث أن يبلغ الغاية من التمام، ويرتقي إلى النهاية من الكمال، فيحوز السعادة الإنسانية، والرئاسة الحقيقية، ويبقى له حسن الثناء مؤبدا، وجميل الذكر مخلّدا.
٩- الصبر: فالصبر من الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها الخلق الحسن; فالصبر يحمل على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم، والأناة، والرفق، وترك الطيش والعجلة.
1 / 11
وقلّ من جدّ في أمر تطلّبه
واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
١٠- العفة: فهي تحمل على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمل على الحياء وهو رأس كل خير، وتمنع من الفحشاء، والبخل، والكذب، والغيبة، والنميمة.
١١- الشجاعة: فهي تحمل على عزة النفس، وإباءة الضيم، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس، وقوّتها على إخراج المحبوب ومفارقته.
وهي تحمل صاحبها على كظم الغيظ، والحلم; فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها بلجامها عن النزق والطيش.
١٢- العدل: فهو يحمل على اعتدال الأخلاق، وتوسطها بين طرفي الإفراط والتفريط; فيحمل على خلق الجود الذي هو توسط بين البخل والإسراف، وعلى خلق التواضع الذي هو توسط بين الذلة والكبر، وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم
1 / 12
الذي هو توسط بين الغضب، والمهانة وسقوط النفس.
١٣- تكلّف البشر والطلاقة، وتجنّب العبوس والتقطيب: قال ابن حبان ﵀: البشاشة إدام العلماء، وسجية الحكماء; لأن البشر يطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي.
وقال أبو جعفر المنصور: إن أحببت أن يكثر الثناء الجميل عليك من الناس بغير نائل- فالقهم ببشر حسن.
قيل للعتابي: إنك تلقى الناس كلهم بالبشر!
قال: دفع ضغينة بأيسر مؤونة، واكتساب إخوان بأيسر مبذول.
وقال محمد بن حازم:
وما اكتسب المحامد حامدوها ... بمثل البشر والوجه الطليق
وقال آخر:
أخو البشر محبوب على حسن بشره ... ولن يعدم البغضاء من كان عابسا
وقال آخر:
البشر يكسب أهله ... صدق المودة والمحبة
1 / 13
والتّيه يستدعي لصا ... حبه المذمة والمسبة
وقال ابن عقيل الحنبلي ﵀: البشر مؤنّس للعقول، ومن دواعي القبول، والعبوس ضده.
بل إن تبسم الرجل في وجه أخيه المسلم صدقة يثاب عليها.
قال النبي ﵊: "تبسمك في وجه أخيك لك صدقة" ١.
وقال- ﵊: "لا تحقرنّ من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" ٢.
ومما ينبغي أن يعلم في هذا الصدد أن السرور يعتمد على النّفس أكثر مما يعتمد على الظروف الخارجية.
ويخطئ من يظن أن أسباب السرور كلّها في الظروف الخارجية، فيشترط; ليسرّ مالا، وبنين، وصحة، وظروفا مواتية ونحو ذلك من أسباب السرور.
١ أخرجه الترمذي "٩٥٦" وقال: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني في الصحيحة "٢٧٢"، وصحيح الجامع "٢٩٠٥". ٢ رواه مسلم "٢٦٢٦".
1 / 14
فإذا حصلت له أنس وسرّ، وإن لم تحصل له عبس، وقطّب، ونغّص على نفسه وعلى من حوله، وقال: على الدنيا العفاء.
لا، ليس الأمر كذلك; فالسرور نابع من النفس، والكرام يجودون بالبشر، والتبسم ولو كانت أسبابه بعيدة عنهم.
ومن أحكم ما قالته العرب:
ولربما ابتسم الكريم من الأذى ... وفؤاده من حرّه يتأوّه
فالابتسام للحياة يضيؤها، ويعين على احتمال مشاقها.
والمبتسمون للحياة أسعد الناس حالا لأنفسهم ومن حولهم.
بل هم مع ذلك أقدر على العمل، وأكثر احتمالا للمسؤولية، وأجدر بالإتيان بعظائم الأمور التي تنفعهم، وتنفع الناس; فذو النفس الباسمة المشرقة يرى الصعاب فيلذّه التغلب عليها، ينظرها فيبتسم، وينجح فيبتسم، ويخفق فيبتسم.
وذو النفس العابسة المتجهّمة لا يرى صعابا، فيوجدها، وإذا رآها أكبرها، واستصغر همته بجانبها، فهرب منها،
1 / 15
وطفق يسب الدهر، ويعاتب القدر.
وإذا كان الأمر كذلك فأجدر بالعاقل ألا يرى إلا هاشّا باشّا، متهلّلا متطلّقا.
فإن كان ذلك سجية في المرء وطبعا- فليحمد الله، وليتعاهد هذه الخصلة الحميدة من نفسه.
وإلا فليجاهد نفسه على تكلّف البشر والطلاقة، وعلى تجنّب العبوس والتقطيب جملة; حتى تألف ذلك نفسه، وتأنس به أنس الرضيع بثدي أمه.
وحينئذ ترقّ حواشيه، وتلين عريكته، ويؤنس في حديثه، ويرغب في مجلسه.
ومن أعظم ما يعين على اكتساب تلك الخلّة الإقبال على الله ﷿ وطهارة القلب، وسلامة المقاصد، والبعد عن موطن الإثارة قدر المستطاع.
ومن ذلك قوة الاحتمال، ومحاربة اليأس، وطرد الهم والكآبة.
١٤- التغاضي والتغافل: فذلك من أخلاق الأكابر والعظماء، وهو مما يعين على استبقاء المودة واستجلابها، وعلى وأد العداوة وإخلاد المباغضة.
1 / 16
ثم إنه دليل على سموّ النفس، وشفافيتها، وهو مما يرفع المنزلة، ويعلي المكانة.
قال ابن الأثير متحدثا عن صلاح الدين الأيوبي: وكان ﵀ حليما حسن الأخلاق، متواضعا، صبورا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم مايكره، ولا يعلمه بذلك، ولا يتغير عليه.
وبلغني أنه كان جالسا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضا بسرموز فأخطأته١، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته، ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه; ليتغافل عنها.
وكان الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ﵀ كثير التغاضي عن كثير من الأمور في حق نفسه، وحينما يسأل عن ذلك كان يقول:
ليس الغبيّ بسيد في قومه ... لكنّ سيّد قومه المتغابي
١٥- الحلم: فالحلم من أشرف الأخلاق، وأحقها بذوي
١ السرموزة: نعل معروفة وهي كلمة فارسية معناها رأس الخف.
1 / 17
الألباب; لما فيه من سلامة العرض، وراحة الجسد، واجتلاب الحمد.
وحد الحلم ضبط النفس عند هيجان الغضب.
وليس من شرط الحلم ألا يغضب الحليم، وإنما إذا ثار به الغضب عند هجوم دواعيه كفّ سورته بحزمه، وأطفأ ثائرته بحلمه.
فإذا اتصف المرء بالحلم كثر محبوه، وقل شانئوه، وعلت منزلته، ووفرت كرامته.
هذا وستتضح بعض معالم الحلم في الفقرات الآتية إن شاء الله.
١٦- الإعراض عن الجاهلين: فمن أعرض عن الجاهلين حمى عرضه، وأراح نفسه، وسلم من سماع ما يؤذيه.
قال ﷿: ﴿خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين﴾ [الأعراف: ١٩٩] .
فبالإعراض عن الجاهلين يحفظ الرجل على نفسه عزتها; إذ يرفعها عن الطائفة التي تلذ المهاترة والإقذاع،
1 / 18
قال بعض الشعراء:
إني لأعرض عن أشياء أسمعها ... حتى يقول رجال إن بي حمقا
أخشى جواب سفيه لا حياء له ... فسل وظنّ أناس أنه صدقا
والعرب تقول: إن من ابتغاء الخير اتقاء الشّرّ.
وروي أنّ رجلا نال من عمر بن عبد العزيز، فلم يجبه، فقيل له: ما يمنعك منه؟.
قال: التقيّ ملجم.
١٧- الترفع عن السباب: فذلك من شرف النفس، وعلوّ الهمة، كما قالت الحكماء: شرف النفس أن تحمل المكاره كما تحمل المكارم.
قال رجل من قريش: ما أظن معاوية أغضبه شيء قط.
فقال بعضهم: إن ذكرت أمّه غضب.
فقال مالك بن أسماء المنى القرشي: أنا أغضبه إن جعلتم لي جعلا١، ففعلوا، فأتاه في الموسم، فقال له:
١ الجعل: هو الأجر على الشيء فعلا أو قولا. انظر لسان العرب ١١/١١١.
1 / 19
يا أمير المؤمنين إن عينيك لتشبهان عيني أمك.
قال: نعم كانتا عينين طالما أعجبتا أبا سفيان! ثم دعا مولاه شقران فقال له: أعدد لأسماء المنى دية ابنها; فإني قد قتلته وهو لا يدري.
فرجع، وأخذ الجعل، فقيل له: إن أتيت عمرو بن الزبير فقلت له مثل ما قلت لمعاوية أعطيناك كذا وكذا.
فأتاه فقال له ذلك، فأمر بضربه حتى مات.
فبلغ معاوية، فقال: أنا والله قتلته، وبعث إلى أمه بديته، وأنشأ يقول:
ألا قل لأسماء المنى أمّ مالك ... فإني لعمر الله أهلكت مالكا
وروي أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة خرج ليلة في السّحر إلى المسجد ومع حرسيّ، فمرّا برجل نائم على الطريق، فعثر به، فقال: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا; فهمّ الحرسيّ به، فقال عمر: مه; فإنه سألني: أمجنون أنت؟ فقلت: لا.
وقيل: وجاء رجل إلى الأحنف بن قيس فلطم وجهه، فقال: بسم الله، يا ابن أخي ما دعاك إلى هذا؟
1 / 20
قال: آليت١ن ألطم سيّد العرب من بني تميم.
قال: فبرّ بيمينك، فما أنا بسيدها، سيدها حارثة ابن قدامة.
فذهب الرجل فلطم حارثة، فقام إليه حارثة بالسيف فقطع يمينه.
فبلغ ذلك الأحنف، فقال: أنا والله قطعتها.
قال الأصمعي: بلغني أن رجلا قال لآخر: والله لئن قلت واحدة لتسمعن عشرا.
فقال الآخر: لكنك إن قلت عشرا لم تسمع واحدة!.
وشتم رجل الحسن، وأربى عليه، فقال له: أما أنت فما أبقيت شيئا، وما يعلم الله أكثر.
وقال الشافعي ﵀:
إذا سبني نذل تزايدت رفعة ... وما العيب إلا أن أكون مساببه
ولو لم تكن نفسي عليّ عزيزة ... لمكّنتها من كل نذل تحاربه
١ آليت: حلفت وأقسمت، والالية: الحلف.
1 / 21
١٨- الاستهانة بالمسيء: وذلك ضرب من ضروب الأنفة والعزة، ومن مستحسن الكبر والإعجاب.
حكي عن مصعب بن الزبير أنه لما ولي العراق جلس يوما لعطاء الجند، وأمر مناديه، فنادى: أين عمرو بن جرموز- وهو الذي قتل أباه الزبير- فقيل له: أيها الأمير، إنه قد تباعد في الأرض.
فقال: أويظن الجاهل أني أقيده- أي أقتص منه- بأبي عبد الله؟ فليظهر آمنا; ليأخذ عطاءه موفرا، فعدّ الناس ذلك من مستحسن الكبر.
ومثل ذلك قوله بعض الزعماء في شعره:
أو كلما طنّ الذباب طردته ... إن الذباب إذا عليّ كريم
وأكثر رجل من سب الأحنف وهو لا يجيبه، فقال السابّ: والله ما منعه من جوابي إلا هواني عليه.
وفي مثله يقول الشاعر:
نجا بك لؤمك منجى الذباب ... حمته مقاذيره أن ينالا
وشتم رجل الأحنف، وجعل يتبعه حتى بلغ حيّه، فقال
1 / 22