كانت كلمته هذه مثل الصاعقة تنقض علي، واسودت الدنيا في عيني ولم أدر ماذا أصنع. وشعرت عند ذلك أول مرة أنني واقف وجها لوجه أمام تيمور، وتمثلت لي كل قوته وكل سطوته وأحسست الخوف يملكني. لقد كنت من قبل أتأمل جبروته بالفكر وأسمع عن بطشه بالأذن، وأمقت كل هذا وأنا بعيد عنه، ولكني عند ذلك رأيت نفسي وضعفي أمام سلطانه الهائل، فخيم اليأس علي وشل حركتي.
فقمت منتفضا عن مقعدي، وقد شعرت بأنه لم يبق لي في جانبولاد مقام؛ فإني لا أستطيع البقاء فيها إلا إذا رضيت بأن أذهب إلى تيمور وأتمسح عند أقدامه.
وقمت إلى الصلاة، واتجهت إلى الله أن يسدد خطاي وأن ينقذني من الوساوس، فلما فرغت منها عدت إلى نفسي أحاسبها حسابا عسيرا. فهي التي زينت لي اتخاذ دار العلم مسرحا للهو، وهي التي جعلتني أفرط وأسف في سبيل الذهب. وامتلأ قلبي سخطا على ذلك المعدن الخسيس الذي أضلني؛ فإن الله لم يجعل سبيلا إلا على من ظلم وأخطأ. وأقبلت على صلاتي أستغفر فيها ربي من ذلك الإثم الذي وقعت فيه. وجعلت أناقش نفسي وأحاجها في الهجرة، وترجحت بي الميول بين المشقة وبين الكرامة، ولم أستطع أن أهتدي إلى رأي بينهما؛ إذ كان أحلى الخطتين مرا. وفيما كنت في حيرتي برقت لي بارقة من الأمل، فألقي في روعي عزم رأيت فيه فرصة الخلاص مما كنت فيه. بدا لي أن الهجرة نوع من الهروب، وأنني لا ينبغي لي أن أهرب حتى أبلي في سبيل الحق بلاء ألتمس فيه العذر لنفسي، فإذا اضطررت بعد ذلك إلى الهجرة لم أجد على نفسي سخطا أو لوما. فعزمت على أن أقيم في جانبولاد وأن أجاهد في سبيل الحق ما استطعت، وأن أقابل الجبروت بالتحدي، وأرفع رأسي كريما لا أحنيه لقوة ظالمة، فإذا أصابني من ذلك ما يصيب الشهداء كنت قد بلغت عذري. وامتلأ قلبي يقينا بأنني لن أخشى قوة الطغاة. فوالله إن الحق ليصرعهم لو نطق به من ملأه الإيمان.
وعزمت بعد ذلك على أن أصحح مكاني في جانبولاد، وأن أضع نفسي حيث كان يليق بها أن تكون. فإني لم أكن أقل من أصحاب الريش والأعلام. بل إنني كنت لا أرضى بأن أكون مساويا لهم. فإذا كان سادة جانبولاد قد تواضعوا على أن يجعلوا الأمر كله لأنفسهم، فلن أسمح بأن أكون دونهم في شيء. عزمت على أن أدخل نفسي قسرا إلى المكان الذي يليق بي. وما كان لمثلي إلا أن يكون في المحل الكريم. وما كدت أستقر على هذا الرأي حتى أخذت في الاستعداد له، واجتهدت فيه اجتهادا كبيرا.
الفصل الثامن عشر
كانت الأعلام في جانبولاد لا ترفع طبعا إلا إذا ملأ الناس قدورا من الذهب بعددها، ولكن ما لي وللذهب؟ قد رسم السادة خطتهم على أن يجعلوا الذهب وقفا عليهم، فكانت النتيجة أن الذكاء والعلم والأدب والخير والفضل لم يصبها منه شيء؛ إذ لم تجعل لها قيم في خطتهم المرسومة. وما كنت لأقيد نفسي بقواعدهم منذ عزمت على أن أطيع الحق وحده، ولا أنظر إلا إلى جوهر الأشياء، فلو أنصف الناس لجعلوا المكان الأول في القيم كلها للذكاء والفضل وأمثالهما مما ضاع قدره في جانبولاد.
ومهما يكن من الأمر فقد استقر رأيي على أن أستغني عن الذهب وأتخذ لنفسي معيارا رمزيا أجازي به الأفعال بما تستحقه. والذهب بعد التفكير لا يزيد على أنه معدن مثل كل معادن الأرض؛ فهو كالحجر لا يزيد على أنه من عناصر الطين، وهو لا يستحق كل هذه العناية التي يحيطونه بها؛ إذ هو لا يؤكل ولا يشرب ولا يلبس، وشربة واحدة من الماء في الصحراء تكون أغلى من كل ذهب الأرض. وإذا كان المقصود إنما هو وضعه في القدور وختمها بعد ذلك، فلن يضير القدور شيء إذا ملئت بشيء آخر كالحصا أو الحجارة ، ولن تكون قدر من الخزف خيرا من أخرى لأن واحدة مختومة على ذهب والأخرى مختومة على حجارة.
فعمدت إلى قرطاس كتبت عليه أنواعا من العمل، وكتبت أمام كل منها ما يستحقه من وزن الذهب لو أنصف الناس، ثم عمدت إلى قرطاس آخر كتبت عليه أنواعا من النقص أو الظلم أو أعمال السوء، وجعلت ما يقابلها من العقوبة مقدرا بوزن الذهب. وعزمت على أن أحاسب نفسي على أعمالها جميعا، فأقدر ما قدمت من خير وأجعل لكل عمل من ذلك وزنا ألقيه في قدر - أقصد وزنا من الحصى بدلا من الذهب. فإذا ما امتلأت قدر ختمتها ورفعت على داري علما، وكلما ملأت أخرى وختمتها رفعت علما آخر. ولم أنس محاسبة نفسي على ما تجترم من الذنوب، فعزمت على أن أنقص من القدور ما يعادل قيمة عقوبتها على آثامها، حتى لا يبقى فيها إلا وزن ما هو باق لي من الحسنات الخالصة. وكنت في ذلك متحرجا متأثما؛ فإن الله قد وعدنا - معاشر البشر - لما علم من ضعف الطبيعة الإنسانية أن نجزى على الحسنة بعشرة أمثالها، وألا نجزى على السيئة إلا بمثلها، فبالغت في الحيطة، وجعلت الحسنة والسيئة سواء في الأجر والعقوبة.
ولأضرب مثلا مما وضعت من القيم لأبين أنني لم أغال في التقدير؛ فقد جعلت لإطعام الفقير وزن حبة من الرمل، ولعيادة المريض وزن حصاة صغيرة؛ فإن هذه من الواجبات التي لا ينبغي لأحد أن يطلب عليها الأجر. وجعلت لكتابة رسالة في الأخلاق وزن حصاة كبيرة، ولكتابة رسالة في التاريخ وزن درهم؛ لأنه سجل الأمم، وهو يعلم الناس أن الحياة تفنى ولا يبقى على الدهر إلا الخير، وأن الظلم مرتعه وخيم، وأن العسف لا يقيم الدول إلا إلى حين. وجعلت لكتابة القصة وزن أقة؛ لأن القصة لا يقدر عليها إلا من وهب الله له من فضله. ولم يكن في تقديري مبالغة؛ فإن الخلفاء العظماء كانوا فيما مضى يجيزون الشعراء بمئات الألوف من الدراهم على أبيات في المدح الكاذب، أو في وصف الخمر واللهو ، فإذا أنا جعلت للقصة وزن أقة واحدة من الذهب لم أكن مغاليا. وجعلت لتعليم الناس قدرا كاملة. نعم! قدرا كاملة؛ فالتعليم يطهر النفوس ويبني أساس المستقبل ويفهم الناس معنى الإنسانية. فإذا خرج المعلم رجلا كاملا أضاف به إلى الأمة ثروة لا تقدر بمال. وما كنت لأبخس التعليم حقه وأنا أعرف قيمته، ولن يضيرني أن تيمور وعلية جانبولاد لا يعرفون له قدره؛ فإن الحقائق لا يستطيع إدراكها إلا من يسمو بذكائه إلى المعاني العليا.
ولما انتهيت من ذلك أخذت في إعداد القدور والحصى، واستطعت أن أملأ لنفسي قدرين كبيرتين، ثم عمدت إلى ثوب فقددت منه ما يكفي لصنع علمين، فما أتى العصر حتى كان علمان أصفران بديعان يخفقان في الهواء فوق داري.
صفحة غير معروفة