لقد عشت حياتي أطلب الستر، وأخشى فضول الناس، وكم كابدت في إخفاء فقري، وكم عانيت من المشقة في التجمل والتعفف، ثم يجيء هذا الرجل يطلب ثلاثين درهما فيفضحني؟! هذه ساقيتي لا تخرج ماء ولكني حرصت على أن تبقى دائرة حتى لا يقال إنني وقفتها عجزا. وهذه حديقتي لا تثمر ولا أرضى أن أبيع منها قيراطا خوف أن يشمت الناس بي. كان يكفيني من ساقيتي نعيرها، ويكفيني من حديقتي اتساعها طلبا للستر في أعين الناس. فهل كان يجمل بي أن أعتذر للرجل عن ثلاثين درهما فأطلعه بذلك على رقة حالي وقلة ذات يدي؟ هذا محال. ثم كيف أتركه يطلق امرأته من أجل مبلغ زهيد؟ فلا بد من الاحتيال في الأمر وإن كلفني شططا. وأخذت أعد ما عندي من الأموال فلم أجد سوى الثور الذي يدور بساقيتي، فقلت في نفسي: «أبيعه يوم السوق وأقرض جاري من ثمنه، فأبلغ عنده عذري، فإذا رد الدين لم أعدم ثورا آخر أشتريه.»
دارت كل هذه الأفكار في رأسي وأنا مطرق صامت، ووجه صديقي أبي النور يحمر حينا ويصفر حينا، ووجهي يسخن ساعة ويبرد أخرى. ونظرت إلى عيني أبي النور فرأيت فيهما دمعتين حائرتين كأنه أدرك كل ما يجول في نفسي، فمال إلي وقال هامسا: ما كلف الله نفسا إلا وسعها، ولا يسع المقل إلا الاعتذار.
فشجعني قوله، فنظرت إلى ضيفي وقلت مرتبكا: ليس عندي الآن ما تطلب يا سيدي، فإذا كنت تنتظر علي حتى أبيع هذا الثور يوم السوق ...
فقاطعني الحاج قائلا: ولكن فيم الانتظار إلى يوم السوق؟ إن الثور الذي يباع في السوق يمكن أن يباع لحما في البيت؛ فأنت تقدر على بيع لحمه أقة أقة، ورطلا رطلا، ثم تربح من بيعه ما كان يربحه التاجر.
فوقعت هذه الفكرة كأنها الصدمة على أم رأسي.
أثوري يباع لحما؟ أيذبح هذا الثور في بيتي وأرى الدم يجري من عنقه؟ أأراه على الأرض يتخبط ويفحصها بحوافره؟ لقد بقي عندي تلك السنين كلها يدور بساقيتي ويشقى ليطربني بنعيرها في ليالي القمر الساكنة، وأنا لا أقوى على أن أرى فرخة تذبح، وكنت دائما أتعمد أن أنام يوم عيد الأضحى حتى تذبح شاة الضحية وتسلخ وتجهز للأكل. فكيف أقوى على أن أرى هذا الهيكل الضخم يخر كما يخر الجبل وينحر أمام عيني؟!
لقد كان خادما مخلصا وصديقا قويا، ولو رأيت أحدا يريد أن يؤذيه لوقفت أدافع عنه إذا لم يدافع هو عن نفسه بقرنيه. فقلت للرجل في حزم: لا، لا، هذا لا يكون.
فقال الحاج في إصرار: إذا كنت لا تحب أن يتدخل الجزار في الأمر فإني أقدر أن أذبح وأن أسلخ، وليس عليك إلا أن تأخذ اللحم وتبيعه. أين هذا الثور؟
قال هذا ثم ذهب مسرعا إلى مربط الثور في جوار الساقية، فنظرت إلى صديقي أستوحيه ماذا أفعل، ولكن صديقي نظر إلي متعجبا وقال: أهكذا يكون الاقتراض؟
فقمت حائرا لألحق بالرجل، ولكن رجلي ما كادتا تحملاني، وسار أبو النور إلى جانبي وقد أوقعت المفاجأة الحيرة في قلبينا. فلما بلغنا مربط الثور رأينا عجبا. ولست أدري كيف استطاع الرجل في مثل هذه اللحظات أن يتم كل هذا! كان الثور يتخبط على الأرض في دمه، فغطيت وجهي بيدي وخرجت مسرعا ولم تسعفني الدموع، فوقفت جامدا وجاء أبو النور فوقف إلى جانبي.
صفحة غير معروفة