فاختلطت الأقوال ولم أعرف كيف أجيب. قال قائل: «الحقها عند النهر.» وقالت جماعة: «إنها غرقت.» وصاح آخرون: «قد دقت علينا الأبواب.» وقال شاب خبيث: «أتتزوج عليها؟ أما تخجل؟» فاندفع النساء يصرخن في وجهي: «يا سم! أغرق نفسك وراءها يا قاتل.»
فلم أملك نفسي وشعرت كأنني أجرمت، وعلاني خجل واضطراب، واندفعت بين الجمع فإذا بي أنساق مع تيار جارف من الناس حتى بلغنا جانب النهر، وتفرق الجمع كل في جهة، فبعضهم يجري على الشاطئ، وبعضهم يخلع نعليه فيخوض في الماء، وصاحت امرأة: «غوصوا في الماء، فإنها تحته بلا شك.» وصاحت أخرى: «بل لقد حملها التيار معه، فانحدروا أسفل النهر.»
وصاحت ثالثة سليطة اللسان: «ما لك واقفا يا جحا كالحجر؟ انزل إلى الماء وابحث عنها.»
ولكني كنت أعلم الناس بامرأتي ريمة؛ فإن الناس إذا أرادوا الغرق قذفوا بأنفسهم في الماء، وأما هي فلم يكن عندي شك في أنها تفعل غير ذلك. والناس إذا غرقوا نزلوا إلى القاع ولكنها لا يمكن أن تغوص، والتيار يحمل الغرقى معه إلى أسفل النهر، ولكنها إذا غرقت لم تنس العناد، فلا شك في أنها تجعل التيار يحملها مكرها إلى أعلى النهر. هذا ما أعرفه في امرأتي؛ ولذلك لم أبال شيئا مما قاله الناس، ونزعت نفسي من بينهم، وأخذت أعدو نحو أعلى النهر. فلحق بي شبان منهم يريدون أن يردوني إلى ناحية أسفل المجرى ظنا منهم أنني أخطأت في اتجاهي، وظن بعضهم أنني قصدت الهروب، فصحت فيهم وقد غضبت: دعوني أيها الحمقى، فأنا أعرف منكم بامرأتي، إنها إذا أرادت الغرق فلن تتجه إلا نحو منبع النهر.
وكان الموقف لا يحتمل ضحكا ولا فكاهة، ولكني سمعت من الشبان ضحكا كأنني كنت أمازحهم، فزاد غضبي، ونزعت نفسي من بينهم وجريت نحو أعلى النهر، وتركتهم في شغل من ضحكهم يعيدون كلماتي ويتفكهون بها.
ولما وجدت نفسي وحيدا سرت على مهل وتنفست مرتاحا، وجعلت أقلب وجهي في شطآن النهر، وكانت الأعشاب تغطيها غضة خضراء، والزهر يوشيها والطير يزقزق فوق أغصان الصفصاف والسرو. وكان جمال المنظر يبعثني على إطالة السير، ولم يخجل قلبي من خطرات خطرت عليه من ذكر الحبيبة ابنة علاء الدين. وفيما كنت سائرا أجيل بصري في هذا الحسن الباهر لاح لي سواد تحت شجرة على نحو مائة ذراع مني. فظننت ذلك إنسانا وقصدت إليه لعلي أرى جثة ريمة امرأتي صاعدة في النهر، وما كان أشد عجبي عندما بلغت الشجرة؛ إذ وجدت أن ذلك السواد هو امرأتي ريمة نفسها، وكانت جالسة على الشاطئ تدلي رجليها في الماء وتحك قدما على أخرى، وفي يدها قطعة من قثاء تأكلها، فلم أتمالك أن صحت بها حانقا: لقد صدق ظني!
فالتفتت إلي وكان وجهها يشع شماتة وخبثا وصاحت: أي ظن هذا الذي صدق؟
فقلت غاضبا: كل الخلق يغرقون في الماء وأنت تغرقين فوق الشط، وكل الغرقى يحملهم التيار إلى أسفل النهر، وأما أنت فإنك تصعدين إلى أعلاه.
فقامت واثبة واستعدت لهجمة من هجماتها، ولكني كنت ثائرا والشرر يتطاير من عيني، فصحت بها: هلمي!
فلم تجرؤ على مهاجمتي، وسارت ورائي في انكسار حتى عدنا إلى القوم، وكانوا لا يزالون يبحثون عنها في الماء متجهين إلى أسفل النهر خطوة خطوة، فلما رأونا مقبلين سارعوا إلينا، واختلطت أسئلتهم حتى لم أسمع منها سؤالا، فقطعت عليهم سبيل الفضول، وقلت لهم في حزم: لقد كنت أعلم منكم بامرأتي.
صفحة غير معروفة