الوسطية في ضوء القرآن الكريم
الناشر
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
تصانيف
القضية التي يعالجها البحث
مفهوم الوسطيَّة وحقيقتها ضلَّ فيها كثيرون، وبيان ذلك كما يلي:
١- هناك من فهم أن الوسطيَّة تعني التَّنازل والتَّساهل، فإذا رأوا مسلمًا قد التزم الصّراط المستقيم، وسار على هدي النبوَّة، قالوا له: لماذا تُشدِّد على نفسك وعلى الآخرين ودين الله وسط؟ ولذلك نجد في واقعنا المعاصر أن أكثر الذين يُرمَون بالتَّطرف والغلوّ وأخيرًا بالأصوليَّة (١) هم من الذين التزموا بالمنهج على وجهه الصَّحيح.
ومن أسباب ذلك الجهل بحقيقة الوسطيَّة.
٢- وفي المقابل نجد فئة من المتحمِّسين المندفعين، يصفون أصحاب المنهج الحقّ، الذين لم يوافقوا هؤلاء على أفكارهم، ولم يسايروهم في حماسهم واندفاعهم يصفونهم بالتَّساهل والتَّهاون، وعدم الغيرة، بل وأحيانًا بالتَّنازل والممالأة.
ومنشأ ذلك - أيضًا - جهلهم بحقيقة الوسطيَّة، مع أنهم يدَّعونها، لكنهم لا يفهمونها على الوجه الصحيح.
٣- وهناك فئة ثالثة ليست من هؤلاء ولا أولئك، وهم حريصون على الالتزام بالمنهج الصحيح، ولكنَّهم يقعون في أخطاء أثناء ممارستهم للدعوة قولا أو فعلا، وسبب هذا الأمر عدم تصورهم لمنهج الوسطيَّة تصورًا شاملا، وقصرهم هذا المنهج على بعض آحاده.
_________
(١) - بعض من يطلق هذه الصفات، يطلقها لأغراض لا تخفى، والمشكلة أن هناك من يصدّق ما يقولون جهلا أو سذاجة، أما الذين يتجاهلون فلا يعنيهم هذا البحث.
1 / 1
٤- والنتيجة التي نتوصل إليها من ذلك كله أن هذا المنهج بحاجة إلى تفصيل وبيان، لا لخفائه في ذاته، بل هو أوضح من الشمس في رابعة النهار، ولكن خفاءه من الأمور النسبيَّة التي تعود إلى بُعد كثير من الناس عن منهج القرآن والسنة، وضعف حصيلتهم العلميَّة، وممارستهم التعبديَّة والدعويَّة.
والخلاصة أنَّ هذا البحث معنيُّ بإيضاح مفهوم الوسطيَّة، وتحديد مدلولها في ضوء القرآن الكريم، تعريفًا وتأصيلا، وتحديدًا، وتطبيقًا.
وهذا هو المعنى الشّامل الذي نفهمه من قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: من الآية ١٤٣) . فمن منطوق هذه الآية انْطَلَقْت، وفي ضوئها سرتُ وكتبتُ، ومن مفهومها موافقة ومخالفة حقَّقتُ وبيَّنتُ.
وكنت أضع القضيَّة التي جئت أعالجها نصب عيني في كل ما سطَّرتُ ودوَّنتْ.
1 / 2
مخطط البحث
بدأت البحث بتعريف الوسطيَّة، واشتمل هذا المبحث على ما يأتي:
١- الوسطيَّة في اللغة.
٢- استعمالات الكلمة في القرآن الكريم.
٣- أحاديث نبوية في (الوسط) .
٤- تحرير معنى الوسطيَّة.
ثم انتقلت إلى مبحث آخر وهو أسس فهم الوسطيَّة، واشتمل على ما يلي:
١- مقدمة لهذا المبحث.
٢- الغلو والإفراط.
٣- الجفاء والتفريط.
٤- الصّراط المستقيم.
ثم عقدت مبحثًا لبيان ملامح الوسطيَّة، وتضمّن الحديث عن الملامح التالية، بعد مقدمة المبحث:
١- الخيرية.
٢- الاستقامة.
٣- اليسر ورفع الحرج.
٤- البينيَّة.
٥- العدل والحكمة.
وأخيرًا ذكرت دليلا تطبيقيًّا يجمع هذه الملامح.
وهذه المباحث الثلاثة، تعتبر أركانًا أساسيَّة، ومنطلقات منهجيَّة لمعرفة حقيقة الوسطيَّة في حدودها الشرعيَّة، بل إن مضمون تلك المباحث هو المعيار الذي نستطيع من خلاله أن نعرف هل هذا الأمر وسطيًا أو هو يتضمَّن إفراطًا أو تفريطًا؟
وهي كذلك وسيلة للبحث عن المنهج الوسطيّ في كل قضية تعرض لنا، فمن خلال تلك المباحث نخرج المنهج وننقحه، ثم نحقّقه.
1 / 3
وبعد تحرير تلك الأصول والمنطلقات، عقدت أهمَّ مباحث الكتاب، وهو بيان تقرير القرآن الكريم لمنهج الوسطيَّة، حيث بيَّنت عناية القرآن بهذا المنهج، وذكرت الأمثلة التطبيقيَّة التي توضح ذلك، وجاء هذا الباب مشتملا على المباحث التالية:
١- مقدمة توضيحيَّة.
٢- وقفة مع سورة الفاتحة.
٣- منهج الوسطيَّة في الاعتقاد.
٤- منهج الوسطيَّة في التَّشريع والتَّكليف.
٥- منهج الوسطيَّة في العبادة.
٦- منهج الوسطيَّة في الشّهادة والحكم.
٧- منهج الوسطيَّة في الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر.
٨- منهج الوسطيَّة في الجهاد في سبيل الله.
٩- منهج الوسطيَّة في المعاملة والأخلاق.
١٠- منهج الوسطيَّة في كسب المال وإنفاقه.
١١- منهج الوسطيَّة في مطالب النفس وشهواتها.
وأخيرًا ذكرت بعض الشواهد المتفرِّقة التي تؤكد هذا المنهج وتبيِّنه.
وختمت البحث بخاتمة مناسبة ربطت فيها بين الهدف والنتيجة.
وبعد:
1 / 4
فقد بذلت جهدي في إخراج هذا الموضوع، فما كان فيه من حقّ وصواب فمن الله وحده ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ (البقرة: من الآية ٢٥٥) . ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ (النساء: من الآية ١١٣) . وما كان فيه من تقصير وخطأ فمن نفسي والشَّيطان، وأستغفر الله.
فلله الحمد والشكر والمنَّة، والثَّناء الحسن، على فضله، وتيسيره، وإعانته، وتوفيقه، ثم أشكر كل من أسهم في إخراج هذا البحث سواء كان إسهامًا مباشرًا أو غير مباشر (١) فلهم مني الشّكر وجميل الدّعاء.
والحمد لله أولا وآخرًا.
إن تجد عيبًا فسدَّ الخللا ... جلَّ من لا عيبَ فيه وعلا
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الطائف
٢٦ / ٣ / ١٤١٣ هـ
_________
(١) - أشكر الجامعة بصفة خاصة حيث فرَّغتني لمدة عام مما مكنني من إنجاز هذا البحث.
1 / 5
تعريف الوسطيَّة
الوسطيَّة في اللغة
جاءت كلمة (وسط) في اللغة لعدّة معانٍ، ولكنها مُتقاربة في مدلولها عند التأمّل في حقيقتها ومآلها.
قال ابن فارس: (وسط): الواو والسّين والطّاء: بناء صحيح يدلّ على العدل والنّصف.
وأعدل الشيء: أوسطه، ووسطه، قال الله ﷿ ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: من الآية ١٤٣) .
ويقولون: ضربتُ وَسَطَ رأسِه - بفتح السين - ووسْط القوم - بسكونها -، وهو أوسَطُهم حسبًا - إذا كان في واسطةِ قومه وأرفعهم محلا (١) .
ومن هذا الكلام يتَّضح أن (وسط) تأتي بفتح السّين وسكونها، وفتحها أكثر استعمالا كما سيأتي.
ويمكن إجمال المعاني التي جاءت تدلّ عليها هذه الكلمة فيما يلي (٢) .
١- (وسْط) بسكون السّين تكون ظرفًا بمعنى (بين)، قال في لسان العرب: وأمَّا الوسْط بسكون السّين فهو ظرف لا اسم، جاء على وزان نظيره في المعنى وهو (بين)، تقول: جلست وسْط القوم، أي: بينهم، ومنه قول سوار بن المضرب:
إنيّ كأنِّي أرى من لا حياء له ... ولا أمانة وسْط النَّاس عُريانًا
_________
(١) - انظر: معجم مقاييس اللغة مادة: (وسط) ٦ / ١٠٨.
(٢) - انظر تفصيل ذلك في المعاجم اللغوية، ووسطيَّة أهل السنَّة بين الفرق لمحمد باكريم - مخطوط - والوسطيَّة في الإسلام لزيد الزيد.
1 / 6
(١) قال د. زيد الزيد: وقد أشارت بعض المعاجم اللغوية إلى التفريق بين كلمة وسَط - بالتحريك - ووسْط بالسكون، فقالوا: إن كل موضع يصلح فيه (بين) فهو بالسّكون، وما لا يصلح فيه (بين) فهو بالفتح.
وقيل: كل منهما يقع موضع الآخر، قال ابن الأثير في غريب الحديث: وهو الأشبه (٢) .
وقال الزبيدي: وقديمًا كنت أسمع شيوخنا يقولون في الفرق بينهما كلامًا شاملا لما ذكر، وهو السّاكن متحرّك، والمتحرّك ساكن (٣) .
٢- وتأتي - وسَط بالفتح - اسمًا لما بين طرفي الشيء وهو منه، ومن ذلك: قبضْت وسط الحبل، وكسرت وسط القوس، وجلست وسط الدّار، وهذه حقيقة معناها كما ذكر ابن برّي (٤) .
٣- وتأتي - بالفتح أيضًا - صفة، بمعنى خيار، وأفضل، وأجود، فأوسط الشيء أفضله وخياره: كوسط المرعى خير من طرفيه، ومرعى وسط أي: خيار.
وواسطة القلادة: الجوهر الذي وسطها، وهو أجودها، ورجل وسط ووسيط: حسن (٥) .
٤- وتأتي وسط - بالفتح - بمعني عدل، قال ابن فارس: وسط: بناء صحيح يدلّ على العدل، وأعدل الشيء أوسطه ووسطه.
وقال ابن منظور: ووسط الشيء وأوسطه: أعدله.
وقال الفيروزآبادي: الوسط - محركة - من كل شيء: أعدله (٦) .
٥- وتأتي (وسط) بالفتح - أيضًا - للشيء بين الجيد والرديء.
_________
(١) - انظر لسان العرب مادة (وسط) (٧ / ٤٢٨) .
(٢) - انظر: الوسطيَّة في الإسلام ص (١٧) ومختار الصحاح مادة (وسط) (٧٢٠)، وغريب الحديث لابن الأثير (٥ / ١٨٣) .
(٣) - انظر: تاج العروس مادة (وسط) (٥ / ٣٤٠) .
(٤) - لسان العرب مادة (وسط) (٧ / ٤٢٧) .
(٥) - انظر: لسان العرب مادة (وسط) (٧ / ٤٢٧، ٤٣٠)، والصحاح مادة (وسط) (٣ / ١١٦٧)، ووسطيَّة أهل السنة ص٢.
(٦) - انظر: معجم مقاييس اللغة مادة (وسط) ولسان العرب مادة (وسط) والقاموس المحيط مادة (وسط) وسطيَّة أهل السُنَّة بين الفرق ص (٢) .
1 / 7
قال الجوهري: ويقال: شيء وسط: أي بين الجيد والرديء.
وقال صاحب المصباح المنير: يُقال شيء وسط، أي بين الجيد والرديء (١) .
ومنه ما ورد في الحديث: «ولكن من وسط أموالكم فإنّ الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرّه» (٢) .
٦- ويقال (وسط) لما له طرفان مذمومان، يراد به ما كان بينهما سالمًا من الذّمِّ، وهو الغالب.
قال الراغب: وتارة يُقال لما له طرفان مذمومان (٣) .
ومثال ذلك: السّخاء وسط بين البخل والتّبذير، والشّجاعة وسط بين الجبن والتهوُّر (٤) .
قال محمد باكريم (٥) وكيفما تصرّفت هذه اللفظة نجدها لا تخرج في معناها عن معاني العدل والفضل والخيرية، والنصف والبينيَّة، والتوسط بين الطرفين، فتقول: (وسوطًا): بمعنى المتوسّط المعتدل، ومنه قول الأعرابي: علمني دينًا وسوطًا، لا ذاهبًا فروطًا، ولا ساقطًا سقوطًا، فإن الوسط هاهنا المتوسّط بين الغالي والجافي (٦) .
و(وسيطًا) أي: حسيبًا شريفًا، قال الجوهري: وفلان وسيط في قومه، إذا كان أوسطهم نسبًا، وأرفعهم محلا، قال العرجي:
كأنّي لم أكن فيهم وسيطًا ... ولم تك نسبتي في آل عمرو
(٧) و(الوسيط): المتوسّط بين المتخاصمين (٨) .
و(التوسط): بين الناس من الوساطة (٩) وهي الشفاعة.
_________
(١) - انظر: مادة (وسط) في الصحاح، والمصباح المنير ص (٢٥٢)، ووسطيَّة أهل السُنَّة ص (٢ / ٣) .
(٢) - أخرجه أبو داود (٢ / ١٠٣، ١٠٤) رقم (١٥٨٢)، والطبراني في الصغير ص (١١٥) . والبيهقي في السنن (٤ / ٩٥) . وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (٣٠٤١) .
(٣) - انظر: المفردات في غريب القرآن، مادة: وسط ص (٥٢٢) .
(٤) - انظر: الوسطيَّة لفريد عبد القادر ص (٩) .
(٥) - وسطيَّة أهل السُنَّة ص (٣)، وانظر: لما سيأتي لسان العرب مادة (وسط) وتاج العروس مادة (وسط) والصحاح مادة (وسط) .
(٦) - لسان العرب مادة (وسط) (٧ / ٤٢٩) .
(٧) - الصحاح مادة (وسط) (٣ / ١١٦٧) .
(٨) - القاموس المحيط مادة (وسط) (٢ / ٤٠٦) .
(٩) - الصحاح مادة (وسط) (٣ / ١١٦٧) .
1 / 8
و(التوسيط): أي تجعل الشيء في الوسط (١) .
و(التوسيط): - أيضًا - قطع الشيء نصفين (٢) .
و(وسوط الشمس): توسّطها السماء (٣) .
و(واسطة القلادة): الجوهر الذي في وسطها، وهو أجودها (٤) .
وقال فريد عبد القادر: استقرّ عند العرب أنهم إذا أطلقوا كلمة (وسط) أرادوا معاني الخير، والعدل، والنصفة، والجودة، والرّفعة، والمكانة العليّة.
والعرب تصف فاضل النّسب بأنه وسط في قومه، وفلان من واسطة قومه، أي: من أعيانهم، وهو من أوسط قومه، أي من خيارهم وأشرافهم (٥) .
وأختم ما قيل في معنى الوسط بهذا الكلام للشيخ ابن عاشور، حيث قال أثناء تفسيره لقوله - تعالى -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: من الآية ١٤٣) .
_________
(١) - الصحاح مادة (وسط) (٣ / ١١٦٧) .
(٢) - الصحاح مادة (وسط) (٣ / ١١٦٧) .
(٣) - لسان العرب مادة (وسط) (٧ / ٤٢٩) .
(٤) - الصحاح مادة (وسط) (٣ / ١١٦٧) .
(٥) - انظر: الوسطيَّة ص (١٠)، وجمهرة اللغة لابن دريد (٣ / ٢٩)، والقاموس المحيط مادة (وسط) (٢ / ٣٩١)، وتهذيب اللغة مادة (وسط) (١٢ / ٢٦) .
1 / 9
والوسط: اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به، أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به، ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفًا، ولما كان الوصول إليه لا يقع إلاّ بعد اختراق ما يُحيط به، أخذ فيه معنى الصّيانة والعزّة؛ طبعًا: كوسط الوادي لا تصل إليه الرّعاة والدّواب إلا بعد أكل ما في الجوانب، فيبقى كثير العشب والكلأ، ووضعًا: كوسط المملكة يجعل محلّ قاعدتها، ووسط المدينة يجعل محل قصبتها؛ لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدوّ بسهولة، وكواسطة العقد لأنفس لؤلؤة فيه.
فمن أجل ذلك صار معنى النّفاسة والعزّة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفًا، فأطلقوه على الخيار النفيس كناية، قال زهير:
هم وسط يرضى الأنامُ بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل
ويقال: أوسط القبيلة، لصميمها.
وأمّا إطلاق الوسط على الصّفة الواقعة عدلا بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط، كالشّجاعة بين الجبن والتهوّر، والكرم بين الشُّحِّ والسرّف، والعدالة بين الرّحمة والقساوة، فذلك روى حديث: «خير الأمور أوسطها» وسنده ضعيف (١) .
وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صارا حقيقتين عُرفيَّتين (٢) .
_________
(١) - قال العجلوني في كشف الخفاء (٢ / ٣٩١): حديث: «خير الأمور أوسطها» وفي لفظ: «أوساطها» . قال ابن الغرس: ضعيف. وقال في المقاصد: رواه ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد، لكن بسند فيه مجهول عن علي مرفوعًا. وللديلمي بلا سند عن ابن عباس مرفوعًا: «خير الأعمال أوسطها» . وللعسكري عن الأوزاعي أنه قال: ما من أمر أمر الله به إلا عارض الشيطان فيه بخصلتين لا يبالي أيهما أصاب: الغلو أو التقصير. ولأبي يعلى بسند جيد عن وهب بن منبه، قال: إن لكل شيء طرفين ووسطًا، فإذا أمسك بأحد الطرفين مال الآخر، وإذا أمسك بالوسط اعتدل الطرفان، فعليكم بالأوساط من الأشياء.
(٢) - انظر: التحرير والتنوير (٢ / ١٧) .
1 / 10
ومن خلال ما سبق اتَّضح لنا المعنى اللغوي لكلمة (وسط)، وما تصرّف منها، وأنها تئول إلى معانٍ متقاربة.
1 / 11
أولا: كلمة "وسطًا":
وردت في قوله - تعالى - في سورة البقرة: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: من الآية ١٤٣) .
وقد ورد تفسير هذه الكلمة في السّنة النّبويَّة، كما ذكر لها المفسرون عدّة معانٍ، وتفصيل ذلك كما يلي:
١- روى البخاري عن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: قال رسول الله، ﷺ «يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمَّته: هل بَلَّغَكُم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، فيشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرّسول عليكم شهيدًا. فذلك قوله - جلَّ ذكره -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ . والوسط: العدل» (١) .
وروى الطبري بإسناده عن النبي، ﷺ في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: من الآية ١٤٣) قال: «عدولا» (٢) .
_________
(١) - أخرجه البخاري (٥ / ١٥١) . قال الحافظ في الفتح (٨ / ٢٢): قوله: «والوسط: العدل» هو مرفوع من نفس الخبر، وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما وهم فيه بعضهم.
(٢) - انظر: تفسير الطبري (٢ / ٧) . والحديث أخرجه الترمذي (٥ / ١٩٠) رقم (٢٩٦١) وأحمد (٣ / ٩) وعندهما «عدلا» بدل «عدولا» .
1 / 12
وقد ساق الطبري عددًا من الرِّوايات في هذا المعنى. ثم ذكر تفسير هذه الآية منسوبًا إلى بعض الصَّحابة والتَّابعين، كأبي سعيد ومجاهد وغيرهما، حيث فسَّروها بـ "عدولا".
وكذلك نقل تفسير ابن عباس لها "جعلكم أمة عدولا". وقال ابن زيد: هم وسط بين النبي، ﷺ وبين الأمم (١) .
٢- قال الإمام الطبري: وأمّا الوسط فإنه في كلام العرب: الخيار، يُقال منه: فلان وسط الحسب في قومه، أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرّفع في حسبه.
وهو وسط في قومه وواسط، قال ابن زهير بن أبي سُلمى في الوسط:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظَمِ
قال: وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء، الذي هو بين الطَّرفين، مثل وسط الدّار.
وأرى أن الله - تعالى ذكره - إنّما وصفهم بأنَّهم وسط لتوسّطهم في الدّين، فلا هم أهل غلوّ فيه، غلوّ النَّصارى الذين غلوا بالتَّرهُّب، وقيل هم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربِّهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها.
_________
(١) - انظر: تفسير الطبري (٢ / ٧) .
1 / 13
وأمَّا التأويل فإنَّه جاء بأن الوسط العدل - كما سبق - وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من الناس عدولهم (١) .
٣- قال ابن كثير (٢) وقوله - تعالى -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: من الآية ١٤٣) . الوسط هنا: الخيار والأجود، كما يُقال في قريش: أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها.
وكان رسول الله، ﷺ وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا.
ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصّلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصّحاح وغيرها.
وروى الإمام أحمد (٣) عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله، ﷺ «يدعى نوح يوم القيامة فيُقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيُقال لهم: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد، فيُقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، قال: فذلك قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ . قال: الوسط: العدل، فتُدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم» رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه (٤) .
٤- وقال ابن الجوزي في تفسيره لهذه الآية: سبب نزولها أن اليهود قالوا: قبلتنا قبلة الأنبياء، ونحن عدل بين الناس، فنزلت هذه الآية.
_________
(١) - انظر: تفسير الطبري (٢ / ٦) .
(٢) - انظر: عمدة التفسير عن ابن كثير (١ / ٢٦٣) . تحقيق أحمد شاكر.
(٣) - المسند (٣ / ٣٢) .
(٤) - انظر: صحيح البخاري (٥ / ١٥١) . سنن الترمذي (٥ / ١٩٠) رقم (٢٩٦١) سنن ابن ماجه (٢ / ١٤٣٢) رقم (٤٢٨٤)، ولم أجده في الصغرى من سنن النسائي، فلعله في الكبرى منه.
1 / 14
والوسط: العدل، قاله ابن عباس وأبو سعيد ومجاهد وقتادة.
وقال ابن قتيبة: الوسط: العدل والخيار، ومنه قوله - تعالى -: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾ (القلم: من الآية ٢٨) . أي: أعدلهم وخيرهم.
قال الشاعر:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
وأصل ذلك أن خير الأشياء أوسطها، والغلوّ والتقصير مذمومان.
قال أبو سليمان الدّمشقي: في هذا الكلام محذوف، ومعناه جعلت قبلتكم وسطًا بين القبلتين، فإن اليهود يصلون نحو المغرب، والنصارى نحو المشرق، وأنتم بينهما (١) .
٥- قال صاحب المنار: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: من الآية ١٤٣) . هو تصريح بما فهم من قوله: ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (البقرة: من الآية ٢١٣) . أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمّة وسطًا.
قالوا: إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تقصير وتفريط، وكلُّ من الإفراط والتَّفريط ميْلٌ عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسّط بينهما (٢) .
٦- وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي:
_________
(١) - انظر: زاد المسير (١ / ١٥٤)، وكلام أبي سليمان الدمشقي فيه غرابة، فإنه جعل الوسطيَّة وصفًا للقبلة، والصحيح أنها وصف للأمة كما ثبت في الصحيح، ثم إنه لم يكن هناك قبلتان قبل الكعبة، وإنما هي بيت المقدس فقط.
(٢) - انظر: تفسير المنار (٢ / ٤) .
1 / 15
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: من الآية ١٤٣) أي: عدلا خيارًا.
وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطًا في كل أمور الدّين، وسطًا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود، بأن آمنوا بهم كل على الوجه اللائق بذلك.
ووسطًا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى.
وفي باب الطّهارة والمطاعم، لا كاليهود الذين لا تصحّ لهم صلاة إلاّ في بِيَعهِمْ وكنائسهم، ولا يطهّرهم الماء من النَّجاسات، وقد حرّمت عليهم طيِّبات عقوبة لهم.
ولا كالنصارى الذين لا يُنجسّون شيئًا ولا يُحرّمون شيئًا، بل أباحوا ما دبَّ ودرج.
بل طهارتهم - أي هذه الأمة - أكمل طهارة وأتمّها، وأباح لهم الطيّبات من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح، وحرَّم عليهم الخبائث من ذلك.
فلهذه الأمّة من الدّين أكمله، ومن الأخلاق أجلّها، ومن الأعمال أفضلها.
1 / 16
ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا: ﴿أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: من الآية ١٤٣) كاملين معتدلين، ليكونوا: ﴿شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة: من الآية ١٤٣) بسب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على النَّاس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم (١) .
٧- وقال سيد قطب في تفسيره لهذه الآية:
وإنها للأمَّة الوسط بكل معاني الوسط، سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه الماديّ والحسيّ.
أمَّةً وسطًا في التصوّر والاعتقاد، أمَّةً وسطًا في التّفكير والشّعور، أمَّةً وسطًا في التَّنظيم والتَّنسيق، أمة وسطًا في الارتباطات والعلاقات، أمَّةً وسطًا في الزَّمان، أمَّةً وسطًا في المكان، ثم قال: وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنّها تخلَّت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتَّخذت لها مناهج مختلفة، ليست هي التي اختارها الله لها (٢) .
_________
(١) - انظر: تفسير كلام المنان (١ / ١٥٧) .
(٢) - انظر: في ظلال القرآن (١ / ١٣١) .
1 / 17
هذه أهمّ أقوال المفسِّرين في تفسير هذه الآية، ومن خلال هذا التفسير اتَّضحت معانٍ سيأتي اعتبارها عند الحديث عن منهج القرآن في تقرير الوسطيَّة في فصول لاحقة.
1 / 18
ثانيًا: كلمة "الوسطى"
وقد وردت هذه الكلمة في قوله - تعالى - في سورة البقرة: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ (البقرة:٢٣٨) وسأذكر أقوال المفسِّرين في هذه الآية ممَّا له علاقة مباشرة في معنى "الوسط" حيث سيتَّضح سبب تسميتها بذلك، هل لأنها متوسِّطة بين الصَّلوات، أو لأنَّها أفضل الصّلوات، أو لكليْهما معًا؟ دون الوقوف عند أي الصَّلوات هي، وما سيرد حول هذه القضيَّة فهو لبيان المعنى فقط.
١- ذكر الإمام الطبري أقوال العلماء في الصَّلاة الوسطى، وأطال في ذكر أدلَّة من قال: إنَّ الصّلاة الوسطى هي العصر، ثم قال بعد أن رجَّح أن الصَّلاة الوسطى هي العصر:
وإنما قيل لها الوسطى: لتوسّطها الصَّلوات المكتوبات الخمس، وذلك أن قبلها صلاتين، وبعدها صلاتين، وهي بين ذلك وسطاهنّ.
والوسطى: الفعلى من قول القائل: وسطت القوم أسطهم سطة ووسوطًا، إذا دخلت وسطهم. ويقال للذّكر فيه: هو أوسطنا، وللأنثى: هي وسطانًا (١) . وعندما ذكر قول من قال: إن (الوسطى) هي صلاة المغرب، وهي قول: قبيصة بن ذؤيب، عقَّب الطبري على ذلك قائلا:
_________
(١) - انظر: تفسير الطبري (٢ / ٥٦٨) .
1 / 19
ووجه قبيصة بن ذؤيب قوله: (الوسطى) إلى معنى التوسّط، الذي يكون صفة للشيء يكون عدلا بين الأمرين، كالرَّجل المعتدل القامة، الذي لا يكون مفرطًا طوله، ولا قصيرة قامته، ولذلك قال: ألا ترى أنَّها ليست بأقلِّها ولا أكثرها.
ومن أجل فهم كلام الإمام الطبري في تعقيبه على ابن ذؤيب أذكر كلام قبيصة بن ذؤيب، قال: الصلاة الوسطى: صلاة المغرب، ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تُقصر في السَّفر، وأنّ رسول الله، ﷺ لم يؤخِّرها عن وقتها ولم يُعجّلها (١) .
٢- وجه ابن الجوزي أقوال العلماء في المراد بالصَّلاة الوسطى قائلا: وفي المراد بالوسطى ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّها أوسط الصَّلوات محلا.
والثاني: أوسطها مقدارًا.
والثالث: أفضلها.
ووسط الشيء خيره وأعدله، ومنه قوله - تعالى -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: من الآية ١٤٣) .
فإن قلنا: إن الوُسطى بمعنى الفُضلى، جاز أن يدّعي هذا كل ذي مذهب فيها. وإن قلنا: إنَّها أوسطها مقدارًا، فهي المغرب، لأن أقل المفروضات ركعتان، وأكثرها أربعًا.
_________
(١) - انظر: تفسير الطبري (٢ / ٥٦٤) .
1 / 20