130

السيرة النبوية لابن هشام

محقق

طه عبد الرؤوف سعد

الناشر

شركة الطباعة الفنية المتحدة

زَمْزَمَ، فَقَالُوا: فَهَلْ بُيِّن لَكَ أَيْنَ هِيَ؟ قَالَ: لَا. قَالُوا: فَارْجِعْ إلَى مَضْجَعِكَ الَّذِي رَأَيْتَ فِيهِ مَا رَأَيْتَ؟ فَإِنْ يَكُ حَقًّا من الله يُبيَّن لك، وإن يكن مِنْ الشَّيْطَانِ فَلَنْ يعودَ إلَيْكَ. فَرَجَعَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إلَى مَضْجَعِهِ، فَنَامَ فِيهِ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: احْفِرْ زَمْزَمَ، إنَّكَ إنْ حَفَرْتهَا لَمْ تندمْ، وَهِيَ تُرَاثٌ مِنْ أَبِيكَ الْأَعْظَمِ، لَا تنزِف أَبَدًا وَلَا تُذَم، تَسْقِي الحجيجَ الْأَعْظَمَ، مثل نعام جافل لَمْ يُقْسَم، يَنْذِرُ فِيهَا نَاذِرٌ لِمُنْعِمٍ، تَكُونُ مِيرَاثًا وعَقْدًا مُحْكَم؟ لَيْسَتْ كبعضِ مَا قَدْ تَعْلَمُ، وَهِيَ بَيْنَ الفَرْثِ وَالدَّمِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا الْكَلَامُ، وَالْكَلَامُ الَّذِي قَبْلَهُ، مِنْ حديث عَلي فِي حَفْرِ زَمْزَمَ مِنْ قَوْلِهِ: "لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذَم" إلَى قَوْلِهِ: "عِنْدَ قَرْيَةِ النَّمْلِ" عِنْدَنَا سَجْعٌ وَلَيْسَ شِعْرًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَزَعَمُوا أَنَّهُ حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: وَأَيْنَ هِيَ؟ قِيلَ لَهُ عِنْدَ قَرْيَةِ النَّمْلِ، حَيْثُ يُنْقَرُ الغرابُ غَدًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أي ذلك كان.
عبد المطلب يحفر زمزم: فغدا عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَمَعَهُ ابنهُ الْحَارِثُ، وَلَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ غَيْرَهُ، فَوَجَدَ قريةَ النَّمْلِ وَوَجَدَ الغرابَ يَنْقُرُ عِنْدَهَا بَيْنَ الْوَثَنَيْنِ: إسَافٍ وَنَائِلَةٍ، اللذيْن كَانَتْ قُرَيْشٌ تَنْحَرُ عِنْدَهُمَا ذَبَائِحَهَا فَجَاءَ بالمِعْوَل وَقَامَ لِيَحْفِرَ حَيْثُ أُمِرَ، فَقَامَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ حِينَ رَأَوْا جِدَّه، فَقَالُوا: وَاَللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ تَحْفِرُ بَيْنَ وثَنَيْنا هَذَيْنِ اللَّذيْن نَنْحَرُ عِنْدَهُمَا، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ لِابْنِهِ الْحَارِثِ: ذُدْ عَنِّي حَتَّى أَحْفِرَ، فَوَاَللَّهِ لأمضينَّ لِمَا أُمِرْتُ بِهِ، فَلَمَّا عَرَفُوا أَنَّهُ غيرُ نَازِعٍ خَلَّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، وَكَفُّوا عَنْهُ، فَلَمْ يَحْفِرْ إلَّا يَسِيرًا. حَتَّى بَدَا لَهُ الطَّيُّ، فَكَبَّرَ وعَرِف أَنَّهُ قَدْ صُدق فَلَمَّا تَمَادَى بِهِ الْحَفْرُ وَجَدَ فِيهَا غزاليْن مِنْ ذَهَبٍ، وَهُمَا الْغَزَالَانِ اللَّذان دَفنت جُرْهم فِيهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ، وَوَجَدَ فِيهَا أَسْيَافًا قَلْعية وَأَدْرَاعًا فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ، لَنَا مَعَكَ فِي هَذَا شِرْك وَحَقٌّ، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ هَلُمّ إلَى أَمْرٍ نَصَفٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، نَضْرِبُ عَلَيْهَا بالقِداح، قَالُوا: وَكَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ: أَجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ قِدْحَيْن، وَلِي قِدْحَيْن وَلَكُمْ قِدْحَيْن فَمَنْ خَرَجَ لَهُ قِدْحاه عَلَى شَيْءٍ كَانَ لَهُ، وَمَنْ تخلَّف قِدْحَاهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ قَالُوا: أنصَفْت، فَجَعَلَ قِدْحين أَصْفَرَيْنِ للكَعبة، وقِدْحَيْن أَسْوَدَيْنِ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وقِدْحَيْن أَبْيَضَيْنِ لِقُرَيْشِ، ثُمَّ أَعْطَوْا القداحَ صاحبَ القداحِ الَّذِي يُضرب بِهَا عِنْدَ هُبل، وهُبل: صَنَمٌ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ أَعْظَمُ أَصْنَامِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي يَعْنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ قَالَ: أعْلِ هُبَل أَيْ أظهرْ دِينَكَ، وَقَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ

1 / 135