اللباب في فقه السنة والكتاب
الناشر
مكتبة الصحابة (الشارقة)
رقم الإصدار
الثانية
سنة النشر
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٤ م
مكان النشر
مكتية التابعين (القاهرة)
تصانيف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
إنَّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرهُ، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]، ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهدي هديُ محمدٍ ﷺ، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكل محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعة ضلالةٌ وكل ضلالةٍ في النار.
• ثم أما بعد:
قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا (^١) فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: ١٢٢].
وعن حُميد بن عبد الرحمن، قال: سمعتُ معاوية خطيبًا يقول:
سمعتُ النبي ﷺ يقول: "مَن يْرد اللهُ به خيرًا يُفقههُ في الدِّين، وإنما أنا قاسمٌ، والله يُعطي، ولن تزالَ هذهّ الأمَّةُ قائِمةً على أمرَ الله لا يضرُّهم من خالفَهم حتى يأتيَ أمرُ الله" (^٢).
_________
(^١) الفقهُ: هو التوصُّلُ إلى عِلْم غائب بعلمٍ شاهدٍ فهو أخصُّ من العلم قال تعالى: ﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٧٨]، والفقه العلم بأحكام الشريعة يُقال: فَقُهَ الرجل، فقاهةً إذا صار فقيهًا، وفقِهَ أي: فهم فقهًا؛ وفقهه؛ أي: فهمه وتفقه: إذا طلبه فتخصص به قال تعالى: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾.
[المفردات في غريب القرآن: للراغب الأصفهاني ص (٣٨٤)].
(^٢) وهو حديث صحيح: أخرجه البخاري رقم (٧١)، ومسلم رقم (١٠٣٧).
1 / 3
وعن ابن عباسٍ ﵄ أنَّ رسول الله ﷺ قال: "مَنْ يُرِدِ اللّهُ بهِ خيرًا يُفقِّههُ في الدين" (^١).
وقال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١)﴾ [المجادلة: ١١].
أي: إنَّ الله يرفع المؤمن العالم على المؤمن الجاهل في الدنيا بعلو المنزلة، وَحُسْنِ الصيت، وفي الآخرة بكثرة الثوابِ، المؤدي لِرفعة الدرجات في الجنة (^٢).
وعن عامر بن وَاثِلة: أنَّ نافع بنَ عبد الحارثِ لقيَ عُمَرَ بعُسْفَان (^٣)، وكان عمر يستعمله على مكة فقال: من استعملت على أهل الوادي فقال: ابنُ أَبْزَى، قال: ومن ابنُ أبْزَى، قالَ: مولى من موالينا، قالَ: فاستخلفتَ عليهم مواليَ، قالَ: إنِّهُ قارئ لكتابِ الله ﷿، وإنَّهُ عالمٌ بالفرائِض، قال عمر: أمَا إنَّ نبيكم ﷺ قد قال: "إنَّ اللّه يرفعُ بهذا الكتابِ أقوامًا، ويضعُ به آخرينَ" (^٤).
واعْتَدَّ الله ﷿ بشهادة أهل العلم في وحدانيته فقال:" ﴿شَهدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلم قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨].
فقرن الله ﷿ شهادتهم بشهادته، وشهادة الملائكة؛ وفي هذا رفْعٌ لقدر أهل العلم، وزيادة في شرفهم، وبيانِ فضلهم، وهم في كل زمان ومكان قادة وسادة، يردّون الناس إلى الله، ويدعونهم إليه، ويبعدونهم عن مخالفته وعصيانه، يقولون الحقَّ بلا خوف أو وجل.
_________
(^١) وهو حديث صحيح: أخرجه أحمد (١/ ٣٠٦)، والترمذي رقم (٢٦٤٥)، وقال: حديث حسن صحيح، والبغوي في "شرح السُّنَّة" (١/ ٢٨٥ رقم ١٣٢) وقال: حديث صحيح.
(^٢) "زاد المسير في علم التفسير"، لابن الجوزي (٨/ ١٩٣).
(^٣) وهي منهل من مناهل الطريق بين "الجحفة" و"مكة" وسُميَّتْ عُسْفَان؛ لتعسُّف السيل فيها. [معجم البلدان لياقوت الحموي (٤/ ١٢١ - ١٢٢].
(^٤) وهو حديث صحيح. أخرجه مسلم (٦/ ٩٨ - بشرح النووي) " وهو من الأحاديث التي تتبعها الدارقطني على مسلم في كتابه: "التتبع" ص (٣٨٣)، ولم يجب عنه النووي في شرحه لمسلم، قلت: إن هذا التتبع لا يخدشُ بصحة الحديث؛ لأن الدارقطني نفسه قال في كتابه "العلل" (٢/ ٩٨ - ١٩٩) وقد سئل عن هذا الحديث قال: "رواه الزهري، عن أبي الطفيل.،. ورواه حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الفضيل موقوفًا غير مرفوع … وحديث الزهري هو الصواب؛ لأن الزهري أحفظ من حبيب بن أبي ثابت، وكلاهما مدلس من الطبقة الثالثة، لكن الزهريَّ صرَّح بالتحديث فيترجح حديثه".
1 / 4
وقد حكى الله عن قارونَ وماله وكبريائه، وافتتان الناس به، وإنكار العلماء تمنى مثل ما أوتي، فقال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [القصص: ٨٠].
فمن رام الفلاحَ في الدنيا والآخرة، فعليه أن يخلص النية لله في طلب العلم، والتفقه في الدين، وقد حذر النبي ﷺ من عدم إخلاص النية لله في ذلك.
فعن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسولُ الله ﷺ: "من تعلَّم علمًا مما يُبتغى به وجْهُ الله، لا يتعلَّمُهُ إلَّا ليُصيب به عَرَضًا من الدُّنيا، لم يَجِدْ عَرْفَ الجنَّةِ يومَ القِيامةِ " يعني ريحها (^١).
وعن علي ﵁ أنه ذكر فِتنًا تكونُ في آخرِ الزمان فقال لَه عمرُ ﵁: متى ذلكَ يا عليُّ؟ قال: "إذا تُفُقه لغير الدِّين، وتُعلِّم العلمُ لغير العملِ، والْتُمِسَتِ الدُّنيا بعملِ الآخرة" (^٢).
وعن جابر بن عبد الله: أن النبي ﷺ قال: "لا تعلَّمُوا العلَم لتُباهُوا به العلماء، ولا لِتُمَاروا به السُّفَهاءَ، ولا تَخَيَّرُوا به المجالس، فمن فعلَ ذلكً فالَنَّارَ النَّارَ" (^٣).
ولقد جاء الحديث الصحيح يحمل الوعيد الشديد للثلاثة الذين أفسد الرياءُ أعمالهم، ونقلهم من ديوان المخلصين الصادقين إلى ديوان المرائين الكاذبين، فكانوا أول من تُسَعَّر
_________
(^١) وهو حديث صحيح: أخرجه أبو داود (١٠/ ٩٧ - مع العون)، وابن ماجه (١/ ٩٢ رقم ٢٥٢)، والحاكم (١/ ٨٥)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (٥/ ٣٤٦ - ٣٤٧) و(٨/ ٧٨)، وابن حبان (١/ ٢٤٥ - الإحسان) كلهم من طريق أبي يحيى فليح بن سليمان الخزاعي، وهو صدوق كثير الخطأ، (التقريب: ٢/ ١١٤)، ولكن يشهد له حديثُ جابر الذي أخرجه، وابن ماجه (١/ ٩٣ رقم ٢٥٤)، والحاكم (١/ ٨٦) وابنُ حبانَ (١/ ٢٤٤ - الإحسان).
وحديث أنس عند البزار (١/ ١٠١ رقم ١٧٨ - كشف) والخطيب في "اقتضاء العلم العمل" رقم (١٠١). وصححه الألباني ﵀ في "صحيح الترغيب والترهيب" (١/ ٤٦ رقم ١٠٠).
(^٢) وهو أثر صحيح: أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (١١/ ٣٦٠ رقم ٢٠٧٤٣)، والحاكم (٤/ ٤٥١) وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (١/ ٤٨ رقم ١٠٧).
(^٣) وهو حديث صحيح: أخرجه ابن ماجه (١/ ٩٣ رقم ٢٥٤)، وابن حبان في صحيحه (١/ ٢٤٤ - الإحسان)، والحاكم (١/ ٨٦)، وابن عبد البر في "الجامع" (١/ ١٨٧)، وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (١/ ١١٦)، "وكلهم من رواية يحيى بن أيوب الغافقي، عن ابن جريج عن أبي الزبير عنه، ويحيى هذا ثقة احتج به الشيخان وغيرهما، ولا يلتفت إلى من شذّ فيه".
قلت: إنّ ابن جريج وشيخه أبا الزبير مُدَلِّسانِ من المرتبة الثالثة، وقد عَنْعَناهُ، غيرَ أن الحديث صحيحٌ على كل حال، فإنَّ له شواهدَ يتقوى بها، وتتقوى به.
(منها): حديث ابن عمر الذي أخرجه ابن ماجه رقم (٢٥٣)، (ومنها) حديث أبي هريرة أيضًا أخرجه ابن ماجه رقم (٢٦٠)، و(منها) حديث كعب بن مالك الذي أخرجه الترمذي (٧/ ٤١٤ - مع التحفة)، وقد صحح الشيخ الألباني الحديث وشواهده في صحيح الترغيب رقم (١٠٢) و(١٠٤) و(١٠٥) و(١٠١).
1 / 5
بهم النارُ يوم القيامة، ومنهم: "رجلٌ تعلمَ العلم وعلَّمَهُ، وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفَهُ نعَمهُ فعرفها، قال: فما عَملتَ فيها؟ قال: تعَلمتُ العلم وعلمتهُ، وقرأت فيكَ القرآنَ، قَال: كذبت، ولكنك تعلمتَ العلمَ ليقالَ عالمٌ، وقرأتَ القرآنَ ليقالَ هو قارئٌ، فقد قيلَ، ثم أمر به فسحب على وجههِ حتىَ أُلقي في النَّارِ" (^١).
وقد ذكر لنا رسولُ الله ﷺ صورة مخيفةً من صور يوم القيامة لمن خالف عملُه علْمَهُ.
فعن أبي وائل قال: قال أسامة ﵁: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "يُجاءُ بالرجل يومَ القيامة فَيُلقى في النار، فتندلق أقتابُهُ في النار، فيدورُ كما يدورُ الحمارُ برحاه، فيجتمعُ أهلُ النار عليه فيقولون: أي فلانُ، ما شأنك؟ أليسَ كنتَ تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنتُ آمرُكم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيهِ" (^٢).
وعن لقمانَ - يعني: ابن عامر - قال: كان أبو الدرداء ﵁ يقول: "إنما أخشى من ربِّي يومَ القيامة أن يدعوني على رؤوس الخَلائق فيقول لي: يا عُويمر! - اسمه - فأقول: لبيك ربِّ، فيقول: ما عَمِلتَ فيما عَلِمتَ" (^٣).
وقال بعضهم (^٤):
اعملْ بعلمِكَ تغنمْ أيُّها الرجلُ … لا ينفعُ العلمُ إن لم يَحسُنِ العملُ
والعلمُ زينٌ وتقوى الله زينتُهُ … والمتقونَ لهم في علمهم شُغُلُ
وَحُجَّةُ الله يا ذا العلمِ بالغةٌ … لا المكرُ ينفعُ فيها لَا ولا الحيلُ
تعلَّمِ العلمَ واعمل ما استطعتَ به … لا يُلْهينَّكَ عنهُ اللَّهُو والجدَلُ
وقد أوجب الله على المسلمين اتباعَ الرسول ﷺ فيما يأمرُ وينهى، فقال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧].
_________
(^١) وهو حديث صحيح: أخرجه مسلم (٣/ ١٥١٣ رقم ١٩٠٥) من حديث أبي هريرة.
(^٢) وهو حديث صحيح: أخرجه البخاري رقيم (٣٢٦٧)، ومسلم رقم (٢٩٨٩).
(^٣) وهو أثر صحيح أخرجه البيهقي في "الشُّعَب" رقم (١٨٥٢) والدارميُّ (١/ ٨٢)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (٢/ ٢ و٣) وابن المبارك في الزهد رقم (٣٩).
(^٤) في كتاب: "اقتضاء العلم العمل" للخطيب البغدادي، تحقيق: المحدث العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ﵀ ص (١٧٤).
1 / 6
أي: ما أعطاكم الرسول ﷺ من الفيء فخذوه لكم حلالًا، وما نهاكم عن أخذه فانتهوا، "وَاتَّقُوا اللهَ" وفي أمر الفيء، "إنَّ اللهَ شديدُ الْعقَاب" إذا فعلتم ما نهاكم عنه الرسول ﷺ. هذا هو المعنى الأصلي للآية الذي يدلّ عليه السياق.
والآية وإن نزلت في الفيء فهي عامَّةٌ في كل شيء يأتي به رسولُ ﷺ من أمرٍ، أو نهي، أو قولٍ، أو فعلٍ، والسبب وإن كان خاصًّا فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكل شيء أتانا بهالله من الشرع؛ فقد أعطانا إياه، وأوصله إلينا.
فهذه الآية الكريمة نصٌّ صريح في أنّ كل ما أتانا به رسول الله ﷺ وبلغه إلينا من الأوامر وغيرها؛ سواءً كانت مذكورة في الكتاب، أي القرآن المجيد، أو السُّنَّة، أي كل ما صح رفعُه إلى النبي ﷺ: واجب علينا قبوله، وكذا كلُّ ما نهانا عنه من المنهيَّات والمنكرات المبيَّنة في الكتابِ أو السُّنَّة: واجب علينا اجتنابهُ والانتهاءُ عنه (^١).
وعن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: "لعَنَ الله الواشماتِ والمستوشمات (^٢)، والنَّامصاتِ والمتنمصات (^٣)، والمتفلِّجات (^٤) للحُسْن، المغيِّرات خلقَ الله. قال: فبلغ ذلك امرأةً من بني أسد يُقال لها أمُّ يعقوب، وكانت تقرأ القرآنَ، فأتَتْهُ فقالت ما حديثٌ بلغني عنك أنكَ لعنتَ الواشماتِ والمستوشمات، والمتنمِصات والمتفلجات للحُسْن، المغيِّرات خلق الله؟ فقال عبدُ الله: وما لي لا ألعنُ مَن لعنَ رسول الله ﷺ، وهو في كتاب الله؟ فقالت المرأةُ: لقد قرأتُ ما بين لَوْحَي المصحف فما وجدتُهُ؟ فقالَ: لئن كنتِ قَرَأتيه لقد وجدتيه، قال الله ﷿: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧] فقالت المرأة: فإنّي أرى شيئًا من هذا على امرأتِكَ الآن، قال: اذهبي فانظري، قال: فدخلت على امرأةِ عبد الله فلم تر شيئًا فجاءتْ إليه، فقالت: ما رأيتُ شيئًا، فقال: أَمَا لوْ كان ذلك لم نُجَامِعهَا" (^٥) " (^٦).
_________
(^١) "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (١٨/ ١٧ - ١٩).
(^٢) الواشمة: فاعلة الوشم، وهي أن تغرز إبرة أو مسلة أو نحوها في ظهر الكف أو المعصم أو الشفة أو غير ذلك من بدن المرأة حتى يسيل الدم، ثم تحشو ذلك الموضع بالكحل أو النورة فيخضر، فإن طلبت فعل ذلك بها: فهي مستوشمة.
(^٣) هي التي تُزيل الشعر من الوجه، والمتنمِّصة التي تطلب فعل ذلك بها.
(^٤) المتفلِّجات هن اللواتي يُعالجن أسنانهنَّ بعدما شرعن في السنِّ حتى يكون لها تحدد ورقة وأشرٌ، فيشبهن بالشوابِّ.
(^٥) أي: لم نصاحبها، ولم نجتمع نحن وهي بل كنا نطلقها.
(^٦) أخرجه مسلم في "صحيحه" (١٤/ ١٠٥ - ١٠٧ بشرح النووي).
1 / 7
قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [النساء: ٥٩].
والمعنى إن اختلفتم أيها المؤمنون في شيء من أمر دينكم، فرُّدوه إلى الله، أي: فارتادوا معرفة حكم ذلك الذي اشتجرتم فيه من كتاب الله، فإن لم تجدوا علمَ ذلك في كتاب الله، فارتادُوا معرفة ذلك عند رسول الله ﷺ إن كان حيًّا، أو بالنظر في سُنتهِ إن كان ميتًا (^١).
وعن أبي هريرة ﵁ أنه سمعَ رسولَ الله ﷺ يقولُ: "ما نَهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلُوا منه ما استطعتُم، فإنما أهلكَ الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم" (^٢).
وعن أبي رافع، عن النبي ﷺ قال: "لا ألفينَّ أحدَكم مُتَّكئًا على أريكته، يأتيه الأمرُ من أمري مما أَمَرْتُ به أو نَهيتُ عنه فيقولُ: لا ندري، ما وجدنا في كَتاب الله اتبعْنَاهُ" (^٣).
وقد حذّر اللّه تعالى من مخالفة أمر رسول اللّه ﷺ فقال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣].
وعن أبي موسى ﵁، عن النبي ﷺ قال: "إنما مَثَلي ومثلُ ما بعثني اللّه به كمثل رجل أتى أقوامًا فقال: يا قوم إني رأيتُ الجيشَ بعيني، وإني أَنا النذير العُرْيان (^٤)، فالنجاء، فأطاعَهُ طائفة من قومه فأدلَجوا (^٥)، فانطلقوا على مَهْلِهم فنَجَوا، وَكَذَّبت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحَهُم، فذلك مثلُ من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثلُ من عصاني وكذَّب بما جئتُ به مَن الحقِّ" (^٦).
_________
(^١) "الجامع لأحكام القران"، للقرطبي (٥/ ٢٦١ - ٢٦٢).
(^٢) وهو حديث صحيح: أخرجه مسلم في صحيحه (٤/ ١٨٣٠ رقم ١٣٣٧).
(^٣) وهو حديث صحيح: أخرجه أبو داود (١٢/ ٣٥٦ - مع العون)، والترمذي (٧/ ٤٢٤ - مع التحفة)، وقال: "حديث حسن"، وفي بعض النسخ: "حسن صحيح"، وابن ماجه (١/ ٧ رقم ١٣)، والبغوي في "شرح السُّنَّة" (١/ ٢٠٠ - ٢٠١)، وقال: "هذا حديث حسن"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (٧١٧٢).
(^٤) وهو رجل من خَثْعَم، حمل عليه يوم ذي الخَلَصة .. فقطع يده ويدَ امرأته، … "لسان العرب" (١٥/ ٤٨)، أو هو ربيئة القوم وعينُهم يكون في مكانٍ عالٍ، فإذا رأى العدو قد أقبل نزع ثوبه، وألاح به لينذر قومه ويبقى عُريانًا، (النهاية: ٣/ ٢٢٥).
(^٥) معناه: ساروا من أول الليل.
(^٦) وهو حديث صحيح: أخرجه البخاري رقم (٧٢٨٣)، ومسلم رقم (٢٢٨٣).
1 / 8
وقرن الله طاعة الرسول ﷺ بطاعته في آيات كثيرة من القران الكريم فقال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)﴾ [آل عمران: ١٣٢].
وعن أبي هريرة ﵁، أنَّ رسول الله ﷺ قال: "كلُّ أمتي يدخلونَ الجنَّةَ إلَّا من أبى" قالوا: يا رسول اللّه ومن يأبى؟، قال: "من أطاعني دخل الجنَّة، ومن عصاني فقد أبى" (^١).
كما حثّ الله - سبحانه - على الاستجابة لما يدعو إليه النبي ﷺ فقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٤].
ولم يبحْ للمؤمنين مطلقًا أن يخالفوا حكمه ﷺ أو أمرًا من أوامره، فقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: ٣٦].
واعتبر ﷾ من علامات النفاقِ: الإعراضَ عن تحكيم الرسول ﷺ في مواطنِ الخلاف، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [النور: ٤٨ - ٥٠].
وأقسم تعالى على نفي إيمان من لم يُحَكِّمِ الرسولَ ﷺ، فقال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥].
وأخيرًا فمهمةُ السنة النبوية بالنسبة للقرآن الكريم تبيين المجمل، وتفسير المشكل، وتخصيص العام، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٤٤] فبيانُ الرسول وتفسيره ﷺ في أحاديثه، ومن المعلوم أنّ الأخذ بهذه الأحاديثِ، والعملَ بمقتضاها واجب علينا.
وعلينا أن نعلم علمًا جازمًا لا يُداخلُه الشكُّ، أننا لن نضلَّ عن الطريق المستقيم، ولن نتيهَ في شِعاب الباطل، ما دمنا متمسكّين بكتاب الله العزيز، وبسنة الرسول الكريم، قال رسول الله ﷺ: "أيها النَّاسُ، فإنَّما أنا بَشَرٌ يوشِكُ أن يأتي رسولُ ربي فأُجيبَ، وأنا
_________
(^١) وهو حديث صحيح: أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (٧٢٨٠).
1 / 9
تاركٌ فيكم ثِقلَيْنِ (^١) أولهما: كتابُ الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به" فحثَّ على كتاب الله ورغبَ فيه، ثم قال: "وأهلُ بيتي (^٢) أُذَكركُم الله في أهلِ بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي" (^٣).
وقال ﷺ: "يأيها الناسُ، إني قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به؛ فَلَن تَضلُّوا أبدًا: كتابَ الله وسنةَ نبيه ﷺ (^٤).
فمن خالف الكتاب والسُّنَّة، فقد ضل ضلالًا بعيدًا، وخَسِرَ خُسْرانًا مبينًا، والعاقد عليهما بكلتا يديهِ مستمسكٌ بالعروة الوثقى، ظافرٌ بكل الخير دنيا وأخرى (^٥).
قال عمر بن عبد العزيز ﵀: "سنَّ رسول الله ﷺ وولاةُ الأمر بعده سُننًا، الأخذُ بها تصديقٌ بكتاب الله، واستعمالٌ بطاعة الله، وقوةٌ على دين الله، ليس لأحدٍ تغييرُها ولا تبديلُها، ولا النَّظَرُ في رأي مَنْ خالفها، من اقتدى بها فهو مُهتَدٍ ومن انتصر بها منصورٌ، ومن خالفها واتبعَ غَيْرَ سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولَّى وأصلاهُ جهنَّم وساءَت مصيرًا" (^٦).
وقال الإمام الشافعي "أجمع الناسُ على أنّ: من استبانتْ له سنةٌ عن رسول الله ﷺ، لم يكن له أن يدعَها لقول أحد من الناس" (^٧).
وقال ابن خزيمة: "لا قولَ لأحدٍ مع رسول الله ﷺ إذا صحَ الخبرُ عنه" (^٨).
_________
(^١) سماهما ثقلين؛ لأنّ الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل، أو إعظامًا لقدرهما وتفخيمًا لشأنهما، (النهاية: ١/ ٢١٦).
(^٢) لأنهم لم يعملوا إلا بسُنَّتي؛ فالإضافة إليهم؛ إما لعملهم بها أو لاستنباطهم واختيارهم إياهم؛ فلذا ذُكرَ أهل البيت في مقابل القرآن في هذا الحديث، [انظر "المرقاة" للقاري (١/ ١٩٩)]
(^٣) وهو حديث صحيح: أخرجه مسلم (١٥/ ١٧٩ - ١٨٠ بشرح النووي) من حديث زيد بن أرقم، وأخرجه أحمد (٤/ ٣٦٦ - ٣٦٧)، وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (١٥٥٠) و(١٥٥١) " والطحاوي في "مشكل الآثار" (٤/ ٣٦٨)
(^٤) وهو حديث صحيح بطرقه: أخرجه الحاكم (١/ ٩٣) من حديث ابن عباس، وصححه ووافقه الذهبي " وانظر: طرق الحديث في "الصحيحة" (٤/ ٣٥٥ - ٣٦١) للشيخ الألباني ﵀.
(^٥) انظر: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، للقاضي عياض (٢/ ٥٥٤ - ٥٥٤) و(٢/ ٥٥٩ - ٥٦٢) "والفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي (١/ ١٤٣ - ١٥٤).
(^٦) انظر: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للقاضي عياض (٢/ ٥٥٥).
(^٧) "إعلام الموقعين"، لابن القيم (٢/ ٢٨٢).
(^٨) "إعلام الموقعين"، لابن القيم (٢/ ٢٨٣).
1 / 10
ولما ثبت في الحثِّ على تحصيل العلم، والاجتهادِ في اقتباسِه، وتعليمه لطالبه، والمحتاج إليه، والعملِ بمقتضاه بصدق وإخلاص؛ اندفعَ الراغبون في ثواب الله، والخائفون من عقابهِ إلى الاشتغال بالفقه، حتى استغرقَ منهم الأوقات، ورحلوا في طلبه حتى تمزقتْ منهم الأقدامُ.
فأثمرت تلك الجهودُ الكبيرة، والعزائم القوية، والعقول المبدِعةُ: مكتبةً إسلامية رائعة، ملأت الخافقين في جميع فنون العلم والمعرفة.
فشكر الله لهم سعيهم، وأجزل لهم المثوباتِ، وأحلَّهم في دار كرامتهِ أعلى المقامات، وجعل لنا نصيبًا من ذلك، ومن جميع الخيرات، وغفر لنا ولوالدينا، ولمشايخنا، ولمن أحسن إلينا، وللمسلمين والمسلماتِ، إنه سميع الدعاء، جزيلُ العطاء.
وها أنا الفقير - إلى رحمة الله تعالى - أدليت بدلوي بين الدِّلاء، رغْمَ ضعفي وعجزي، وضيقِ وقتي، لا من أجل نيل شهادةٍ أو إحراز لقبٍ؛ بل:
* رَغبة وطمعًا في ثواب الله الذي أعده لمعلم الناس الخيرَ.
* ورهبةً من عقابه الأليم، وعذابه الشديد، لمن كتم علمه وأخفاه.
* وخدمةً لهذا الدين الذي أعزّنا الله به.
* ومشاركةً في الدعوة إلى الهدى والفضيلةِ؛ لإعلاء كلمة الحق.
* ومحاربةً للجهل والهوى والباطل؛ لإخمادِ كلمةِ الضلال.
* وفتحًا لباب الفهم عن الله ﷿ ورسوله ﷺ.
* وحرصًا على جمع المسلمين على الكتاب والسُّنَّةِ.
* وقضاءً على الخلاف وبدعةِ التعصُّب الذهبي.
* وتسهيلًا لإيصال الفقه إلى المسلمين، بعبارة واضحة، وأسلوب سهل، بعيدًا عن التعقيد، والمصطلحات الفنيةِ، والتفريعات المفترضة التي لم تقع، مستوعبًا كلَّ ما يحتاجُه المسلم في جميع أقسام الفقه الإسلامي بعون الله.
من أجل هذه الأسباب مجتمعة قمتُ بتأليف كتابي الذي أسميته: "اللباب في فقه السُّنَّةِ والكِتَاب".
1 / 11
وقد رتبته على النحو الآتي:
١ - كتاب الطهارة.
٢ - كتاب الصلاة.
٣ - كتاب الصوم.
٤ - كتاب الزكاة.
٥ - كتاب الحج.
٦ - كتاب النكاخ.
٧ - كتاب البيوع والمعاملات الأخرى.
٨ - كتاب الأيمان.
٩ - كتاب النذور.
١٠ - كتاب الأطعمة.
١١ - كتاب الطب.
١٢ - كتاب اللباس.
١٣ - كتاب الوصايا.
١٤ - كتاب الفرائض.
١٥ - كتاب الحدود.
١٦ - كتاب القصاص.
١٧ - كتاب الديات.
١٨ - كتاب القضاء.
١٩ - كتاب الجهاد.
فهذا كتاب "اللباب في فقه السنة والكتاب" يتضمن جميع كتب الفقه الإسلامي وأبوابه، مقرونةً بالدليل، ومعروضةً بسهولة ويُسْرٍ، ليفهمها الصغيرُ والكبير، دَون التقليد لمذهب من المذاهب، بل خضوعًا للدليل الصحيح، واتباعًا للقول الراجح من غير تعصب لطائفة على طائفة، بل أوافق كل طائفة على ما عندها من الحق، وأخالفها إذا جانبت الصوابَ، ولا أستثني من ذلك طائفةً ولا مقالة، وأرجو الله العلي القدير أن أحيا على ذلك، وأموت عليه، وألقى الله به.
لأنَّ الحق يتضحُ بالأدلة، كما تُعْرَفُ الشهورُ بالأهلةِ، والبرهان للأحكام كالعماد للخِيام، وطالب الحق ضيف الله، والدليل القاطع سيفُ اللَّه، به يفك العلم وينشر.
فلا يحل لأحدٍ مخالفةُ الحق بعد معرفته، ولا يلزم الناس طاعة أحد لأجل أنه عالمٌ أو إمام؛ وإنما يلزم الناس قبولُ الحق ممن جاء به على الإطلاق، ونبذُ الباطل ممن جاء به بالاتفاق؛ لأن الله تعالى قال في سورة يونس: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس: ١٣٢].
هذا مع حفظ مراتب العلماء وموالاتِهم، وحسن الظن بهم؛ فإنَّ الخطأ الذي يقع فيه إمام منهم لا يكون عن سوء نيةٍ، ولا قُبح طوية، واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه، فهم ﵃، دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة.
1 / 12
ولكن هذا لا يوجب إهدار النصوص، وتقديم قول الواحدِ منهم عليها بشبهة أنه أعلمُ منك، بل عليك أن تعرض أقوالهم على النصوص، وتزنها بها، وتخالِف منها ما خالف النصَّ، وتأخُذ منها ما وافقه.
وما أروع ما قاله أبو عمر يوسف بن عبد البر النَّمِري القرطبي في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" (٢/ ١٧٢ - ١٧٣): "فعليك يا أخي بحفظ الأصولِ والعناية بها، واعلم أن من عُني بحفظ السُّننِ والأحكام المنصوصة في القرآن، ونظر في أقاويل الفقهاء، فجعله عونًا له على اجتهاده، ومفتاحًا لطرائق النظرِ، وتفسيرًا لجمل السن المحتملة للمعاني، ولم يقلِّد أحدًا منهم تقليد السُّنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر، ولم يُرحْ نفسه مما أخذ العلماءُ به أنفسهم من حفظ السنن وتدبُّرها، واقتدى بهم في البحث والتفهم والنظر، وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه، ونبهوا عليه، وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم، ولم يُبَرِّئْهُمْ من الزلل كما لم يبرئُوا أنفسهم منه؛ فهذا هو الطالب المتمسكُ بما عليه السلف الصالح، وهو المصيب لحظه، والمعاينُ لرشده، والمتبع لسُنة نبيه ﷺ وهدي صحابته ﵃، ومن أعفى نفسهُ من النظر، وأضرب عما ذكرنا، وعارض السُّننَ برأيه، ورام أن يرُدَّها إلى مبلغ نظره فهو ضال مضل، ومن جهل ذلك كلَّه أيضًا وتقحم في الفتوى بلا علم فهو أشدُّ عمى وأضلُّ سبيلًا" اهـ.
• وإليك أخي القارئ منهجي في تأليف الكتاب:
أولًا: تحديد المصادر، وجمع المادة لكل باب من أبواب الكتاب - وهي بحمد الله كثيرة - ككتب تفسير القرآن، وخاصَّة تفاسير آيات الأحكام، وكتب الحديث وخاصة التي تهتم بفقه الحديث، وكتبِ الفقه الذهبي والمقارنِ وخاصَّة التي تُعنى بالدليل، ومناقشةِ آراء المخالفين والرد عليها.
ثانيًا: تمحيص وترجيح النصوص والأقوال، ونصرةُ القول الراجحِ الذي قويت حجَّتُه، واتضحت أدلَّتُه، وليس هذا تلفيقًا، وإنما هو اتباع للدليل حيثما وجدته، وخضوع للحقِّ الواضح.
ثالثًا: تخريجُ الأحاديث، وبيانُ مرتبة كلِّ حديثٍ من الصحة والضعف.
1 / 13
وقد اعتمدت الحديث الصحيح أو الحسنَ حجَّةً، ورددت الحديث الضعيف والعملَ به حتى في فضائلِ الأعمال، كما قبلتُ مرسل الصحابي، وقدَّمت حديثَ الآحاد على عمل أهل المدينة، وكذلك عملت بخبر الآحادِ وإن خالف مقتضى القياس أو الأصول المقررة.
أما الآثار فأذكر مرتبتها من الصحة أو الضعفِ إذا كانت في مقام إلحجة والدليل فقط.
رابعًا: احترامُ الإجماع المتيقَّن الذي لم يثبت فيه خلاف.
خامسًا: إعمال القياس الصحيح إذا اتضحتْ عِلَّتُهُ الجامعةُ بين الأصل والفرع، ولم يكن بينهما فارقٌ ظاهر أو خفي، ولم يوجد معارض معتبر.
قال ابن تيمية في "رسالة القياس" ص (١٠): "القياسُ لفظٌ مجمل يدخلُ فيه القياسُ الصحيح والقياسُ الفاسد؛ فالقياسُ الصحيح: هو الذي وردَتْ به الشريعةُ … " اهـ.
وقال تلميذه ابنُ قيم الجوزية في "إعلام الموقِّعين" (١/ ١٣٠): "بل كانوا - أي الصحابة - متفقين على القولِ بالقياس، وهو أحد أصول الشريعة، ولا يستغني عنه فقيه" اهـ.
سادسًا: ضبطُ وشكلُ ما يلزم ضبطُه وشكلُه من ألفاظِ الأحاديثِ، والأعلام، والألقاب، والأماكن، والكلمات المُشْكِلةِ على القارئ.
سابعًا: التعرضُ لقضايا الفقه الجديدة، مستلهمًا قواعد الشريعة ومبادئها، ومقرَّراتِ الفقهاء.
وبعد هذا، فإني لا أَدَّعِي العصمةَ من الخطأ؛ فإنَّ العصمةَ لمن خصَّهم الله بها من عبادِه المرسلين، وكلُّ ما أدعيه: هو أني بذلتُ غايةَ ما أملك من جهدٍ في سبيل تقديم عمل أرجو أن يكون نافعًا لي وللمسلمين في الدنيا والآخرة.
فإن أكُن وُفِّقْتُ فهذا ما أبتغيه، ولله الفضل والمنة، وإن كان غيرَ ذلك، فحسبي أني أردتُ الخيرَ، وبذلتُ في سبيله ما وَسعني من جهد، وإنما الأعمال بالنيات.
اللهُمَّ اجعل أعمالنا كلها صالحةً، ولوجهك خالصةً، ولا تجعلْ فيها شركًا لأحد … آمين.
صنعاء صباح الجمعة
٢٩ شوال ١٤٢٠ هـ
٤/ ٢/ ٢٠٠٠ م
1 / 14
الكتاب الأول كتاب الطهاوة
ويتضمن عَشَرة أبوابٍ
1 / 15
الباب الأول: أقسام المياهِ.
الباب الثاني: النجاسات.
الفصل الأول: أَحكام النجاسات. الفصل الثاني: تطهير النجاسات.
الباب الثالث: السُّؤْر والعَرَق.
الفصل الأول السُّؤر. الفصل الثاني: العَرَق.
الباب الرابع: الآنية.
الباب الخامس: قضاء الحاجة.
الباب السادس: سُنَن الفِطْرَةِ.
الباب السابع: الوُضوء.
الفصل الأول: صفة الوضوءِ، وشروط صحته، وفرائضه.
الفصل الثاني: مستحبَّات الوضوء.
الفصل الثالث: نواقض الوضوء.
الفصل الرابع: ما يجب له الوضوء وما يُسْتَحَبُّ.
الفصل الخامس: المسح على الخفين.
الباب الثامن: الغُسل:
الفصل الأول: متى يجبُ الغسل؟.
الفصل الثاني: أركان الغُسل وسنته.
الفصل الثالث: متى يُسَنُّ الغُسل؟.
الباب التاسع: التيمم.
الباب العاشر: الحيض والنفاس والاستحاضة.
الفصل الأول الحيض.
الفصل الثاني: النفاس.
الفصل الثالث: الاستحاضة.
1 / 16
الطهارة
في الأصل الوَضَاءة والنظافة، يقال مِن ذلك تَطهَّر فهو مُتطهِّر ومُطَّهر، فتُدْغَمُ التاءُ في الطاءِ لقرب مخرجيهما، والطَّهُور: الماء.
قال ثعلبٌ: الطَّهور: الطاهِرُ في نَفْسِه المُطَهِّر لغيره، ويقال: فلان طاهرُ الثِّياب، إذا كان نقيًّا من الدَّنس والوسخ، وذكر أهل التفسير: أنَّ الطهارةَ في القرآنِ على ثلاثةِ عَشَر وجهًا (^١):
أحدها: انقطاعُ دمِ الحيض؛ ومنه قولهُ - تعالى - في سورة البقرة الآية (٢٢٢): ﴿وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾.
والثاني: الاغتسال، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة الآية (٢٢٢): "فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتوهُنَّ". وفي سورة المائدة الآية (٦): "وَإِنْ كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَهَّروا".
والثالث: الاستنجاءُ بالماء، ومنه قوله - تعالى - في سورة براءة الآية (١٠٨): " ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا﴾ " ونزلَتْ في أهل قُبَاءَ، وكانوا يستعملون الماءَ في الاستنجاء.
والرابع الطهارة من جميع الأحداث والأقذار، ومنه قوله - تعالى - في سورة الأنفال الآية (١١): " ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ ".
والخامس: السلامةُ من سائر المستقْذَرَات؛ ومنه قوله - تعالى - في سورة البقرة الآية (٢٥): ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾، وفي سورة آل عمران الآية (١٥): ﴿وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾.
والسادس: التنزُّه عن إتيان الرجال؛ ومنه قوله - تعالى - في سورة النمل الآية (٥٦): ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾.
والسابع: الطهارة من الذنوب، ومنه قوله - تعالى - في سورة براءة الآية (١٠٣): ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾، وفي سورة المجادلة الآية (١٢): ﴿فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾.
والثامن: الطهارةُ من الأوثان؛ ومنه قولهُ - تعالى - في سورة البقرة الآية (١٢٥):
_________
(^١) قال الراغبُ الأصفهانيُّ في "المفردات" (ص ٣٠٧): "والطهارةُ ضرْبانِ: طهارة جسمٍ، وطهارةُ نفسٍ، وحُمل عليها عامة الآيات" اهـ.
1 / 17
﴿أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ﴾ ومثلها في سورة الحج الآية (٢٦): ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾.
والتاسع: الطهارة من الشرك؛ ومنه قوله - تعالى - في سورة عبس الآية (١٤): ﴿مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾ وفي سورة البينة الآية (٢): ﴿يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾.
والعاشر: الحلال؛ ومنه قوله - تعالى - في سورة هود الآية (٧٨): ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ أي: أحلُّ.
والحادي عشر: طهارةُ القلب من الريبة؛ ومنه قوله - تعالى - في سورة البقرة الآية (٢٣٢): ﴿ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾ يريد أطهرُ لقلب الرجل والمرأة من الريبة، وفي سورة الأحزاب الآية (٥٣) ﴿ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ أي: من الريبة والدَّنَس.
والثاني عشر: التقصيرُ، ومنه ق وله - تعالى - في سورة المدثر الآية (٤): ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾، أي: قصِّرْ؛ لأن تقصيرَ الثياب: تطهيرُها.
والثالث عشر: الطهارةُ من الفاحشة" ومنه قوله - تعالى - في سورة آل عمران الآية (٤٢): ﴿يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ﴾ (^١).
وبدأت بالطهارة؛ لأنَّها شرطٌ من شروط الصلاة التي هي آكدُ أركان الإسلامِ بعد الشهادتين، والشرط مقدَّمٌ على المشروط.
قال رسول الله ﷺ: "مفْتَاح الصَّلاة الطهُورُ، وتحريمُهَا التكبيرُ، وتحليلُها التسلِيمُ"، وهو حديث حسن (^٢).
_________
(^١) "نُزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر"، لابن الجوزي تحقيق: محمد عبد الكريم كاظم الراضي، ص (٤١٩ - ٤٢٢).
(^٢) أخرجه أبو داود (١/ ٨٨ - مع العون)، والترمذي (١/ ٣٦ - مع التحفة)، وابن ماجه (١/ ١٠١ رقم ٢٧٥)، وأحمد (٣/ ١٥٩ - الفتح الرباني)، والدارمي (١/ ١٧٥)، والبيهقي (٢/ ١٧٣، ٣٧٩)، وأبو نعيم في الحلية (٨/ ٣٧٢)، والخطيب في تاريخه (١٠/ ١٩٧)، والدارقطني (١/ ٣٦٠ رقم ٤) من طرق عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي ﵁ مرفوعًا، وقال الإمام البغوي في "شرح السنة" (٣/ ١٧): "هذا حديث حسن"، وقال المحدث الألباني في "الإرواء" (٢/ ٨ رقم ٣٠١): "الحديث صحيح بلا شك فان له شواهد يرقى بها إلى درجة الصحة".
قلت: انظر: شواهد الحديث في "نصب الراية"، للزيلعي (١/ ٣٠٧ - ٣٠٨).
1 / 18
الباب الأول أقسام المياه
أولًّا: الماءُ المُطْلقُ: هو الماء العاري عن الإضافة اللازمةِ، وإن شئتَ قلتَ: هو ما كفى في تعريفه اسمُ ماءٍ، وهذا الحدُّ نصَّ عليه الشافعي ﵀ في البويطي.
وقيل: هو الباقي على وصف خِلْقَتِهِ (^١).
• ويشتملُ الماءُ الطلقُ على:
١ - ماءُ المطرِ والثلج والبَرَد، لقوله - تعالى - في سورة الأنفال الآية (١١) ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾؛ ولقوله تعالى في سورة الفرقان الآية (٤٨): ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾.
ولحديث أبي هريرة ﵁ قال: "كان رسولُ الله ﷺ إذا كبَّرَ في الصلاةِ سكَتَ هُنَيَّةً قبلَ أن يقرأ، فقلتُ: يا رسولَ الله بأبي أنتَ وأمي، أرأيتَ سكوتكَ بين التكبير والقراءةِ ما تقول؟ قال: "أقول: اللهمَّ باعدْ بيني وبين خطايايَ كما باعَدتَ بين المشرقِ والمغرِبِ، اللهُمَّ نقِّني من خطاياي كما يُنَقَّىَ الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَس، اللهُمَّ اغسِلْني من خطاياي بالماء والثلجِ والبَرَد" (^٢).
٢ - ماءُ البحَر والنهرِ؛ لحديث أبي هريرةَ كت قال: سألَ رجلٌ رسولَ الله ﷺ فقال: يا رسولَ اللَّهِ، إنّا نركبُ البحرَ، ونحمِلُ معنَا القليلَ من الماءِ، فإنْ توضَّأْنا بهِ عَطِشْنا، أفنتوضَّأ من ماء البحر؟ فقالَ رسولُ الله ﷺ: "هو الطهُور ماؤهُ، الحلُّ مَيْتَتُه" وهو حديث صحيح (^٣).
ولظاهر نصِّ الكتاب، وهو قوله - تعالى - في سورة النساء الآية (٤٣): ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ وماء البحر من المياه فلا يجوز العدولُ إلى التيمُّم مع وجودِه (^٤).
_________
(^١) "المجموع" (١/ ٨٠)، و"المغني" (١/ ٣٦)، و"المنتقى" للباجي (١/ ٥٥).
(^٢) أخرجه البخاري رقم (٧٤٤)، ومسلم رقم (٥٩٨)، وغيرهما.
(^٣) أخرجه أبو داود (١/ ٦٤ رقم ٨٣) والترمذي (١/ ١٠٠ رقم ٦٩) وقال: حديث حسن صحح، والنسائي (١/ ٥٠ رقم ٥٩) و(١٧٦ رقم ٣٣٢) و(٧/ ٢٠٠٧ رقم ٤٣٥٠)، وابن ماجه (١/ ١٣٦ رقم ٣٨٦)، وأحمد (٢/ ٢٣٧، ٣٦١، ٣٧٨، ٣٩٢)، والحاكم (١/ ١٤٠)، وفي علوم الحديث (ص ٨٧)، والدارقطني (١/ ٣٦ رقم ١٣) وغيرهم، وانظر: "نصب الراية" (١/ ٩٥ - ٩٩)، و"تلخيص الحبير" (١/ ٢١ - ٢٤)، والإرواء رقم (٩) والصحيحة رقم (٤٨٠).
(^٤) "المغني" "لابن قدامة" (١/ ٣٧).
1 / 19
٣ - ماء زمزمَ، لحديث علي ﵁ في صفةِ حجِّ رسول اللّه ﷺ قال: "ثم أفاضَ فدعا بسجْل من ماء زمزمَ فشربَ منه، وتوضَّأ، ثم قال: "انزعُوا يا بني عبد المطلب، فلولا أن تُغْلَبُوا عليها لنزعتُ"، وهو حديث حسن (^١).
* والسَّجْل: الدَّلو الملأَى ماءً، ويُجمع على سِجَالٍ (^٢).
وقوله: "فولا أن تُغْلَبُوا": يعني لولا خوفي أن يعتقد الناسُ ذلك من مناسك الحج، ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم؛ لكثرة فضيلة هذا الاستقاء (^٣).
٤ - ماء البئر؛ لحديثِ أبي سعيد الخدري ﵁ قال: قيلَ: يا رسول اللّه أنتوضَّأ من بئرِ بُضَاعةَ، وهي بِئْرٌ يُلقى فيها الحِيَضُ ولحومُ الكلاب والنَّتَنُ؟ فقال رسول اللّه ﷺ: "إنَّ الماءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شيء"، وهو حديث صحيح (^٤).
* وقال ياقوت الحموي (^٥) بُضاعة: بالضم وقد كَسَرَهُ بعضهم، والأول أكْثَرُ، وهي دار بني ساعدة بالمدينة وبئرها معروفة".
وقال ابن الأثير (^٦): هي بئر معروفة بالمدينة.
وقال أبو داود في "سننه" (١/ ١٢٩ - ١٣٠ - العون): "سمعتُ قُتيبة بن سعيدٍ قال: سألتُ قيم بئر بُضاعة عن عُمقِها، قال: أكثر ما يكون فيها الماء إلى العانة. قلت: فإذا نقصَ؟ قال: دون العورةِ.
قال أبو داود: وقدَّرتُ أنا بئرَ بُضاعةَ بردائي مدَدْتُه عليها، ثم ذَرَعْتُهُ فإذا عرضُها ستةُ
_________
(^١) أخرجه عبد اللّه بن الإمام أحمد في "زوائد المسند" (١/ ٧٦) بسند جيد، ومعناه في "الصحيحين"، وقال الشوكاني في "النيل" (١/ ١٠٨): "سند هذا الحديث مستقيم"، وحسَّن الألباني الحديثَ في "الإرواء" رقم (١٣).
(^٢) "النهاية" (٢/ ٣٤٣ - ٣٤٤).
(^٣) "الفتح الرباني" (١/ ٢٠٣).
(^٤) أخرجه أبو داود (١/ ٥٥ رقم ٦٧)، والترمذي (١/ ٩٥ رقم ٦٦) وقال: "حديث حسن"، والنسائي (١/ ١٧٤)، وأحمد (٣/ ١٥، ٣١، ٨٦)، والشافعي (١/ ٢١ رقم ٣٥ - ترتيب المسند)، والطيالسي (ص ٢٩٢ رقم ٢١٩٩)، وابن الجارود في "المنتقى" رقم (٤٧)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (١/ ١١)، والدارقطني (١/ ٢٩ رقم ١٠)، والبيهقي (١/ ٤، ٢٥٧)، والبغوي في "شرح السُّنَّة" (٢/ ٦١) وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه أحمد في "التلخيص" (١/ ١٣)، والنووي في "المجموع" (١/ ٨٢)، والألباني في "الإرواء" رقم (١٤).
(^٥) "معجم البلدان" (١/ ٤٤٢).
(^٦) "النهاية" (١/ ١٣٤).
1 / 20
أذْرعُ، وسألتُ الذي فتح لي باب البستانِ فأدخلَني إليه، هل غُيِّر بناؤها عما كانت عليه؟ قال: لا، ورأيتُ فيها ماءً متغيِّر اللَّونِ" اهـ
٥ - الماءُ المتغيِّرُ بطولِ المُكْثِ أو بسببِ مقرِّه أو بما خالَطَهُ كطحلُبٍ، أو ورقِ شجرٍ، وما لا ينفك عنه غالبًا، فإنَّ اسمَ الماءِ المطلق يتناوله باتفاقِ العلماء.
والأصلُ في هذا البابِ أن كلَّ ما يصدُقُ عليه اسمُ الماء مطلقًا عن التقييد يصح التطهُّر به؛ لقولهِ - تعالى - في سورة المائدة الآية (٦): "فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا".
وقال ابن قدامة (^١): "والماءُ الآجنُ: وهو الذي يتغيُّر بطول مكْثِهِ في المكان، من غير مخالطةِ شيء يغيرهُ، باق على إطلاقه في قول أكثر أهل العلم" اهـ.
وقال ابن المنذر (^٢): "أجمع كلُّ من نحفظُ قولَه من أهل العلم على أن الوضوءَ بالماء الآجنِ من غير نجاسةٍ حلَّتْ فيه جائز، غيرَ ابن سيرينَ فإنه كرهَ ذلك، وقول الجمهور أولى" ا هـ.
وقال ابن رشد (^٣): "وكذلك أجمعوا على أنَّ كلَّ ما يُغيِّر الماءَ مما لا يَنْفَك عنه غالبًا أنه لا يسلبُه صفةَ الطهارةِ والتطهير؛ إلا خلافًا شاذًّا في الماءِ الآجنِ عن ابن سيرينَ، وهو محجوجٌ بتناولِ اسم الماء المُطْلقِ له" اهـ.
ثانيًا: الماءُ المسْتَعْمَلُ:
هو الماءُ المنفصلُ من أعضاءِ المتوضئ أو المغتسل.
١ - الماءُ المستعملُ طاهرٌ في نفسه؛ لحديث جابر قال: جاء رسول الله ﷺ يعودُني وأنا مريضٌ لا أعقلَ، فتوضَّأ وصبَّ عليَّ من وَضُوئِهِ، فعقلْتُ .. " (^٤).
ولحديث أبي جُحيفة ﵁ قال: "خرج علينا رسولُ الله ﷺ بالهاجرة، فَأُتِيَ بوَضُوءٍ فتوضَّأ، فجعل الناسُ يأخذون من فضلِ وضُوئِهِ فيتمسحونَ به، .. " (^٥).
• أما قولُ بعضهم: إنَّ هذا من خصائص النبي ﷺ، فمردودٌ؛ لأن الأصلَ أنَّ
_________
(^١) "المغني" (١/ ٤٢).
(^٢) "الإجماع" (ص ٣٣).
(^٣) "بداية المجتهد" (١/ ٧٢) بتحقيقي.
(^٤) أخرجه البخاري رقم (١٩٤).
(^٥) أخرجه البخاري رقم (١٨٧).
1 / 21
حكمَهُ وحكمَ أمته واحدٌ، إلا أنْ يقومَ دليلٌ يقضي بالاختصاصِ، ولا دليلَ، كما أن الحكم بكون الشيءَ نجسًا حكم شرعي يحتاج إلى دليل ولا دليل (^١).
٢ - والدليل على أن الماءَ المستعمل مطهِّر لغيره، حديث ابن عقيلٍ، عن الرُّبَيِّع - بنتِ مُعَوِّذ - "أن النبي ﷺ مسحَ برأسِه من فضْلِ ماءٍ كان في يده" (^٢). وهو حديث حسن.
فإن قيل: قد عارضه حديث عبد الله بن زيدِ بن عاصم الأنصاري ﵁: " … ثم أدخلَ يَدَهُ - في الإناء - فاستخرجَهَا فمسحَ برأسهِ، فأقبل بيديه وأدبرَ .. " (^٣).
قلت: لا تعارض بينهما؛ لأنَّ التنصيص على شيءٍ بصيغة لا تدلُّ إلا على مجرد الوقوع، ولم يتعرض فيها لحصْرٍ على المنصوص عليه، ولا نفيٍ لما عداهُ، لا يستلزم عدمَ وقوع غيره (^٤).
أما الحديث الذي أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير " رقم (٢٠٩١) عن دهثم بن قُرآنَ، عن نمران بن جارية، عن أبيه، قال: قال رسول الله ﷺ: "خذوا للرأسِ ماءً جديدًا"، فهو حديث ضعيف جدًّا لا تقومُ به حجة.
وأما حديث أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "إذا توضأ العبدُ المسلمُ أو المؤمنُ، فغسلَ وجهَهُ، خرجَ من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطرِ الماءِ، فإذا غسل يديه، خرج من يديه كلُّ خطيئةٍ كان بطشتْها يداهُ معَ الماءِ، أو معَ آخر قطْرِ الماءِ، فإذا غسلَ رجليه، خرجت كلُّ خطيئةٍ مَشتْهَا رجلاهُ معَ الماءِ، أو مَع آخر قَطْرِ الماءِ حتى يخرجَ نقيًّا من الذنوبِ" (^٥).
فقد قال الإمام النووي (^٦): "المراد بخروجها مع الماء المجازُ والاستعارةُ في غفرانِها؛ لأنها ليست بأجسامٍ فتخرج حقيقةً". اهـ.
_________
(^١) انظر: "نيل الأوطار" نهاية شرح الحديث رقم (٤) بتحقيقي.
(^٢) أخرجه أبو داود (١/ ٩١ رقم ١٣٠).
وقال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" (١/ ١٠٠): "وابنُ عقيل هذا هو أبو محمد عبدُ الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، وقدِ اختلفَ الحفَّاظُ في الاحتجاج بحديثه"، قلت: قال الذهبي في "الميزان" (٢/ ٤٨٥) بعدما أورد كلام الحفَّاظِ فيه: "حديثهُ في مرتبة الحسن".
وقد حسنه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود"، وعبد القادر الأرناؤوط في تحقيق "جامع الأصول" (٧/ ١٦٤).
(^٣) أخرجه أحمد (٤/ ٣٨، ٣٩)، والبخاري رقم (١٨٥)، ومسلم رقم (٢٣٥).
(^٤) "نيل الأوطار" خلال شرح الحديث رقم (٧) بتحقيقي.
(^٥) أخرجه مسلم رقم (٢٤٤).
(^٦) "شرح صحيح مسلم" (٣/ ١٣٣).
1 / 22