اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي
محقق
محمد سعيد المولوي
الناشر
مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٢٩ هـ - ٢٠٠٨ م
تصانيف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد
وعترته المنتجبين
قال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي من أهل معرة النعمان:
سألني بعض الناس أن أنشئ مختصرًا في تفسير شعر أبي الطيب، فكرهت ذلك، وسألته الإعفاء، فأجاب، ثم تكرر السؤال؛ فأصبحت معه في القياد، وأنا كما قيل:
مكره أخوك لا بطل، وكم حلي، فضله العطل
وأمليت شيئًا به، ثم علمت أني في ذلك من الأخسرين أعمالًا، لا أكتسب في العاجلة ولا الآجلة جمالًا؛ لأن القريض له أزمان، ومن بلغ سنّي فماله من الحتف أمان.
وذكر لي المجتهد في خدمة الأمير عزيز الدولة وغرسها أبي الدوام ثابت بن تاج الأمراء فخر الملك، عمدة الإمامة، وعدة الدولة ومعزها ومجدها ذي الفخرين، أطال الله بقاه، وأدام
1 / 3
أيامه أبو القاسم علي بن أحمد المقرئ أن الأمير أبا الدوام أمره أن يلتمس لدي شيئًا من هذا الفن؛ فنهضت نهضة كسير لا يقدر على المسير، وأنشأت معه شيئًا على مقداري لا مقدار الآمر، ولست في المناصحة بالخامر، وتقاضاني بالمراد مخلص فيما كلف مبر، على أني بالمعجزة مقر، فكان كما قال القائل: [الطويل]
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة ... تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا
وأتممت ما كنت بدأت فيه، والله المستعان، وبه التوفيق.
ذكر ما هو على القافية المهموزة من التي أولها
أمن ازديارك في الدجى الرقباء ... إذ حيث كنت من الظلام ضياء
هي من الكامل الثاني في قول الخليل. وعند غيره من السحل الثالث.
1 / 4
الازديار: الافتعال من الزيارة. وتاء الافتعال إذا وقعت قبلها زاي قلبت دالا، لا يجوز غير ذلك، فقال: الازدياد والازديار والازديان، وهذه الدالات تاءات في الأصل.
والدجى: جمع دجية، وهو ما ستر من الليل، وربما ذكره المحدثون كأنه واحد، وذلك جائز، ولكن ك لام العرب أن تجريه مجرى الجمع، كما قال الراعي: [طويل]
فجاءت إلينا والدجى مزجحنة ... رغوث شتاءٍ قد تذوب عودها
والوجه الآخر جارٍ مجرى قول الحطيئة: [طويل]
لزغبٍ كأولاد القطار راث خلفها ... على عاجزات النهض حمرٍ حواصله
1 / 5
أراد حواصلها فذكر على معنى الجنس.
والرقباء: جمع رقيب، وفعيل يكون في معنى مفاعلٍ كثيرًا، فيقال: فلان جليس فلان؛ أي: مجالسه، وقرينه؛ أي: مقارنه، ورقيبه؛ أي: مراقبه.
وقوله:
قلق المليحة وهي مسك هتكها .. ز ومسيرها في الليل وهي ذكاء
ذكاء: من أسماء الشمس، وهي لا تنصرف إلا في الضرورة، ويقال للصبح: ابن ذكاء، وقال الراجز: [الرجز]
فصبحت قبل انبلاج الفجر
وابن ذكاء كائن في كفر
وقوله:
أسفي على أسفي الذي دلهتني ... عن علمه فبه علي خفاء
التدليه: التحيير، والدله: الحيرة.
وقوله:
مثلت عينك في حشاي جراحةً ... فتشابها كلتاهما نجلاء
النجلاء: الواسعة من الطعن والعيون. وكان ينبغي أن يقول: فتشابهتا، فذكّر - على معنى الجرح فغلب المذكر على المؤنث.
وقوله:
نفذت علي السابري وربما ... تندق فيه الصعدة السمراء
1 / 6
السابري: درع رقيقة النسج، وذكرها هنا؛ لأنه ذهب مذهب الحديد، وقد حكي تذكير الدرع، وأنشدوا قول الراجز: [الرجز]
كأنه في الدرع ذي التغضن
والصعدة: القناة التي تنبت مستويةً، ولا تحتاج إلى تثقيف.
والصعدة: القناة التي تنبت مستويةً، ولا تحتاج إلى تثقيف.
وقوله: [الكامل] (٢/ب)
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... فإذا نطقت فإنني الجوزاء
يعني التي تسمى أتان الضحل، وهي صخرة تكون في الوادي، فإذا مر بها السيل بقيت منه بقية قليلة هي الضحل، فيقال: إنها تكون من أشد الصخر صلابةً، ومنه قول علقمة بن عبدة: [البسيط]
هل تلحقني دواب الحي إذ شحطوا ... جلذية كأتان الضحل علكوم
جلذية: صخرة صلبة شبه الناقة بها.
والجوزاء: نجم يزعم المنجمون أنه نجم منطيق.
وقوله:
شيم الليالي أن تشكك ناقتي ... صدري بها أفضى أم البيداء
يقول: ناقتي هذه تشككها الليالي، فلا تدري أصدري أفضى أم البيداء التي هي سائر فيها، وأراد ألف الاستفهام فحذفها، وذلك كثير موجود، وقد حملوا على ذلك قول الأخطل: [الكامل]
1 / 7
كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ... غلس الظلام من الرباب خيالا
كأنه قال: أكذبتك عينك، وقوله: أفضى: يحتمل أن يكون اسمًا وفعلًا: وإذا كان اسمًا فهو على معنى التفضيل، كأنه قال: أصدري أشد سعةً أم البيداء؟ وإذا كان فعلًا فهو من أفضى إلى الشيء يفضي، كأنه قال: أصدري يفضي بهذه الناقة أي يصيرها في الفضاء أم البيداء؟
وقوله: [الكامل]
فتبيت تسئد مسئدًا في نيهّا ... إسآدها في المهمه الإنضاء
تسئد: أي: تسير في الليل، ونصب مسئدًا على الحال، والنيء: الشحم. وإسآدها منصوب على المصدر.
والمعنى مسئدًا في نيها إسآدًا يشابه إسآدها، والإنضاء فاعل مسئد، وهو من قولهم: أنضيت الناقة إذا هز لتها، فأزلت عنها اللحم. والمعنى: فتبيت تسئد مسئدًا في نيها الإنضاء مثل إسآدها في المهمه، يريد أنها تفني المهمه بإسآدها، والإنضاء يفني نيها بإسآده.
وقوله: [الكامل]
أنساعها ممغوطة وخفافها ... منكوحة وطريقها عذراء
الأنساع: جمع نسع، وهو سير مضفور، وممغوطة: أي: متغيرة بالسير. وجعل خفافها منكوحة؛ لأنها دامية، فكأنها العذراء التي قد نكحت. وجعل الطريق عذراء؛ لأنها لم تسلك قبله. وحسن المعنى أنه جعل الطريق عذراء، والعذراء هي التي جرت العادة بأن تنكح، وهي هاهنا ناكحة؛ لأنها التي أدمت الخفاف.
وقوله: [الكامل]
يتلون الخريت من خوف التوى ... فيها كما يتلون الحرباء
الخريت: الدليل، كأنه يدخل في خرت الإبرة من هدايته. والحرباء يوصف بالتلون. قال ذو الرمة يصف الحرباء: [الطويل]
1 / 8
غدا أكهب الأعلى وراح كأنه ... من الضح واستقباله الشمس أخضر
والتوى: الهلاك.
وقوله: [الكامل]
لبس الثلوج بها علي مسالكي ... فكأنها ببياضها سوداء
يعني أن الطريق قد التبس عليه، فكأن بياض الثلج سواد؛ لأنه لا يهتدي بذلك البياض.
وقوله: [الكامل]
وكذا الكريم إذا أقام ببلدةٍ ... سال النضار بها وقام الماء
معناه: أنه يهب النضار فيسيل، والماء الذي جرت عادته بالسيلان يستحيي من نداه فيقف.
وقوله: [الكامل]
جمد القطار ولو رأته كما رأى ... بهتت فلم تتبجس الأنواء
الأجود أن تكون الأنواء فاعلة رأته. والتبجس مثل التفجر، والأنواء هنا: جمع نوء فكأنه أراد النجم التي تنسب العرب إليها المطر، وهي منازل القمر. وأصل النوء النهوض، وهو من الأضداد؛ يكون فى معنى النهوض والسقوط، والعرب تستعمله في معنى السقوط، ويجوز أن يكون العامل في الأنواء الفعل المتأخر، فيحتمل أن يعمل فيها بهتت، فيكون اسم ما لم يسم فاعله، ويمكن أن تعمل فيها تتبجس، وإعمال الفعل الأول في هذا النحو رأي الكوفيين، وإعمال الفعل الذي هو أقرب إلى الفاعل رأي أهل البصرة. وإذا استعمل هاهنا مذهب البصريين كان في الكلام إضمار قبل الذكر إلا أنه جائز بلا اختلاف لأنه معلوم عند السامع.
وقوله: [الكامل]
من يهتدي في الفعل مالا يهتدي ... في القول حتى يفعل الشعراء
1 / 9
فاعل الشعراء: هو قوله يهتدي، والمعنى: أن هذا الممدوح يهتدي في الفعل مالا يهتدي إليه (٣/أ) الشعراء، وهم موصوفون بالفنطنة، وادعاء الأشياء المتعذرة، فهذا الممدوح يفعل الأشياء التي لا تهتدي الشعراء إليها حتى يفعلها فتعرفها حينئذٍ.
وقوله: [الكامل]
في كل يوم للقوافي جولة ... في قلبه ولأذنه إصغاء
إذا جاءت القوافي في الشعر فالمراد بها الأبيات والقصائد، وأصل القافية عند بعضهم الكلمة التي في آخر البيت مثل: منزل - وحومل، وهذا مذهب سعيد بن مسعدة، ومذهب الخليل أن القافية من آخر ساكنٍ في البيت إلى أول ساكنٍ يليه مع المتحرك قبل الساكن. فهذا في بعض المواضع يوافق قول سعيد بن مسعدة، وفي بعضها يخالفه؛ فمما يتفق فيه القولان مثل قول امرئ القيس: حومل، فالقافية عند الأخفش هي حومل، وكذلك يجب أن تكون على مذهب الخليل؛ لأن آخر حرف في البيت هو ياء الترنم، وأول ساكنٍ يليه واو حومل، والمتحرك الذي قبل الواو هو الحاء؛ فقد تساوي المذهبان. والاختلاف الذي يقع بين القولين في مثل قوله: [الوافر]
أقلي اللوم عاذل والعتابا
فالقافية عند أبي الحسن العتابا، والقافية على مذهب الخليل قوله: تابا من العتابا.
وإنما سمي البيت قافية؛ لأن القافية تكون فيه. وقال قوم: القافية ما لزم الشاعر إعادته من الحروف. ومذهب قطرب أن القافية حرف الروي، مثل لازم منزل، ودال ثهمد، وتسمى
1 / 10
القصيدة قافيةً، والأبيات قوافي، وقيل: القافية نصف البيت الآخر.
وقوله: [الكامل]
وأغاره فيما احتواه كأنما ... في كل بيتٍ فيلق شهباء
الفيلق في البيت: الكتيبة، وهي مؤنثة، قال الأعشى: [السريع]
في فيلقٍ جأواء ملمومةٍ ... تعصف بالدارع والحاسر
وقالوا: كتيبة شهباء إذ اعلاها بياض الحديد.
وقوله: [الكامل]
يعطي فتعطى من لهى يده اللهى ... وترى برؤية رأيه الآراء
اللهى: جمع لهوة وهي العطية، وأصلها القبضة التي تصب في فم الرحى، ثم كثر ذلك حتى جعلت العطية العظيمة لهوة. والآراء: القياس أن يكون فيها بعد الراء همزة، والنقل جائز. فيقال: الأرآء، كما يقال: آبار في جمع بئر، والأصل: أبآر، وأسآر في جميع سؤر، وأنشد أبو عبيد: [الكامل]
1 / 11
إنا لنضرب جعفرًا بسيوفنا ... ضرب الغريبة تركب الآسارا
يريد الأسآر.
وقوله: [الكامل]
لا تكثر الأموات كثرة قلةٍ ... إلا إذا اشقيت بك الأحياء
يقول: إن الأحياء إذا شقيت بك، وكثرت الأموات، وتلك الكثرة تؤدي إلى القلة؛ إما لأن الأحياء يقلون بمن يموت، وإما لأن الميت في نفسه يقل ..
وقوله: [الكامل]
لم تسم يا هارون إلا بعدما اقـ ... ترعت ونازعت اسمك الأسماء
أجود ما يتأول في هذا أن يكون الاسم هاهنا في معنى الصيت، كم يقال: فلان قد ظهر اسمه؛ أي: قد ذهب صيته في الناس؛ أي: فذكره لا يشاركه فيه أحد، وماله يشترك فيه الناس فإما أن يكون عنى باسمه الذي هو هارون فهذا يحتمله ادعاء الشعراء، وهو مستحيل في الحقيقة؛ لأن العالم لا يخلو أن يكون فيه جماعة يعرفون بها رون ...
وقوله: [الكامل]
لعممت حتى المدن منك ملاء ... ولفت حتى ذا الثناء لفاء
اللفاء في البيت الشيء الناقص.
وقوله: [الكامل]
وإذا مطرت فلا لأنك مجدب ... يسقى الخصيب ويمطر الدأماء
الدأماء البحر، والأجود أن يقال: وتمطر الدأماء؛ لأن فعلاء بناء لا يكون إلا للمؤنث.
1 / 12
وقال الأفوه: [السريع]
والليل كالدأماء مستشعر ... من دونه لونًا كلون السدوس
وقوله: [الكامل]
لم تحك نانلك السحاب وإنما ... حمت به فصبيبها الرحضاء
كأنه جعل السحاب قد حمت إما من حسدها إياه، وإما لفرقها أن تفتضح بجوده، والرحضاء: عرق الحمى.
وقوله:
فبأيما قدمٍ سعيت إلى العلا ... أدم الهلال لأخمصيك حذاء
أدم: جمع أديم: وهو جمع شاذ، وأصل أديم ظاهر الجلد. وقد قالوا: أديم السماء وجلدها على معنى الاستعارة. قال هميان: [الرجز]
فصبحت جابيةً صهار جا
تخاله جلد السماء خارجًا
(٣/ب) وقال قوم: الأديم: باطن الجلد. فأما قوله: أدم الهلال وما جرى مجراه فيحتمل أن يكون الظاهر والباطن، وقال النابغة: [الطويل]
1 / 13
ولم تلفظ الأرض القبور ولم تزل ... نجوم السماء والأديم صحيح
يريد أديمها.
وقوله: [الكامل]
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو ... عقمت بمولد نسلها حواء
يقال: اللذ بكسر الذال واللذ بسكونها قال الراجز: [الرجز]
فكنت في الأمر الذي قد كيدا
كاللذ تزبى زبيةً فاصطيدا
والقافية من المتواتر.
1 / 14
ومن التي أولها
لقد نسبوا الخيام إلى علاء ... أبيت قبوله كل الإباء
وهي على مذهب الخليل من أول الوافر، وعلى مذهب غيره من السحل الرابع.
الخيام في قول الأصمعي لا تكون إلا من الشجر، وهذا شيء أخذه عن الأعراب، وزعم أنها إذا كانت من غير الشجر فهي بيت، وهذا ضد ما عليه الناس اليوم، ولا ريب أنهم قد سموا هذه الأشياء المعروفة في العساكر خيامًا في الكلام القديم. والاشتقاق يدل على أن ذلك صحيح. والتخييم: الإقامة، فلما كانت هذه تستعمل عند النزول سميت خيمة، ويقال: خيام وخيم وخيم، قال المرقش: [السريع]
هل تعرف الدار عفا رسمها ... غير الأثافي ومبنى الخيم
وقال حسنان: [السريع]
ما هاج حسان رسوم المقام ... ومظعن الحي ومبنى الخيام
1 / 15
وقال النابغة الجعدي: [الطويل]
فلم يبق إلا آل خيمٍ منضدٍ ... وآس لدى سفعٍ ونؤي معثلب
والهمزة في العلاء منقلبة عن واو، كان أصله العلاو، فقلبت الواو همزة، وقبلها ألف زائدة. وكذلك تجري حالها في كل المواطن. وهمزة الإباء التي في آخرها منقلبة عن ياء، وأصله إباي، فقلب الياء للعلة التي قلبت لها الواو. والقبول يختارون فيه الفتح، ويزعمون أنه جاء شاذًا، فأما ضم القاف فهو القياس.
وقوله:
وما سلمت فوقك للثريا ... وما سلمت فوقك للسماء
فوقك هاهنا: يحتمل أن يكون على قوله: وما سلمت المكان الذي فوقك؛ فيكون، على هذا، كالصفة الموضوعة مكان الموصوف، كأنه قال: وما سلمت مكانًا فوقك، وأكثر ما يستعمل فوق ظرفًا، وقد أخرجوه إلى الأسماء، وأنشدوا بيتًا قد دخلت فيه الباء الخافضة على فوق. والشعر ينسب إلى عبد بني الحسحاس، وليس هو في ديوانه: [الطويل]
1 / 16
لقيت النساء الحارثيات غدوةً ... بوجه يراه الله غير جميل
فشبهنني كلبًا ولست بفوقه ... ولا دونه إن كان غير بخيل
وقوله:
وقد أوحشت أرض الشام حتى ... سلبت ربوعها ثوب البهاء
الشام: أصله الهمز، وتخفيفه جائز تجعل الهمزة ألفًا خالصة، فيكون مرة على وزن رأس ومرة على وزن مال، إلا أن ألفه غير منقلبة عن واو ولا ياء، ويدل على همزة في الأصل قولهم: أشأم الخليط إذا أخذ نحو الشام، وإذا نسبوا إليه قالوا: شامي بتشديد الياء، فهذا هو القياس. وشذ نسبه في قولهم: شامٍ، وهي ثلاثة أحرف جاءت بتخفيف الياء: شامٍ ويمانٍ وتهامٍ.
وأما قولهم: شآم، فتجيء في شعر المحدثين، وهي كلمة مرغوب عنها، وربما جاءت شاذة. قال الشاعر: [الطويل]
أتتنا قريش قضها بقضيضها ... وأهل الشآم والحجاز تقصف
نصب سيبويه قضها جعله موضوعًا موضع المصدر.
1 / 17
ومن التي أولها
القلب أعلم يا عذول بدائه ... وأحق منك بجفنه وبمائه [الكامل]
وهي من أول الكامل في قول الخليل، ومن السحل الثالث في قول غيره، والقافية من المتدارك قوله: [الكامل]
ما الخل إلا من أود بقلبه ... وأرى بطرفٍ لا يرى بسوائه
مد سواء، وإذا فتح أولها مدت، وإذا كسر أو ضم فهي مقصورة.
وقوله: [الكامل]
إن المعين على الصبابة بالأسى ... أولى برحمة ربها وإخائه
يقول: إن الذي يعين على الصبابة بالأسى؛ أي: الحزن، أولى برحمة ربها؛ أي: كان ينبغي ألا يفعل ذلك، كأنه جعل عذله إياه زيادة في حزنه. ويجوز أن يعني أنك يا عذول كان ينبغي أن تحزن بحزني.
(٤/أ) كما يقال للرجل إذا منع صديقه شيئًا: إن الذي يعين خليله بالمال، وقضاء الحاجة هو الذي يستحق أن يسمى خليلًا ومؤاخيًا. وقد رويت الأسى، بضم الهمزة، من: أسيت الحزين إذا عزيته.
والمعنى أن الذي يقول: لك أسوة بفلان، وفلان أولى بأن يكون خليلًا ناصحًا.
وقوله: [الكامل]
مهلًا فإن العذل من أسقامه ... وترفقًا فالسمع من أعضائه
1 / 18
هذا مجاز واتساع؛ لأن السمع ليس من الأعضاء؛ ولكنه يحمل على أنه أراد موضع السمع من أعضائه؛ أي: الأذن.
وهب الملامة في اللذاذة كالكرى ... مطرودةً بسهاده وبكائه ... [الكامل]
قوله: هب: كلمة في معنى قولهم: احسب ذلك، واعدده، واجعله.
قال أبو دهبل: [الطويل]
هبوني امرأً منكم أضل بعيره ... له ذمة إن الذمام كبير
أي: عدوني أمرأً منكم.
وقوله: [الكامل]
والعشق كالمعشوق يعذب قربه ... للمبتلى وينال من حوبائه
الحوباء النفس، ويقال: هي دم القلب.
[وكان ابن جني يذهب إلى أن قوله: والسيف من أسمائه يعني اللفظة التي هي السيف لا الحديد المضروب، ومبالغة الشعراء لا تمنع أن يكون جوهر السيف من صفة الممدوح].
1 / 19
ومن التي أولها
عذل العواذل حول قلبي التائه ... وهوى الأحبة منه في سودائه
وهي في الوزن كالتي قبلها، وقافيتها من المتدارك.
يقال: عذل وعذل، والتحريك في هذا الموضوع أحسن؛ لأنه أقوى في السمع والغريزة، فيقال: عذلت فلانًا فاعتذل؛ أي: لام نفسه ورجع. ومعتذلات سهيلٍ: أيام شديدات الحر تأتي قبل طلوعه أو بعده، وبعض الناس يرويها: معتدلات، بالدال؛ أي: أنهن قد استوين من شدة الحر، والذي يروي بالذال يريد أنهن يتعاذلن ويأمر بعضهن بعضًا إما بشدة الحر، وإما بالكف عنه.
وقوله: التائه جاء بالهاء الأصلية مع هاء الإضمار في القوافي، وربما فعلت الشعراء ذلك، وهو قليل، ومنه قول الأنصاري: [الكامل]
أبلغ أبا عمروٍ أحيـ ... حة والخطوب لها تشابه
أني أنا الليث الذي ... تخشى مخالبه ونابه
وسوداء القلب وسويداؤه وأسوده وسواده واحد، وهي علقة من دمٍ أسود تكون فيه.
وقوله: [الكامل]
يشكو الملام إلى اللوائم حره ... ويصد حين يلمن عن برحائه
1 / 20
البرحاء: شدة الشوق والحزن، والمعنى أن الملام يشكو إلى اللوائم اللواتي يلمن هذا المحب؛ لأنه إذا وقع في سمعه صار إلى قلبه، فوجد حرارةً شديدةً، وهذا من دعوى الشعراء المستحيلة.
وقوله: [الكامل]
الشمس من حساده والنصر من ... قرنائه والسيف من أسمائه
السيف من أسمائه: يعني اللفظة دون جوهر السيف؛ لأن الحديدة لا تكون من الأسماء، وإنما يكون اسمها؛ لأن الاسم عرض، والحديد جوهر، ولا يكون أحد الجنسين من الآخر، وعلى ذلك فسره أبو الفتح بن جني.
ومن التي أولها
أتنكر يابن إسحاقٍ إخائي ... وتحسب ماء غيري من إنائي
وهي من الوافر الأول على رأي الخليل، ومن السحل الرابع في قول غيره، وقافيتها من المتواتر.
قوله: [الوافر]
أأنطق فيك هجرًا بعد علمي ... بأنك خير من تحت السماء
الهجر: ما لا ينبغي من القول، يقال: أهجر الرجل إذا جاء بالهجر، قال الشماخ: [الطويل]
كما جدة الأعراق قال ابن ضرةٍ ... عليها كلامًا عاب فيه وأهجرا
1 / 21
فإذا قالوا: هجر الرجل فهو بمعنى هذى من الهذيان إذا أريد به الكلام، ومنه قوله تعالى: ﴿مستكبرين به سامرًا تهجرون﴾؛ أي: تهذون. وقد قيل: إن «تهجرون» من الهجر الذي هو القطيعة؛ أي: تهجرون سامرًا لا تحضرونه. وقوله: [الوافر]
وما أرمت على العشرين سني ... فكيف مللت من طول البقاء
وما أرمت: أي: ما زادت، ويقال: رمت وأرمت بمعنى، وقال الشاعر، ويقال: إنه لحاتم الطائي: [الطويل]
ومطردًا لدنًا كأن كعوبه ... نوى القسب قد أرمى ذراعًا على العشر (٤/ب)
وقوله: [الوافر]
تطيع الحاسدين وأنت مرء ... جعلت فداءه وهم فدائي
وأنت مرء، والأجود أن يقال: وأنت امرؤ، ولا تحذف الهمزة من أوله إلا مع الألف واللام إذا قالوا: المرء، وربما استعمل ذلك في الشعر، قال الشاعر: [الطويل]
ولست أرى مرءًا تطول حياته ... فتبقى له الأيام حالًا ولا عما
وقوله:
وهاجي نفسه من لم يميز ... كلامي من كلامهم الهراء
الهراء من القول: مالا نظام له، قال ذو الرمة: [الطويل]
لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
1 / 22