الإتقان في ضوابط تسجيل القرآن

عرفة بن طنطاوي ت. غير معلوم

الإتقان في ضوابط تسجيل القرآن

تصانيف

ملخص البحث فهذا بحث موسوم بـ" الإِتْقَانِ فِي ضَوَابِطِ تَسْجِيِلِ القُرْآنِ". وقد عالج فيه الباحث الآفات التي تعترض حفظ القرآن الكريم "مسجلًا"، ووضع لها ضوابط ومعايير ومقاييس علمية تأصيلية موافقة ومطابقة لما انتهى إليه جمع القرآن في عهوده الثلاثة، وعالج تلك القضية بما يناسب ويلائم التحديات الراهنة في الواقع المعاصر، ثم حذر أشد التحذير من الجرأة على كتاب الله بكل صورها وأشكالها ولا سيما تلاوته بما يسمى بـ" المقامات الموسيقية"، إجلالًا وتوقيرًا وتعظيمًا لكلامه - جَلَّ في علاه-. دِيْبَاجَةُ البَحْثِ الحمد لله الذي بدأ بحمد ذاتِه العليةِ قبل أن يَحْمَده حامدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي له كل المحامدِ، الأحد الصّمَد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، أهل طاعته كلهم له عابدٌ، وهم له قانتون، ما بين قائمٍ وراكعٍ وساجدٍ، حيّ لا يموت؛ قيوم لا ينام، ذو الجلال والإكرام، والهبات الكبيرة العظام؛ تكلم بالقرآن، خلق الإنسانَ، علمه النطق والإفصاح والبيانَ، أنعم على عباده بالهدى والإيمان، فأرسل رسولَه محمدًا ﷺ لجميع الإنس والجان أجمعين، وأيده بالحجة والبرهان المتجددين مع تجدد الْمَلَوينِ، وتعاقب الجديدينِ (^١)؛ أرسله بكتاب عربي

(^١) المَلَوَانِ: اللَّيلُ والنهار، أَوْ طَرَفا النهار، والجديدان أيضًا هما اللَّيلُ والنهار، يُنظر: قاموس المعاني الجامع.

71 / 7

واضح مبين، وجعله فارِقًا بين التوحيد والشرك، وبين الهدى والضلال، والظلمات والنور، والشك واليقين؛ أنزله في أوجزِ لفظٍ وأعجزَ أسلوبٍ، فأعيت بلاغَتُه البلغاءَ فأخرستهم مشاكلتُه، وأعجزت فصاحتُه الفصحاءَ فأعجزتهم معارضَتُه، وأبكمت حكمتُه الحكماءَ فأعْيَتهم مناقضتُه، وأذهلت روعتُه الخطباءَ فأعجزتهم محاكاتُه ومخاطبتُه، فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظَهِيرًا، كما قال ربنا في ذلك قولًا مبينًا: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء: ٨٨). خطة البحث وقد ضمَّن الباحثُ بحثَه خطة بحث مكونة من فصلين، وكل فصل يندرج تحته عدد من المباحث، وكل مبحث يندرج تحته عدد من المطالب، وقد بيَّن فيه ما يلي: أولًا: أهمية موضوع البحث ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث رابعًا: مشكلة البحث وأهدافه خامسًا: منهج البحث سادسًا: خاتمة البحث، وبيان أهم النتائج التي توصلت لها تلك الدراسة المختصرة. سابعًا: مجموع الفهارس: وخطة البحث تشتمل على فصلين على النحو التالي: الفصل الأول العناية بالقرآن وفيه سبعة مباحث: المبحث الأول: وجوب عناية الأمة بالقرآن من كل الوجوه وفيه مطلبان: المطلب الأول: وجوب عناية الأمة بالجمع الصوتي للقرآن "خصوصًا" المطلب الثاني: واجب الجهات المعنية في الأمة تجاه التسجيلات الفردية المبحث الثاني: الضوابط القلبية عند تسجيل القرآن وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: الإخلاص في تلاوة القرآن المطلب الثاني: التخويف من قراءة القرآن لغير الله المطلب الثالث: طبقات الناس وأحوالهم مع قراءة القرآن المطلب الرابع: الإخلاص من أعمال القلوب المبحث الثالث: التخلية والتحلية عند قارئ القرآن وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: أن يكون القارئ عاملًا بالقرآن، متصفًا بالتخلية متحلِّيًا بالتحلية المطلب الثاني: موقف الصحابة ﵃ من العمل بالقرآن المطلب الثالث: أثر القرآن في نفوس الصحابة ﵃ المطلب الرابع: موقف التابعين ﵏ من العمل بالقرآن المبحث الرابع: أهم الضوابط العملية التي يجب مراعاتها عند تسجيل القرآن وفيه ثمانية مطالب: المطلب الأول: مراعاة عموم أحكام التجويد عند تسجيل القرآن المطلب الثاني: عدم التكلف والتعسُّف عند القراءة المطلب الثالث: مرعاة صحة الأداء المطلب الرابع: القراءة بتؤدة واطمئنان

71 / 8

المطلب الخامس: عناية القارئ بالوقف والابتداء المطلب السادس: صفة اتقان علم الوقف والابتداء المطلب السابع: أهمية مراعاة الوقف والابتداء المطلب الثامن: عناية السلف بالوقف والابتداء المبحث الخامس: القراءة بخشوع وتخشع وحضور قلب وفيه مطلبان: المطلب الأول: مفهوم الخشوع لغة وشرعًا المطلب الثاني: كيف ينتفع العبد بالقرآن المبحث السادس: تحسين الصوت بالتلاوة وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: صفة تحسين الصوت بالتلاوة المطلب الثاني: المفهوم الصحيح لمزامير آل داود المطلب الثالث: تحسين الصوت لا ينافي الإخلاص المبحث السابع: فصل النزاع بين التغني و"المقامات الموسيقية" وفيه تسعة مطالب: المطلب الأول: مفهوم معنى الترنم المطلب الثاني: مفهوم معنى" الموسيقى " المطلب الثالث: تيقظ السلف مبكرًا للخلط في مفاهيم بعض الألفاظ المطلب الرابع: حَسْمُ القول في "المقامات الموسيقية" المطلب الخامس: إجماع السلف على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية المطلب السادس: إجماع أهل العلم المعاصرين على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية المطلب السابع: وجوب تنزيه القرآن عن " المقامات الموسيقية"، إجلالًا وتوقيرًا وتعظيمًا لكلام الله المطلب الثامن: التحذير من الجرأة على كتاب الله المطلب التاسع: تفخيم الصوت بالتلاوة الفصل الثاني الإجازة القرآنية وما إليها وفيه مبحثان: المبحث الأول: ضوابط الإجازة القرآنية وفيه ثمانية مطالب: المطلب الأول: أن يكون القارئ حافظًا مجازًا وَمَسْنَدًا المطلب الثاني: مفهوم الإجازة القرآنية المطلب الثالث: أهميةُ الإجازةِ

71 / 9

المطلب الرابع: ضابط شرط الإجازة لمن يُسجل له القرآن المطلب الخامس: الإجازة سنة متبعة المطلب السادس: أبرز من زكاهم النَّبيُّ ﷺ المطلب السابع: قدر ومكانة التزكيات النبوية المطلب الثامن: مكانة الإسناد من الدين المبحث الثاني: أن يكون تسجيل القرآن بصوت رجلٍ "ذكرٍ" وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: حكم صوت المرأة المطلب الثاني: تسبيح المرأة في الصلاة إذا كانت بحضرة الرجال المطلب الثالث: نهي المرآة عن الخضوع بالقول المطلب الرابع: دواعي مناقشة ضابط تسجيل القرآن (بصوت رجلٍ "ذكرٍ") منهجية البحث أولًا: أهمية موضوع البحث تكمن أهمية موضوع البحث في تعرض تَسْجِيِلِ القُرْآنِ لآفات ومعوقات تمنع خروجه مسجلًا بالصورة الصحيحة كالتي انتهى إليها الجمع في عهوده الثلاثة مكتوبًا في الصدور ومحفوظًا في السطور، فأتى هذا البحث لوضع الضوابط والمعايير والمقاييس والأسس والقواعد العلمية التي تضمن حفظه مسجلًا عبر وسائل التسجيل الحديث سليمًا من أي لحن جلي أو خفي، محفوظًا من أي تغيير أو تبديل أو زيادة أو نقصان، كما كان كذلك في عهود الجمع الثلاثة، وذلك تحقيقًا لوعد الله جل في علاه الوارد في قوله سبحانه في محكم آياته: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: ٩). ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها لم يقف الباحث في حدود بحثه الضيق على بحث متأصل تناول ضَوَابِطَ تَسْجِيِلِ القُرْآنِ ببحث علمي مستقل متكامل من جميع الجوانب، ولكن جاء تناول بعض تلك الضوابط ضمن جمع القرآن في مراحله الثلاث في عدد من البحوث العلمية، أو ذكره تنويهًا لا دراسة ومناقشة وتحقيقًا في البعض الآخر منها. ومن أبرزها تلك الدراسة ما يلي: الدراسة الأولى: الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم، أو، المصحف المرتل: بواعثه ومخططاته، المؤلف: الدكتور/ لبيب السعيد، الناشر: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر-القاهرة، تاريخ النشر: ١٣٨٧ هـ، ١٩٦٧ م، (د. ط). وصف البحث: يُعد هذا البحث هو طليعة باكورة أعمال الجمع الصوتي للقرآن الكريم في هذا العصر، وهذه المرحلة تعد المرحلة الرابعة لجمع القرآن، بعد

71 / 10

جمعه في عهوده الثلاثة. ويعود تاريخ هذا الجمع لأكثر من ستة عقود مضت من الزمان، حين تبلورة فكرته في قلب وعقل الدكتور النبيل/ لبيب السعيد (ولد سنة: ١٩١٤ م ــ وتوفي سنة: ١٩٨٨ م)، والذي قام على الفور بعرض فكرته ومشروعه العملاق-الذي لم يسبق له أحد في تاريخ الإسلام- على مجلس إدارة الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم بالقاهرة، والتي كان وقتها رئيسًا لمجلس إدارتها، وكان ذلك تحديدًا في أواخر فبراير أو أوائل مارس ١٩٥٩ م، والذي جاء بحثه (الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم) ترجمة علمية وعملية لهذا المشروع الأول في نوعه في تاريخ الإسلام، والذي تولت طباعته دار الكتاب العربي بالقاهرة سنة ١٣٨٧ هـ كما أسلفنا. والحقيقة أيضًا أن هذا البحث مع كونه بحثًا تاريخيًا يحكي قصة أول جمع صوتي للقرآن في تاريخ الإسلام، ويبين فيه الباحث قصة جمعه وبواعثه وأسبابه وأهدافه وغاياته، والمعوقات التي واجهته حتى تحقق حلمه وخرج مشروعه إلى النور، ومع أنه قدم أئمة الإقراء في تسجيل تلاوات مشروعه، غير إنه ﵀ لم يتعرض لضوابط تسجيل القرآن، غير إن لب بحثه وباكورة عمله فيه تترجم الكثير من هذه الضوابط عمليًا ولو لم يشر إليها لفظًا وخطًا. الدراسة الثانية: "جمع القران في مراحله التاريخية من العصر النبوي إلى العصر الحديث"، تأليف: محمد شرعي أبو زيد، رسالة ماجستير، كلية الشريعة، جامعة الكويت، سنة النشر: ١٤١٩ هـ. وصف البحث: هذا البحث يُبرِز عناية المسلمين بحفظ القرآن من عهد النبوة إلى الآن، ويُؤكِّد أن نقل القرآن حظِيَ بأقصى درجات العناية من المسلمين، ويرُدُّ على شبهات الطاعِنِين من أعداء الإسلام على نقل القرآن الكريم، ولجودة البحث وحسن صياغته وجودة عرضه وسبك أسلوبه وقوة حجته قد أفاد منه الكثير من الباحثين ونهلوا منه. والباحث قد تناول الجمع الصوتي للقرآن في الباب الخامس من بحثه، فناقش فيه: فكرته وأهدافه وقيمته وخطته وتنفيذه وتقويمه -فحسب- وذلك لأنه بحث فرعي وجزء من أطروحة علمية، وأما ضوابط تسجيله وشروطه فلم يتعرض لها، لأن أهداف بحثه متعلقة بمسماه: "جمع القران في مراحله التاريخية من العصر النبوي إلى العصر"، وقصد من مناقشة الجمع الصوتي بداية فكرته وخطة تنفيذه ...... إلخ الدراسة الثالثة: التسجيل الصوتي للقرآن- دراسة نقدية-، بقلم: الدكتور/ كمال قده،

71 / 11

أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها،، بحث منشور- بمجلة البحوث والدراسات، العدد السابع، لعام: ٢٠٠٩ م، التابعة لمعهد اللغات والآداب، المركز الجامعي - جامعة حمه لخضر- بالوادي- الجزائر. وصف البحث: وهذا البحث لا يعد بحثًا علميًا، بل يعد مقالًا أو ورق بحثية لأنه بحث مختصر للغاية إذ يحتوي على ١٨ صفحة فقط، وهو كما يقول مؤلفه: يعالج موضوع التسجيل الصوتي للقرآن منذ بداية ظهوره إلى وقتنا الحاضر، حيث يتناول فيه مؤلِفه أهمية تلك التسجيلات التي سجلت لكبار القرآن. كما تناولت دراسته- تلك- نقد المصاحف المرتلة فكشف فيها عن بعض الأخطاء التي وقعت في بعضها، حتى ينتبه لها السامع ولا يسلم لكل ما يسمع، كما نادى بعرض تلك التسجيلات على لجان متخصص قبل بثها ونشرها. وهذا البحث مع صغر حجمه فقد أجاد فيه الباحث وأفاد، فقد نقد بعض الأخطاء الظاهرة التي وقع فيها بعض القراء، وقد نوه على أهمية الإفادة من تسجيلات كبار القراء، وقد أحسن وأجاد في التنبيه على عدم الاعتماد على تلك التسجيلات في التعلم لأنها وسائل معينة، ولا تعد مصدرًا لتلقي القرآن وتعلمه وحدها، ولا شك أن سماع تلك التسجيلات مفيدة غاية الإفادة للمتعلم غير إنها لا تعد مصدرًا للتلقي ولا يعتمد عليها في التعلم وحدها، إذ لابد في التعلم من التلقي مشافهة من أفواه المعلمين والمشايخ المهرة كما تلقى النبيُ ﷺ القرآنَ عن جبريل ﵇، وكما تلقاه عنه أصحابُه ﵃، وكما تلقاه التابعون عن الصحابة، وهكذا نقل القرآنُ بالتواتر والمشافهة من جيل إلى جيل حتى وصل إلينا هكذا. وكان على الباحث وجوب مراعاة جوانب هامة والانتباه لها، ومن أبرزها ما يلي: ١ - نقده بعض الأخطاء الظاهرة التي وقع فيها قراء بأعيانهم وأسمائهم، وكان الأولى له التنويه على الأخطاء دون ذكر اسم القارئ، لأنه لا يسلم من الخطأ إلا معصوم مؤيد بالوحي. ٢ - ادعاؤه أن بحثه: "يعالج موضوع التسجيل الصوتي للقرآن منذ بداية ظهوره إلى وقتنا الحاضر"، فالناظر في بحثه يجد أن هذا القول في واقع البحث غير متطابق مع مسماه، بل يجده بعيدًا عنه كل البعد ذلك لأنه لم يتعرض لهذا الموضوع ولم يتناوله بالبحث والمدارسة غير إنه ألمح إليه إلماحًا- فحسب - والذي يبدو أن قصر البحث له دور بارز في ذلك، والله أعلم.

71 / 12

٣ - كان على الباحث لزامًا وجوب مناقشة ضوابط تسجيل القرآن وبحثها ومدرساتها من جميع الجوانب، لأن موضوع بحثه هو: "التسجيل الصوتي للقرآن- دراسة نقدية" والحقيقة أنه لم يتناول ضوابط تسجيل القرآن، وهذه الضوابط بينها وبين التسجيل الصوتي علاقة تلازم، غير إنه تكلم عن وجوب العناية بضبطه وقت تسجيله - فحسب-، وهذا غير كاف البتة .. ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث إما عن أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث فهي كثيرة ولكن من أبرزها انتشار تلك التلاوات المسجلة لأعداد كثيرة من القراء غير المؤهلين عبر وسائل التقنية الحديثة بشتى أنواعها ومسمياتها. فجاءت تلك الدراسة المختصرة والمتواضعة لتعالج تلك الظاهرة وفق ضوابط ومعايير ومقاييس علمية تأصيلية بما يناسب ويلائم التحديات الراهنة في واقعنا الحاضر والتي تعترض خروج تلك التسجيلات على الوجه الصحيح الذي انتهى إليه حفظ القرآن في عهوده الثلاثة. رابعًا: مشكلة البحث وأهدافه أ- مشكلة البحث تكمن مشكلة البحث في سرعة انتشار تلك التلاوة المسجلة الغير منضبطة عبر وسائل التقنية الحديثة انتشار النار في الهشيم، مع ما تحويه بين جنبتيها من لحون جلية وخفية، وقد أصبحت عند جماهير غفيرة من عوام المسلمين مصادر تلقي ومصادر تعلم للقرآن، بسبب استحسان الأصوات الندية دون النظر إلى جودة التلاوة وصحة الأداء. ب- أهداف البحث لهذا البحث أهداف عظيمة وجليلة ومن أبزها ما يلي: ١ - التنبيه على مسؤولية الأمة والتنويه على واجبها تجاه كتاب ربها لتنهض بعنايته وصيانته من كل الوجوه. ٢ - وضع أسس وضوابط ومقومات علمية وعملية يجب أن تتحقق فيمن يُسَجَل له القرآن. ٣ - التنبيه على واجب الجهات المعنية في الأمة تجاه التسجيلات الفردية غير المنضبطة والمنتشرة عبر وسائل التقنية الحديثة - خاصة -. ٤ - كما جاءت تلك الدراسة لتنوه على المنكرات التي تصاحب التسجيل الصوتي للقرآن عمومًا وما يسمى بـ "المقامات الموسيقية" على وجه الخصوص.

71 / 13

٥ - وكما أن تلك الدراسة نوهت على الأخطاء الشائعة عند التسجيل الصوت للقرآن وحذرت منها، فقد قدمت الحلول والبدائل الممكنة والمتاحة في حدود القدرات البشرية، وحمَّلت الجهات المعنية في بلاد الإسلام المسؤولية لتقوم بدورها البناء في معالجة تلك الظاهرة قدر الممكن والمتاح عملًا بقوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (التغابن: ١٦) ٦ - وضع ضوابط للإجازة القرآنية لتكون الطريق الصحيح والسبيل السوي والقنطرة النهائية التي يعبر بها إلى التسجيل الصوتي خامسًا: منهج البحث المنهج الوصفي التحليلي فقد قام الباحث بإعداد المادة العلمية المتعلقة بموضوع بحثه "ضَوَابِطِ تَسْجِيِلِ القُرْآنِ"، ثم قام بعرضها عرضًا تحليليًا مرتبًا ترتيبًا حسب الأهمية، ثم وضع يده على موضع الداء وقدم له النافع من الدواء، وأما أهم أهداف وأبرز مشكلات بحثه، فقد قومها ووازنها وقابلها بوضع النتائج والحلول المناسبة وفق التحديات المعاصرة التي تواجه موضوع بحثه، فوضع لها الحلول الممكنة والمتاحة التي يمكنها معالجة مشكلة بحثه بصورة فعلية لا شكلية، وخاطب الجهات المعنية التي بيدها الحل والعقد لحل تلك المعضلات وفق الضوابط والشروط والأسس والقواعد التي أرساها لتَسْجِيِلِ القُرْآنِ الكريم. الفصل الأول العناية بالقرآن وفيه سبعة مباحث: المبحث الأول: وجوب عناية الأمة بالقرآن من كل الوجوه وفيه مطلبان: المطلب الأول: وجوب عناية الأمة بالجمع الصوتي للقرآن "خصوصًا" إن من إجلال كلام الله تعالى العناية به من كل وجه، ومن أجلِّ تلك الوجوه العناية به عند تسجيله، فالقرآن كما اعتُنِيَ به في جمعه في عهوده الثلاثة فضُبِطَ محفوظًا في الصدور، وضُبِطَ كذلك مكتوبًا في السطور، فينبغي كذلك أن يُضبط عن تسجيله عبر وسائل التسجيل المتنوعة المعاصرة. المطلب الثاني: واجب الجهات المعنية في الأمة تجاه التسجيلات الفردية تنبيه من الأهمية بمكان يجدر بنا هنا التنبيه على أمور عظام تتعلق بهذا الشأن ومن أبرزها ما يلي:

71 / 14

أولًا: من المعلوم والمشاهد أن هناك تسجيلات لتلاوات كثيرة مختلفة ومتناثرة في الإذاعات ووسائل البث لا يُحصي عددها كثرة إلا الله ثانيًا: من هذه التسجيلات ما نال واستحق درجة الإتقان لكنه لم يخضع لإشراف أي جهة علمية متخصصة ومعتمدة وموثوقة ثالثًا: يجب أن تخضع تلك التسجيلات لرقابة وإشراف لجان علمية معتمدة من أئمة التخصص، وذلك لضمان إخراجها خالية من أي خطأ من جهة، ولتحوز على اطمئنان المسلمين لها والثقة فيها من جهة أخرى. رابعًا: لو أردنا أن نقيس الجمع الرابع للقرآن ألا وهو "الجمع الصوتي" على جمعه في عهديه الثاني والثالث في عهد الخليفتين الراشدين لوجدنا أنهما مع ثقتهم في الصحابة أجمعين إلا أنهما كونا لجنة بقيادة زيد بن ثابت ووضعوا لها من الأسس والضوابط والشروط المحكمة التي تضمن بها بعد توفيق الله وإعانته خروج المصحف سالمًا من الأخطاء. خامسًا: اللجان العلمية التي تشرف على الجمع الصوتي يجب أن تشبه لجنة الجمع في عهديه الثاني والثالث، فكما أن اللجنة المشرفة على الجمع في ذانك العهدين كانت على أعلى مستوى من الخبرة والإتقان والأمانة والديانة، فكذلك يجب أن يكون الأمر نفسه في لجان الجمع الصوتي، فَتُكَوَّن لجانٌ علمية على أعلى مستوى من أهل التخصص من علماء القراءات وضبط الرسم والتجويد المشهود لهم بالإمامة في ذلك من أهل عصرهم من قبل هيئات علمية متخصصة ومعتمدة، وكما أن الجمع في هذين العهدين كان بصفة رسمية ممن ولاَّهم اللهُ أمرَ المسلمين، فكذلك يجب في هذا الجمع- الصوتي- أن يأخذ صفة-الرسمية- وكما أن المصاحف المطبوعة لا تطبع ولا تنشر إلا بإشراف جهات عليا رسمية ومأمونة وموثوقة ومعتمدة في بلاد الإسلام، كمجمع الملك فهد في المملكة العربية السعودية، وكالأزهر في مصر، فهكذا يجب أن يكون ذلك في المصاحف المرتلة المسجلة-أيضًا- سواء بسواء، وذلك قياسًا على لجنة جمع القرآن في عهديه الثاني والثالث لضمان سلامة تلك التسجيلات التي ستبقى بين يدي المسلمين إلى ما شاء الله. سادسًا: ولذا يجب التأكيد على أن التسجيلات الفردية يجب أن تمنع منعًا باتًا ويمنع خروجها وبثها ونشرها للمسلمين حتى تخضع لإشراف لجان علمية متخصصة ومعتمدة- رسميًا- كما أسلفنا، وبذلك يُضَيَّقُ الخناقٌ على الأعمال الفردية حتى تخضع للرقابة والإشراف العلمي من الهيئات العلمية الموثوقة والمعتمدة في بلاد

71 / 15

الإسلام، وبذلك نضمن عدم العبث بكتاب الله والحد من تلك التسجيلات التي لم ترتق إلى المستوى المطلوب من الاتقان والجودة، وما أكثرها. المبحث الثاني: الضوابط القلبية عند تسجيل القرآن وفيه أربعة مطالب: إنه لمَّا كان من الأهمية بمكان بيان أهم المعايير والضوابط التي ينبغي أن تتحقق فيمن يُسَجَّل له القرآن، وهو "القارئ" الذي يجب أن تتوافر فيه مراعاة آداب التلاوة الظاهرة-والتي تشير غالبًا إلى الآداب الباطنة-، وجودة الأداء المطلوبة، كان لزامًا على الباحث مناقشة ومدارسة تلك الضوابط وفق الخطوات التالية: المطلب الأول: الإخلاص في تلاوة القرآن إن الإخلاص لله تعالى مطلبٌ عزيز، ومقصدٌ نفيس، وهو دليل صلاح العبد وصدق نيته وصلاح طويته وزكاة نفسه، وسلامة إيمانه، وصدق يقينه، وهو مطلب من أعظم مطالب الدين، وإن مراعاة جانب الإخلاص لله تعالى في تلاوة القرآن من أعظم الأمور التي حث عليه الشرع المطهر، ذلك لأن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان لوجهه خالصًا ولشرعه موافقًا، ومن ذلك تلاوة القرآن، التي هي من أجل العبادات، والعبادات مبناها على الإخلاص لله تعالى؛ كما قال ربنا سبحانه: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ (البينة: ٥). المطلب الثاني: التخويف من قراءة القرآن لغير الله ولقد حذر النبي ﷺ أمته وخوفها أيما تخويف فقال في ذلك فيما رواه عنه أبو هريرة ﵁: "إنَّ اللهَ ﵎ إذا كان يومُ القيامةِ، ينزلُ إلى العبادِ (^١)، ليقضيَ بينهم، وكلُّ أمةٍ جاثيةٌ، فأولُ من يُدعى به رجلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، ورجلٌ قُتِلَ في سبيلِ اللهِ، ورجلٌ كثيرِ المالِ، فيقولُ اللهُ ﷿ للقارئ: ألم أُعلِّمْك ما أَنزلتُ على رسولي؟ قال: بلى يا ربِّ، قال: فما عملتَ فيما علمتَ؟ قال: كنتُ أقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، فيقولُ اللهُ ﷿ له: كذبتَ، وتقولُ له الملائكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللهُ ﵎: بل أردتَ أن يقالَ: فلان قارئٌ، وقد قيل ذلك ويُؤتى بصاحبِ

(^١) - وهو نزولًا على الحقيقة يليق بذاته العلية، وهذا هو معتقد أهل السنة، كما هو معتقدهم في سائر صفات الرب جل في علاه -إثباتها على الحقيقة- على وجه يليق بذاته تعالى بلا تأويل ولا تعطيل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل كما قال ربنا: (ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: ١١)

71 / 16

المالِ، فيقولُ اللهُ ﷿: ألم أُوَسِّعْ عليك حتى لم أدعْك تحتاجُ إلى أحدٍ؟ قال: بلى يا ربِّ؛ قال: فماذا عملتَ فيما آتيتُك؟ قال: كنتُ أَصِلُ الرَّحِمَ، أتصدَّقُ. فيقولُ اللهُ له: كذبتَ، وتقولُ الملائكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللهُ ﵎: بل أردتَ أن يُقالَ: فلانٌ جوَادٌ، وقد قيل ذلك. ويؤتَى بالذي قُتِلَ في سبيلِ اللهِ، فيقولُ اللهُ له: فبماذا قُتِلْتَ؟ فيقولُ: أيْ ربِّ! أُمرتُ بالجهادِ في سبيلِك، فقاتلتُ حتى قُتِلتُ، فيقولُ اللهُ له: كذبتَ، وتقولُ الملائكةُ: كذبتَ، ويقولُ اللهُ: بل أردتَ أن يُقالَ: فلانٌ جريءٌ، فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسولُ اللهِ على رُكبتي فقال: يا أبا هريرةَ أولئك الثلاثةُ أولُ خلقِ اللهِ تُسَعَّرُ بهم النارُ يومَ القيامةِ". (^١). وقيل: إنَّما كان هؤلاء الثَّلاثةُ أوَّلَ خلْقِ اللهِ تعالى تُسعَّرُ بهم النَّارُ؛ لكونِ هذه العِباداتِ (تعلُّم القُرآنِ وتَعليمه، الجهاد، والإنفاق) رَفيعةَ القدْرِ عندَ اللهِ تعالى؛ فلمَّا لم يَبتَغِ أصحابُها بها وجْهَ اللهِ تعالى، بلْ طلَبوا بها العاجِلَ في الدّنْيَا، وآثَروا الفانِيَ فيها على الباقي في الآخِرةِ؛ فجازاهم اللهُ تعالى بأنْ جعَلَهم أوَّلَ مَنْ تُسعَّرُ بهم النَّارُ؛ إذ العِقابُ على قدْرِ عِظَمِ الجُرْمِ. وفي الحديثِ: التَّحذيرُ من الرِّياءِ، وبَيانُ شِدَّةِ عُقوبتِه. (^٢) وعن جندب بن عبدالله ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به. (^٣) قال الخطابي (ت: ٣٨٨ هـ) ﵀ تعليقًا على هذا الحديث: أي: من عمل عملًا على غير إخلاص، إنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه، جوزي على ذلك بأن يَشْهَرَه الله ويفضحه، ويبدو عليه ما كان يبطنه ويُسِرُّه من ذلك. (^٤) وقال ﷺ: " تعلموا القرآن، وسلوا الله به الجنة، قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة: رجل يباهي به، ورجل يستأكل به، ورجل يقرؤه لله". (^٥) ولعظم قدر القرآن ومكانته فإنه لا يُطلب به عرضًا زائلا من أعراض الدنيا كشرف المنزلة عند الناس وحسن ثنائهم عليه وصرف وجوههم إليه، أو ارتفاع

(^١) - رواه الترمذي (٢٣٨٢)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (٢٢) (^٢) - يُنظر: شرح الحديث- الدرر السنية. (^٣) - رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب الرياء والسمعة ١١/ ٣٣٦ (٦٤٩٩)، ومسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله ٤/ ٢٢٨٩ (٢٩٨٧). (^٤) - الكبائر، للذهبي (ص: ٦٥). (^٥) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (٢٨٥)، ويُنظر: قيام الليل، محمد بن نصر المروزي (ص: ٧٤).

71 / 17

على أقرانه، أو كطلب رئاسة أو جاه أو مال، أو لقضاء حوائجه والإفسحاء له في المجالس وتصديره فيها، أو نحو ذلك مما سوى التقرب إلى الله تعالى .. من حظوظ النفس ومشتهياتها. ومن أعظم ما يزجر عن هذه الخصال المذمومة قول الله ﷿: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الزمر: ٦٥). المطلب الثالث: طبقات الناس وأحوالهم مع قراءة القرآن لقد ذكر النبي ﷺ أحوال الناس مع قراءة القرآن، وأثره فيهم: كما ثبت في الصحيحين من حديث أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ- ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ؛ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ لَا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ؛ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ. (^١) قال الحافظ ابن حجر (ت: ٨٥٢ هـ) ﵀ في" الفتح": قوله: طعمها طيب، وريحها طيب قيل: خص صفة الإيمان بالطعم، وصفة التلاوة بالريح؛ لأن الإيمان ألزم للمؤمن من القرآن، إذا يمكن حصول الإيمان بدون القراءة. (^٢) وعن إياس بن عامر قال أخذ علي بن أبي طالب (ت: ٤٠ هـ) ﵁ بيدي ثم قال: إنك إن بقيت سيقرأ القرآن ثلاثة أصناف: فصنف لله، وصنف للجدال، وصنف للدنيا ومن طلب به أدرك. (^٣). أي أدرك ما كان يقرأ القرآن من أجله، وهذا أمرٌ واقعٌ وُمشَاهْدٌ في حياة الناس. قال ابن القيم ﵀: والناس في هذا أربع طبقات: الأولى: أهل القرآن والإيمان، وهم أفضل الناس. والثانية: من عدم القرآن والإيمان. والثالثة: من أوتي قرآنًا، ولم يؤتَ إيمانًا. والرابع: من أوتي إيمانًا، ولم يؤتَ قرآنًا. قالوا: فكما أن من أوتي إيمانًا بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآنًا بلا إيمان، فكذلك من أوتي تدبرًا وفهمًا في التلاوة، أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر. (^٤)

(^١) - صحيح البخاري، برقم: (٥٤٢٧)، واللفظ له، وصحيح مسلم، برقم: (٧٩٧). (^٢) - فتح الباري (١١/ ٨١). (^٣) سنن الدارمي (٢/ ٥٢٦). (^٤) - زاد المعاد (١/ ٣٣٨، ٣٣٩). زاد المعاد في هدي خير العباد المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: ٧٥١ هـ) الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت الطبعة: السابعة والعشرون، ١٤١٥ هـ/ ١٩٩٤ م عدد الأجزاء: ٥.

71 / 18

وفي نحو ذلك يروي أحد القراء المعاصرين فيقول: روى لنا شيخنا المُعَمَّر، المقرئ، الشيخ: أبو منير؛ محمد السيد إسماعيل (^١) حفظه الله وأمد في عمره: "أن السلطان: عبد الحميد العثماني، جمع كبار القراء من أقطار العالم الإسلامي، وذلك في قصر يلدز، "وهو قصر الخلافة العثمانية في اسطنبول" وطلب السماع منهم، وكان آخرهم قراءة المقرئ الشيخ: حسين موسى شرف الدين المصري الأزهري "وهو أحد مشايخ شيوخ الشيخ محمد راوي القصة؛ والذي يرد ذكره في شجرة القراء وكان مجاورًا في المدرسة البادرائية بدمشق" وبعد أن أتم القراءة. صفقت زوجة السلطان من وراء الستارة: أن يقرأ آخر مقرئ مرة أخرى. ولما طلب السلطان من الشيخ إعادة القراءة؛ غضب الشيخ وأبى قائلًا: "قرأنا لله؛ ولا نقرأ لفلان، وفلان". (^٢)، فأين قراء زماننا من هذا.؟! قال الحسن البصري (ت: ١١٠ هـ) ﵀: قُرَّاءُ القرآنِ ثلاثة: الأول: رجل اتخذه بضاعة ينقله من مصر إلى مصر، يطلب به ما عند الناس الثاني: وقوم حفظوا حروفه، وضيعوا حدوده، واستدروا به الولاة، واستطالوا به على أهل بلادهم الثالث: ورجل قرأ القرآن، فبدأ بما يعلم من دواء القرآن، فوضعه على داء قلبه، فسهر ليله، وهملت عيناه، وتسربلوا بالخشوع، وارتدوا الحزن، وركدوا في محاريبهم، وحثوا في برانسهم. فبهم يسقيِ اللهُ الغيثَ، وينزل المطر، ويرفع البلاء، والله لهذا الضرب في حملة القرآن أقل من الكبريت الأحمر. (^٣) المطلب الرابع: الإخلاص من أعمال القلوب الإخلاص عمل قلبي والإخلاص وإن كان من أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب، غير إن الله جعل ما يشير إلى ذلك في الظاهر وهو مما يدلل على ما في الباطن غالبًا، ألا وهو التحلي بالخشوع في التلاوة، فمن تحلى بالخشوع في قراءته ظهر أثر ذلك عليه لأولى الألباب، وذلك مصداق ما رواه ابن ماجه في السنن من حديث جابر بن عبدالله ﵁ قال قال رسول الله عليه وسلم: "إن من أحسنِ الناسِ صوتًا بالقرآنِ الذي إذا سمعتَه يقرأُ، رأيتَ أنَّه يخشى اللهَ" (^٤)، ولا شك في أن الخشوع عمل قلبي غير إن الله أظهره على الجوارح.

(^١) الشيخ: أبو منير؛ محمد السيد إسماعيل: وهو من مواليد غوطة دمشق الشرقية - عربيل (عربين) ١٩١٣ م تقريبًا. وهو أحد شيوخي (الكلام لأبي الخير صلاح كرنبه- كاتب المقال) وقد التقيناه من حوالي الشهر في مدينة رسول الله صلى الله علية وسلم حيث جاءها زائرًا بعد تأديته للعمرة وهو من فضل الله بكامل قواه العقلية والجسمية ولكن الذي أعاقه على العطاء في مجال القراءات ضعف سمعه قليلا بارك الله فيه وفي أمثاله من -الصفوة- أهل القرآن أهل الله وخاصته. (^٢) - الإخلاص في تلاوة القرآن، أبو الخير صلاح كرنبه، ملتقى أهل التفسير بتاريخ: ٥/ ٧١٤٢٨ هـ. (^٣) -عيون الأخبار، لابن قتيبة الدينوري: (٢/ ١٤٨). (^٤) - أورده السيوطي في الجامع الصغير (٣٩٦٥) وعزاه لابن ماجه عن جابر، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب فقال: "وروي" وهي من علامات الضعف عنده كما ذكر في مقدمته، فقد خرجه الشيخ أبو إسحاق الجويني في أجوبته عن أسئلة القراء فى مجلة التوحيد المصرية عدد رجب ١٤٢٥ فى باب اسئلة القراء فقال في تخريجه: وأخرجه ابنُ ماجه (٩٣٣١)، والآجري في «أخلاق حملة القرآن» (٣٨)، وفي "فوائده"، وابنُ أبي داود في «كتاب الشريعة» - كما في "إتحاف السادة" (٤/ ١٢٥) - من طرقٍ عن عبد الله بن جعفر المدينيُ، عن إبراهيم ابن إسماعيل بن مجمع، عن أبي الزبير، عن جابرٍ مرفوعًا فذكره. قال العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" (١/ ٦٨٢): "سندُهُ ضعيفٌ". وقال البوصيريّ في "الزوائد" (٦٣٤/ ١): "هذا إسنادٌ ضعيفٌ لضعف إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وعبد الله ابن جعفر". قُلْتُ: وعنعنة أبي الزبير أيضًا، فالصوابُ أن السَّند ضعيفٌ جدًّا، واللهُ أعلمُ. انتهى. وقد صححه الألباني في صحيح الجامع (٢٢٠٢)، وفي صحيح ابن ماجه ج ١ حديث، وخرجه كذلك فى الصحيحة (١٥٨٣).

71 / 19

فإن التَّعبُّدَ للهِ ﷿ بتِلاوَةِ القُرآنِ من أفضَلِ العِباداتِ، خاصَّةً إذا كان بتَدَبُّرٍ وخُشوعِ وعَمَلٍ بما فيه؛ وحتى يَحصُلَ الخُشوعُ في التِّلاوَةِ؛ فإنَّ اللهَ ﷿ أمَر بحُسْنِ التِّلاوَةِ مع التَّدَبُّرِ، وفي هذا الحديثِ: يُخبِرُ النَّبيُّ ﷺ عن ذلك؛ حيثُ قال: "إنَّ مِنْ أحسَنِ النَّاسِ صَوتًا بالقُرآنِ"، أي: أفضَلِ الأصْواتِ تِلاوَةً للقُرْآنِ "الذي إذا سَمِعتَه يَقرَأُ، رَأيتَ أنَّه يَخْشى اللهَ"، أي: أنَّ المَطْلوبَ من تَحْسينِ الصَّوتِ بالقُرآنِ أنْ تُنتِجَ قِراءَتُه خَشيَةَ اللهِ، فمَن رأيتُم فيه الخشيَةَ، فقد حسَّن الصَّوتَ بالقُرآنِ، وهذا حَثٌّ من النَّبيِّ ﷺ على تَحْسينِ الصَّوتِ به، وعلى تَرْتيلِه، فإذا قَرَأَ بهذه الصِّفَةِ، كان أوقَعَ في القَلْبِ وأشَدَّ تأثيرًا لسامِعِه. (^١) وقوله: (حسبتموه يخشى الله) أي المطلوب من تحسين الصوت بالقرآن أن تنتج قراءته خشية الله فمن رأيتم فيه الخشية فقد حسن الصوت بالقرآن المطلوب شرعًا فيعد من أحسن الناس صوتًا. (^٢) ولذا يجب أن يكون الخوف من وقوع الرياء في القراءة باعثًا للقارئ على الإخلاص في قراءته، ولا يكن ذلك الأمر مثبطًا له عن المضي في القراءة بخشوع وحضور قلب؛ فإن الشيطانَ يخوف العبدَ شاهرًا في وجهه سلاح الرياء، ليحمله على ترك العمل الصالح، فالمؤمن يقرأ ويحسن قراءته مبتغيًا بذلك وجه الله تعالى متوكلًا عليه، قائلًا لنفسه "ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله عنهما" (^٣)، وما من أحد عمل عملًا إلا سار في قلبه سَوْرَتان (^٤)، فإذا كانت الأولى منهما لله فلا تَهيدَنَّه الآخرة. (^٥). قال ابن الأثير (ت: ٦٠٦ هـ) ﵀: المعنى: إذا أراد فعلًا وصحت نيته فيه فوسوس له الشيطان فقال: إنك تريد بهذا الرياء، فلا يمنعه ذلك عن فعله. (^٦)

(^١) - يُنظر: شرح الحديث- الدرر السنية (^٢) - حاشية السندي على ابن ماجه: (١/ ٤٠٣). (^٣) - رواه البيهقي في شعب الإيمان (٦٨٧٩) أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت علي بن بندار، يقول: سمعت عبد الله بن محمود، يقول: سمعت محمد بن عبد ربه، يقول: سمعت الفضيل، يقول: فذكره، وإسناده ضعيف. (^٤) - قال ابن الأثير في النهاية (٢/ ٤٢٠) سورة أي ثورة من حدة. ومنه يقال للمعربد سوار. (^٥) - رواه أبو عبيد، في غريب الحديث (٤/ ٤٥١) قال: سمعت ابن عدي يحدث، عن عوف، عن الحسن البصري، قال: فذكره، وإسناده صحيح. (^٦) النهاية في غريب الحديث والأثر (٥/ ٢٨٦). النهاية في غريب الحديث والأثر المؤلف: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفى: ٦٠٦ هـ) الناشر: المكتبة العلمية - بيروت، ١٣٩٩ هـ - ١٩٧٩ م تحقيق: طاهر أحمد الزاوي - محمود محمد الطناحي عدد الأجزاء: ٥.

71 / 20

فالإخلاص أن لا يكون للناس أي حظ من العبادة، ولا يترك المتعبد شيئًا منها لأجلهم. (^١)، ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس، والاحتراز من تطرق ظنونهم الباطلة لا نسد عليه أكثر أبواب الخير، وضيع على نفسه شيئًا عظيمًا من مهمات الدين، وليس هذا طريق العارفين (^٢). فليقبل العبد على ربه وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، كما قال ربنا العظيم: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل: ٩٨ - ١٠١). إذًا فلا بد من استحضار النيَّة عند تلاوة القرآن، ولتكن تلاوته استجابةً لأمره سبحانه القائل في كتابه الكريم: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِين وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ (النمل: ٩١ - ٩٢).

(^١) - يُنظر: شرح عمدة الأحكام لابن العطار (٣/ ١٧١٩). العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام المؤلف: علي بن إبراهيم بن داود بن سلمان بن سليمان، أبو الحسن، علاء الدين ابن العطار (المتوفى: ٧٢٤ هـ) وقف على طبعه والعناية به: نظام محمد صالح يعقوبي الناشر: دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان الطبعة: الأولى، ١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م عدد الأجزاء: ٣. (^٢) الأذكار، للنووي (ص: ١٠). الأذكار المؤلف: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: ٦٧٦ هـ) تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط ﵀ الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان طبعة جديدة منقحة، ١٤١٤ هـ - ١٩٩٤ م.

مبحث: التخلية والتحلية عند قارئ القرآن [¬*] وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: أن يكون القارئ عاملًا بالقرآن، متصفًا بالتخلية متحلِّيًا بالتحلية إن الأصل الدافع لهذا الضابط هو ما سنه الخليفة الراشد والصديق الأول أبو بكر ﵁ حينا اختار "زيدًا" للقيام بمهمة الجمع الثاني فقال له: " إنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، وقدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسولِ اللَّهِ ﷺ، فَتَتَبَّعِ القُرْآنَ فَاجْمَعْهُ" (^١) فقوله: "لا نَتَّهِمُكَ" فيه معنى التخلية عن كل ما تركن إليه النفس، وكل ما تتهم به من الموانع القادحة كخوارم المروءة ومما يشين من الخلال والسمات غير الحميدة. وقوله: "وقدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ لِرَسولِ اللَّهِ ﷺ"، فيه معنى التحلية، وذلك لأن اختياره ﷺ لزيد "كاتبًا للوحي" يُعد تزكية له من أعلى التزكيات، كما أن اعتماد الصديق لمنهج "التخلية والتحلية" في اختياره لزيد يُعد بذلك أول من سن في الإسلام سنة "شهادة الخبرة". بعد رسول الله ﷺ (^٢)، وبذلك تنعقد عليه الثقة وتطمئن إليه النفس. وكما أن هذا الوصف الذي قد اجتمع في زيد في الجمع الأول، قد اعتمده وقرره الخليفة الثالث الراشد عثمان ﵁ في الجمع الثالث في اختياره لزيد ليقوم بهمة الجمع الثالث، وفي ذلك إقرار لما أمضاه الصديق ﵁ واعتمده في اختيار زيد ﵁.

(^١) -البخاري، التفسير: ٤٣١١، فضائل القرآن: ٤٦٠٣، الأحكام: ٦٦٥٤. (^٢) - وقد فعل ذلك متأسيًا برسول الله ﷺ وذلك حين استأجر عبدالله بن أُرَيقط، وكان رجلًا مشركًا خريتًا ليدله على الطريق إلى المدينة؛ فقد روى البخاريُّ عن عَائِشَةَ ﵂ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا، وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ. الحديث رواه البخاري برقم (٢٢٦٤). والخريت: الخبير بطرق الصحراء. واستعماله ﷺ لرجل له خبرة سابقة بمعرفة الطريق يُعد بما نسميه في عصرنا الحاضر بـ: "شهادة الخبرة". [¬*] (تعليق الشاملة): هذا المبحث ليس في المطبوع من المجلة وهو ثابت في المرسل إلينا من المؤلف - حفظه الله -

وهذا الوصف الذي اتصف به زيد يجب أن يتصف به كل من يقوم على في كل عهد من عهوده-كذلك-، وإن كان الوصف نسبيًا بين وصف الصحابي ووصف غيره. ولا شك أن الجمع الرابع" الجمع الصوتي" يندرج تحت مسمى "الجمع". المطلب الثاني: موقف الصحابة ﵃ من العمل بالقرآن لقد أنزلَ الله تعالى القرآنَ على رسوله الكريم ﷺ ليعلّمه أمته، وليكون منهاجًا لهم في حياتهم يتدارسونه ويعملون به، فيأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه. فعَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ﵁، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ، فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا. (^١) قال السندي (ت: ١١٣٨ هـ) ﵀: (حَزَاوِرَةٌ) جمع الحَزْوَر، ويقال له: الحزوَّر بتشديد الواو؛ هو الغلام إذا اشتد وقوي وحَزُم. كذا في الصحاح، وفي النهاية: هو الذي قارب البلوغ قوله: (فازددنا به) أي بسبب القرآن. (^٢) وفي نحو هذا الأدب يقول أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: ٢٢٤ هـ) ﵀: أن يحرص قارئ القرآن على أن يعمل بما قرأه من القرآن الكريم في حياته الدنيا حتى تكون التلاوة حجة له يوم القيامة وليست حجة عليه". (^٣) وهذه هي الحال التي وصفها ابن عمر (ت: ٧٣ هـ) ﵄ بقوله: لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَإِنَّ أَحْدَثَنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ فِيهَا كَمَا تَعْلَمُونَ أَنْتُمُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَا يَدْرِي مَا أَمْرُهُ وَلَا زَاجِرُهُ، وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ يَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ. (^٤) .. (^٥)

(^١) - رواه ابن ماجه (٦١)، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه (١/ ٣٧ - ٣٨). (^٢) - حاشية السندي (١/ ٣١). (^٣) - فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص: ٥١، ٧٥)، البرهان (١/ ٤٤٩: -٤٧٤). فضائل القرآن: المؤلف: أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (المتوفى: ٢٢٤ هـ) تحقيق: مروان العطية، ومحسن خرابة، ووفاء تقي الدين الناشر: دار ابن كثير (دمشق - بيروت) الطبعة: الأولى، ١٤١٥ هـ -١٩٩٥ م. (^٤) -بفتح الدال المهملة بعدها قاف مفتوحة وهو رديء التمر ويابسه وما ليس له اسم خاص وقيل: هو أردأ التمر، غريب الحديث لإبراهيم الحربي (٢/ ٨٨٩) والنهاية لابن الأثير (٢/ ١٧٢). (^٥) - رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (٤/ ٨٤)، رواه الحاكم في المستدرك (١/ ٣٥)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً، ووافقه الذهبي، وصححه ابن منده في " الإيمان " (١٠٦)، والهيثمي في " مجمع الزوائد " (١/ ١٧٠).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: ٧٢٨ هـ) ﵀: - الصحابة أخذوا عن الرسول لفظَ القرآن ومعناه، بل كانوا يأخذون عنه المعاني مجردةً عن ألفاظِه بألفاظٍ أُخَر، كما قال جُندب بن عبد الله البَجَلي وعبد الله بن عمر: تعلَّمنا الإيمانَ ثم تعلَّمنا القرآن، فازددنا إيمانًا. فكان يُعلِّمهم الإيمانَ، وهو المعاني التي نزل بها القرآن من المأمور به والمخبَر عنه المتلقَّى بالطاعة والتصديق، وهذا حق، فإن حفاظ القرآن كانوا أقلَّ من عموم المؤمنين. (^١) ولقد أسهم تقدم الإيمان على حفظ القرآن في جيل الصحابة، وذلك لأنه كان من أول القرآن نزولًا في العهد المكي هو "سور المفصّل" التي تركز على قضايا الإيمان بالله واليوم الآخر وتؤسس الجانب العقدي الذي بُنِي عليه أس الإسلام، وكان ابن مسعود ﵁ يُطْلِق على سور المفصّل "لباب القرآن". "لأنه فصل فيها ما أجمل في غيره". (^٢) فعن عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ ﵂، قالت: " إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلَامِ، نَزَلَ الحَلَالُ وَالحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ: لَا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا، لَقَالُوا: لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) (القمر: ٤٦) وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ البَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ. (^٣) وروى الإمام مالك في "موطئه" عن يحيى بن سعيد القطان، أنّ عبد الله بن مسعود ﵁ قال لإنسان: إِنَّكَ فِي زَمَانٍ قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَيُضَيَّعُ حُرُوفُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ، كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلاةَ، وَيُقْصِرُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، يُبْدُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ، وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَل، قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي، يُطِيلُونَ الْخُطْبَةَ، وَيُقْصِرُونَ الصَّلاةَ، وَيُبْدُونَ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ. (^٤)

(^١) -جواب الاعتراضات المصرية (ص: ١٢). جواب الاعتراضات المصرية علي الفتيا الحموية، ط .... عزير شمس; الناشر: مجمع الفقه الإسلامي - جدة; عدد المجلدات ١. (^٢) مرعاة المفاتيح، كتاب فضائل القرآن (٧/ ٢٥٤). مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح المؤلف: أبو الحسن عبيد الله بن محمد عبد السلام بن خان محمد بن أمان الله بن حسام الدين الرحماني المباركفوري (المتوفى: ١٤١٤ هـ) الناشر: إدارة البحوث العلمية والدعوة والإفتاء - الجامعة السلفية - بنارس الهند الطبعة: الثالثة - ١٤٠٤ هـ، ١٩٨٤ م. (^٣) - رواه البخاري (٤٩٩٣). (^٤) موطأ مالك، كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة (١/ ٥٩٨). الموطأ المؤلف: مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (المتوفى: ١٧٩ هـ) المحقق: محمد مصطفى الأعظمي الناشر: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية - أبو ظبي - الإمارات الطبعة: الأولى، ١٤٢٥ هـ - ٢٠٠٤ م عدد الأجزاء: ٨.

إنما عظُم فيهم من جمع بعض سور القرآن، لما كان من شأنهم العمل بالقرآن، ولذا يقول أنس ﵁: "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا". (^١)، يعني: عظُم شأنه وارتفع قدره فينا، لعمله بمقتضى ما حفظ. ويؤكد ابن عمر ﵄ هذا المعنى فيقول: كان الفاضل من أصحاب رسول الله في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به. (^٢) وتحقيقًا لهذا المطلب الأسنى تراهم يتأخرون جدًا في حفظ السورة من القرآن، وليس هذا من باب العجز عن الحفظ أو قصورًا في ذلك، وإنما لانشغالهم بالعمل بما دلت عليه آيات تلك السورة، فمن ذلك ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر ﵄ قال: تعلم عمر ﵁ البقرة في اثنتي عشرة سنة، لما ختمها نحر جزورًا. (^٣) فهذا الأثر يبين أن طول مكث عمر ﵁ في تعلم سورة البقرة ليس من باب العجز أو الكسل أو التراخي-وحاشاه- ومن هو في فضله ومكانته وسبقه في كل خير وبر- وإنما لأن العلم بالقرآن عندهم اقترن بالعمل به. وها هو ابن مسعود (ت: ٣٢ هـ) ﵁ يؤكد نفس المعنى فيقول: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن مَنْ بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به. (^٤)

(^١) - تفسير البغوي: (٨/ ٢٣٨). معالم التنزيل في تفسير القرآن، المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: ٥١٠ هـ) المحقق: عبد الرزاق المهدي الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الأولى، ١٤٢٠ هـ عدد الأجزاء: ٥ (^٢) تفسير القرطبي (١/ ٣٩). الجامع لأحكام القرآن، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: ٦٧١ هـ) تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش الناشر: دار الكتب المصرية - القاهرة الطبعة: الثانية، ١٣٨٤ هـ - ١٩٦٤ م عدد الأجزاء: ٢٠ جزءا (في ١٠ مجلدات). (^٣) -أخرجه البيهقي في شعب الإيمان: (٣/ ٣٤٦)، وينظر: تفسير القرطبي: (١/ ٤٠). (^٤) - أخلاق أهل القرآن للآجري (ص: ١٠) أخلاق أهل القرآن المؤلف: أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجُرِّيُّ البغدادي (المتوفى: ٣٦٠ هـ) حققه وخرج أحاديثه: الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف بإشراف المكتب السلفي لتحقيق التراث الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان الطبعة: الثالثة، ١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م عدد الأجزاء: ١، ويُنظر: تفسير القرطبي (١/ ٤٠).

المطلب الثالث: أثر القرآن في نفوس الصحابة ﵃- عن أسماء بنت أبي بكر (ت: ٧٣ هـ) ﵄ قالت: كان أصحاب رسول الله ﷺ إذا قرئ عليهم القرآن كما نعتهم الله: تدمع أعينهم وتُقَشعِرُّ جلودهم. (^١)، وهم كذلك كما وصف الله أولياءه في قوله سبحانه: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر: ٢٣). قال ابن منظور (ت: ٧١١ هـ) ﵀: القُشَعْرِيرة: الرِّعْدَة. (^٢) قال ابن كثير (ت: ٧٧٤) ﵀: قَوْلُهُ: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) أَيْ هَذِهِ صِفَةُ الْأَبْرَارِ، عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ الْجَبَّارِ، الْمُهَيْمِنِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، لِمَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُهُمْ مِنَ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ، (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) لِمَا يَرْجُونَ ويُؤمِّلون مِنْ رَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ، فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ سَمَاعَ هَؤُلَاءِ هُوَ تِلَاوَةُ الْآيَاتِ، وَسَمَاعُ أُولَئِكَ نَغَمات لِأَبْيَاتٍ، مِنْ أَصْوَاتِ القَيْنات. (^٣)

(^١) -أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره: (١٨٣٨٣) تفسير ابن أبي حاتم: تفسير القرآن العظيم: المؤلف: أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي، الحنظلي، الرازي ابن أبي حاتم (المتوفى: ٣٢٧ هـ) المحقق: أسعد محمد الطيب الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز - المملكة العربية السعودية الطبعة: الثالثة - ١٤١٩ هـ، ويُنظر: تفسير القرطبي: (١٥/ ٢٤٩). (^٢) - لسان العرب، لابن منظور (٥/ ٩٥). لسان العرب المؤلف: محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: ٧١١ هـ) الناشر: دار صادر - بيروت الطبعة: الثالثة - ١٤١٤ هـ عدد الأجزاء: ١٥. (^٣) القَيْنات: بفتح القاف، وسكون التحتية: أي الإماء المغنيات.، يُنظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للتبريزي، كتاب الفتن، باب أشراط الساعة (١/ ٧٨).

الثَّانِي: أَنَّهُمْ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيَّا، بِأَدَبٍ وَخَشْيَةٍ، وَرَجَاءٍ وَمَحَبَّةٍ، وَفَهْمٍ وَعِلْمٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَلْزَمُونَ الْأَدَبَ عِنْدَ سَمَاعِهَا، كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ ﵃ عِنْدَ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ تِلَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ مَعَ قُلُوبِهِمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. لَمْ يَكُونُوا يتصارخُون وَلَا يَتَكَلَّفُونَ مَا لَيْسَ فِيهِمْ، بَلْ عِنْدَهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ وَالسُّكُونِ وَالْأَدَبِ وَالْخَشْيَةِ مَا لَا يَلْحَقُهُمْ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا فَازُوا بالقِدح المُعَلّى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مَعْمَر قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ، ﵀: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) قَالَ: " هَذَا نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ، نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ تَقْشَعِرَّ جُلُودُهُمْ، وَتَبْكِيَ أَعْيُنُهُمْ، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْعَتْهُمْ بِذَهَابِ عُقُولِهِمْ وَالْغَشَيَانِ عَلَيْهِمْ، إِنَّمَا هَذَا فِي أَهْلِ الْبِدَعِ، وَهَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ". (^١) المطلب الرابع: موقف التابعين ﵏ من العمل بالقرآن كما كان الأمر كذلك في جيل التابعين، وفي ذلك يقول الحسن البصري ﵀: إن هذا القرآن قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، ولم يأتوا الأمر من قِبَل أوله. قال الله تعالى-: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) (ص: ٢٩)، وما تدبُّر آياته إلا اتِّباعُه؛ ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قد قرأت القرآن كله، فما أسقط منه حرفًا وقد- والله - أسقطه كله؛ ما ترى القرآن له في خلق ولا عمل وحتى عن أحدهم ليقول: إني لأقرأ السورة في نَفَس، والله ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الورعة، ومتى كانت القراء تقول مثل هذا؟ لا أكثر الله في الناس مثل هؤلاء. (^٢)

(^١) تفسير ابن كثير: (٧/ ٥٥ - ٥٦)، تفسير ابن كثير: تفسير القرآن العظيم المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: ٧٧٤ هـ) المحقق: سامي بن محمد سلامة الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، ط ٢، ١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م، عدد الأجزاء: ٨.، وينظر: تفسير القرطبي (١٢/ ٥٩). (^٢) - مختصر قيام الليل، للمروزي، ص (١٧٦) مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر، المؤلف: أبو عبد الله محمد بن نصر بن الحجاج المَرْوَزِي (المتوفى: ٢٩٤ هـ) اختصرها: العلامة أحمد بن علي المقريزي الناشر: حديث أكادمي، فيصل اباد - باكستان الطبعة: الأولى، ١٤٠٨ هـ - ١٩٨٨ م عدد الأجزاء: ١، والزهد لابن المبارك، ص (٢٧٤). الزهد والرقائق لابن المبارك (يليه «مَا رَوَاهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي نُسْخَتِهِ زَائِدًا عَلَى مَا رَوَاهُ الْمَرْوَزِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ») المؤلف: أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، التركي ثم المرْوزي (المتوفى: ١٨١ هـ) المحقق: حبيب الرحمن الأعظمي الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت عدد الأجزاء: ١.

وفي هذا يقول ابن القيم ﵀ فيما يرويه عن بعض السلف: نزل القرآن ليُعمَل به فاتَخَذوا تلاوته عملًا؛ ولهذا كان أهل القرآن هم العاملون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم. (^١)

(^١) - زاد المعاد، لابن القيم (١/ ٣٢٣).

المبحث الثالث: أهم الضوابط العملية التي يجب مراعاتها عند تسجيل القرآن وفيه ثمانية مطالب: المطلب الأول: مراعاة عموم أحكام التجويد عند تسجيل القرآن إن قراءة القرآن مع مراعاة أحكام التجويد من أوجب ما يجب على القارئ العناية به ولا سيما عند تسجيل القرآن، والذي سيبقى إلى ما شاء الله، والذي سيستمع إليه- كذلك- من شاء الله من عباده من لا يحصيهم كثرة إلا هو سبحانه. قال ابن الجزري (ت: ٨٣٣ هـ) ﵀ في "النشر": فالتجويد مصدر من جَوَّدَ تجويدًا .... فهو عندهم عبارة عن الإتيان بالقراءة مجودة الألفاظ بريئة من الرداءة في النطق، ومعناه انتهاء الغاية في التصحيح وبلوغ النهاية في التحسين، ولا شك أن الأمة كما هم متعبدون بفهم معاني القرآن وإقامة حدوده متعبدون بتصحيح ألفاظه وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة المتصلة بالنبي ﷺ أفصح

71 / 21

من نطق العربية (^١) التي لا تجوز مخالفتها ولا العدول عنها إلى غيرها. والناس في ذلك بين محسن مأجور ومسيء آثم أو معذور، فمن قدر على تصحيح كلام الله باللفظ الصحيح العربي الفصيح وعدل إلى اللفظ الفاسد العجمي أو النبطي القبيح استغناء بنفسه واستبدادا برأيه وحدسه واتكالًا على ما ألف من حفظه واستكبارًا عن الرجوع إلى عالم يوقفه على صحيح لفظه فإنه مقصر بلا شك وآثم بلا ريب وغاش بلا مرية. (^٢). غير إنه يجب أن يراعى عدم التكلف والتعسف في القراءة والمبالغة في إقامة حروف القرآن والتعسف والتكلف والتقعر في النطق بها، وهذا التعسف والتكلف نهى عنه المعصوم ﷺ عمومًا فقال: " هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ" قَالَهَا ثَلَاثًا. (^٣) والمُتَنَطِّعُونَ: المُتَعَمِّقُون، الغَالُونَ، المُجَاوِزُونَ الحُدَودَ في أقْوَالِهِم وأفْعَالِهِم. وقال العَلاَّمَةُ، شَيْخُ القُرَّاءِ وَالأُدَبَاءِ، أبو الحسن عَلَمُ الدِّيْنِ، أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ السَّخَاوي (ت: ٦٤٣ هـ): ﵀ في مَطْلَعِ قَصِيدَتِهِ الموسومة بـ: (عُمْدَةُ المُفِيدِ وَعُدّةُ الْمُجِيد في مَعْرِفَةِ التَّجْويدِ) (^٤) يَا مَنْ يَرُومُ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ وَيَرُودُ شَأْوَ أَئِمَّةِ الإِتْقَانِ لَا تَحْسَبِ التَّجْوِيدَ مداًّ مُفْرِطًا أَوْ مَدَّ مَا لا مَدَّ فِيهِ لِوَانِ أَوْ أَنْ تُشَدِّدَ بَعْدَ مَدٍّ هَمْزَةً أَوْ أَنْ تَلُوكَ الْحَرْفَ كَالسَّكْرَانِ أَوْ أَنْ تَفُوهَ بِهَمْزَةٍ مُتَهَوِّعًا فَيَفِرّ سَامِعُهَا مِنَ الْغَثَيَانِ لِلْحَرْفِ مِيزَانٌ فَلَا تَكُ طَاغِيًا فِيه وَلَا تَكُ مُخْسِرَ الْمِيزَانِ. وهذا التكلف في إقامة حروف القرآن، يشغل عن الهدف الأسمى والمطلب الأسنى الذي أُنزل القرآن من أجله، ألا وهو: تدبر آياته، والعمل به، وامتثال أوامره، والانتهاء عن نواهيه وحفظ حدوده وإقامتها كما أمر الله فيه.

(^١) هي في الأصل هكذا "الحضرة النبوية الأفصحية"، وهذه ألفاظ لم يدرج عليها كلام السلف، وإنما هي أقرب لكلام المتصوفة الذين يعتقدون حضوره ﷺ مجالسهم. "ويطلق (الدراويش) على الحفلات الدينية التي يحيونها بانتظام، كل يوم من أيام الجمعة: اسم (الحضرات). يُنظر: دائرة المعارف الإسلامية (١٥/ ١٤٠). (^٢) - النشر في القراءات العشر (١/ ٢١٠ - ٢١٣). بتصرف يسير. النشر في القراءات العشر المؤلف: شمس الدين أبو الخير ابن الجزري، محمد بن محمد بن يوسف (المتوفى: ٨٣٣ هـ) المحقق: علي محمد الضباع (المتوفى ١٣٨٠ هـ) الناشر: المطبعة التجارية الكبرى [تصوير دار الكتاب العلمية] عدد الأجزاء: ٢. (^٣) - رواه مسلم (٢٦٧٠). (^٤) - وعمدة المفيد منها نسخ مخطوطة كثيرة، منها: نسخة الظاهرية ٣ (٨٣ - ٨٥) فهرس الظاهرية ١/ ٢٢٢ - ٢٢٤، ٧٦٥٩ (٤٥ - ٤٧).

71 / 22

وقالَ ابنُ الجَزَرِيِّ ﵀ (ت: ٨٣٣ هـ) في مُقَدّمتِهِ: مُكَمِّلًا مِنْ غَيْرِ مَا تَكَلُّفِ بِاللُّطْفِ فِي النُّطْقِ بِلَا تَعَسُّفِ. (^١) المطلب الثاني: عدم التكلف والتعسُّف عند القراءة وفي وصف القراءة الصحيحة يقول مَكِّي بْنُ أَبِي طالبٍ القيسي (ت: ٤٣٧ هـ) ﵀: يجب على القارئ أن يتَوسَّطَ اللفظَ بها، ولا يتعسَّف في شِدَّة إخراجها إذا نَطَق بها، لكنْ يخرِجها بلطافةٍ ورِفْق، لأنها حرْفٌ بَعُد مَخْرَجه، فصَعُب اللفظُ بها لصعوبته. (^٢) يقول ابن الجزري ﵀: فليسَ التجويدُ: بتمضيغ اللِّسَان، ولا بتقعيرِ الفَمِ ولا بتعويج الفكّ، ولا بترعيد الصوتِ، ولا بتمطيط المشدد، ولا بتقطيع المَدِّ، ولا بتطنين الغُنَّات، ولا بحصرَمة الرَّاءات، قِراءةً تنفر منها الطِباعُ، وتمُجُّها القلوبُ والأسماعُ، بل القراءة السهلةُ، العذبةُ، الحلوة اللطيفة، التي لا مَضْغَ فيها، ولا لَوكَ ولا تعَسُّفَ، ولا تكلُّف، ولا تصنُّعَ، ولا تنطُّعَ، ولا تخرج عن طباعِ العرب، وكلامِ الفصحاء بوجْهٍ من وجوه القراءاتِ والأداء. فالتجويد: هو حلية التلاوة وزينة القراءة وهو اعطاء الحروف حقوقها وترتيبها مراتبها ورد الحرف إلى مخرجه وأصله وإلحاقه بنظيره وتصحيح لفظه وتلطيف النطق به على حال صيغته وكمال هيئته من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف … ثم يقول ﵀ أيضًا: وهذه سنة الله ﵎ فيمن يقرأ القرآن مجودًا مصححًا كما أنزل تلتذ الاسماع بتلاوته وتخشع القلوب عند قراءته حتى يكاد أن يسلب العقول ويأخذ بالألباب؛ سر من أسرار الله تعالى يودعه من يشاء من خلقه؛ ولقد أدركنا من شيوخنا من لم يكن له حسن صوت ولا معرفة بالألحان إلا أنه كان جيد الأداء قيمًا باللفظ فكان إذا قرأ أطرب المسامع وأخذ من القلوب بالمجامع وكان الخلق يزدحمون عليه ويجتمعون على الاجتماع إليه ....... مع تركهم جماعات من ذوي الأصوات الحسان عارفين بالمقامات والألحان لخروجهم عن التجويد

(^١) - مقدمة ابن الجزري، باب التجويد، البيت رقم: (٣٢). (^٢) - الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة، لمَكِّي بْنُ أَبِي طالبٍ القيسي (ص: ١٤٥). الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة: تأليف: مكي بن؟؟ابي طالب بن حيوس بن محمد بن مختار القيسي القيرواني ثم الاندلسي القرطبي- تحقيق: أحمد حسن فرحات، سنة النشر: ٢٠١٨ م، ط: ١، الناشر: دار ابن كثير - دمشق - سوريا، عدد المجلدات: ١.

71 / 23

والإتقان ...... وأما اليوم فهذا باب أغلق وطريق سد نسأل الله التوفيق، ونعوذ به من قصور الهمم ونفاق سوق الجهل في العرب والعجم. (^١) وفي نحو ذلك يقول أبو شامة المقدسي (ت: ٦٦٥ هـ): ﵀: لم يبق لمعظم من يطلب القرآن العزيز هِمَّة إلَّا في قوة حفظه، وسرعة سرده، وتحرير النطق بألفاظه، والبحث عن مخارج حروفه، والرغبة في حسن الصوت به، وكل ذلك وإن كان حسنًا ولكن فوقه ما هو أهم وأتم وأولى وأحرى، وهو فهم معانيه، والتفكر فيه، والعمل بمقتضاه، والوقوف عند حدوده، وثمرة خشية الله تعالى من حسن تلاوته. (^٢) ويحذر ابن الجوزي (ت: ٥٩٧ هـ) من هذا التكلف المذموم فيصف قراءة بعض المصلين ويقول رحمه الله تعالى: وقد لبس إبليس عَلَى بعض المصلين فِي مخارج الحروف فتراه يَقُول: الحمد الحمد. فيخرج بإعادة الكلمة عَنْ قانون أدب الصلاة وتارة يلبس عَلَيْهِ فِي تحقيق التشديد وتارة فِي إخراج ضاد المغضوب، ولقد رأيت من يَقُول المغضوب فيخرج بصاقة مَعَ إخراج الضاد؛ لقوة تشديده، وإنما المراد تحقيق الحرف فحسب وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عَنْ فهم التلاوة وكل هذه الوساوس من إبليس. (^٣) قَالَ العلامة المقرئ أبو الحسن على بن مُحَمَّد النوري الصفاقيسي ﵀ (ت: ١١١٨ هـ): وقد كان العالمون بصناعةِ التجويد يَنْطِقُونَ بها سَلِسَةً، سهلةً برفْقٍ، بلا تعَسُّف، ولا تكلُّف، ولا نبرةٍ شديدةٍ، ولا يتمكن أحدٌ من ذلك إلا بالرياضةِ، وتلقِّي ذلك من أفواه أهلِ العِلْم بالقراءة. (^٤) وفي ذكر أصناف المغرورين من أرباب العبادة والعمل يقول أبو حامد الغزَّالي (ت: ٥٠٥ هـ) ﵀: وفرقةٌ أخرى: تغلبُ عليهم الوسوسةُ في إخراجِ حروفِ الفاتحةِ وسائرِ الأذكارِ من مخارجِها، فلا يزالُ يحتاطُ في التشديدات والفرقِ بينَ الضاد والظاء، وتصحيح مخارج الحروفِ في جميعِ صلاتِه، لا يهمُّه غيرُه، ولا يتفكرُ فيما سواه، ذاهلًا عن معنى القرآنِ والاتعاظِ به وصرفِ الفهمِ إلى أسرارِه، وهذا من أقبحِ أنواع الغرورِ، فإنه لم يُكَلَّف الخلقُ في تلاوةِ القرآنِ من تحقيقِ مخارج الحروفِ إلا بما جَرَت به عادتُهم في الكلامِ. ومثال هؤلاء: مثالُ من حملَ رسالةً إلى مجلسِ سلطانٍ وأُمِرَ أن يؤديها على وجهِها، فأخذَ يؤدي الرسالةَ وتأنقَ في مخارج الحروفِ ويكررُها ويعيدُها مرةً بعد أخرى، وهو في ذلك غافلٌ عن مقصودِ الرسالةِ ومراعاةِ حرمةِ المجلسِ، فما أحراه بأن تُقام عليه السياسة ويُرَدُّ إلى دارِ المجانين ويُحكم عليه بفقدِ العقلِ) (^٥). وقال الحافظ الذهبي (ت: ٧٤٨ هـ) ﵀: فالقرَّاءُ المجوِّدَةُ: فيهم تنطعٌ وتحريرٌ زائدٌ يؤدي إلى أن المجودَ القارئَ يبقى مصروفَ الهمةِ إلى مراعاةِ الحروفِ والتنطع في تجويدِها، بحيثُ يشغلُه ذلك عن تدبرِ معاني كتابِ اللهِ تعالى، ويصرفه عن الخشوعِ في التلاوةِ، ويخلِّيه قوي النفس مزدريًا بحفاظ كتاب الله تعالى، فينظر إليهم بعين المقت، وبأن المسلمين يلحنون، وبأن القرَّاءَ لا يحفظون شواذَّ القراءةِ، فليتَ شِعري أنت ماذا عرفتَ وما عملتَ؟! فأما علمُك فقيرٌ صالحٌ، وأما تلاوتُك فثقيلةٌ عريةٌ من الخشيةِ والحزنِ والخوفِ، فاللهُ تعالى يوفِّقُكَ ويُبَصِّرُكُ رُشْدَكَ، يوقظك من مرقدةِ الجهلِ والرياءِ. وضدُّهم قراءُ النغمِ والتمطيطِ، وهؤلاء من قرأ منهم بقلبٍ وخوف قد يُنتفع به في الجملة، فقد رأيتُ منهم من يقرأ صحيحًا

(^١) -يُنظر: النشر في القراءات العشر (١/ ١٦٥)، اللآلئ السنية شرح المقدمة الجزرية (ص: ٦٩). (^٢) المرشد الوجيز (ص: ٤٢١). المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز المؤلف: أبو القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (المتوفى: ٦٦٥ هـ) المحقق: طيار آلتي قولاج، الناشر: دار صادر - بيروت سنة النشر: ١٣٩٥ هـ - ١٩٧٥ م عدد الأجزاء: ١. (^٣) - تلبيس إبليس، لابن الجوزي (١/ ١٢٦). تلبيس إبليس المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: ٥٩٧ هـ) الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان الطبعة: الطبعة الأولى، ١٤٢١ هـ/ ٢٠٠١ م عدد الأجزاء: ١. (^٤) - تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين، للصفاقسي (ص: ٤٧). تنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين عما يقع لهم من الخطأ حال تلاوتهم لكتاب الله المبين المؤلف: علي بن محمد بن سالم، أبو الحسن النوري الصفاقسي (المتوفى: ١١١٨ هـ) المحقق: محمد الشاذلي النيفر الناشر: مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله عدد الأجزاء: ١. (^٥) -الإحياء، الغزالي، (٣/ ٥١٠).

71 / 24

ويطربُ ويبكي، ورأيتُ منهم من إذا قرأَ قسَّى القلوبَ وأبرمَ النفوسَ وبدل كلام اللهِ، وأسوأُهم حالًا "الجنائزية". (^١) وأما القراءة بالروايات وبالجمع فأبعد شيء عن الخشوع، وأقدم شيءٍ على التلاوة بما يُخرِج عن القصد، وشعارهم في تكثير وجوه حمزة وتغليظ تلك اللامات وترقيق الراءات، اقرأ يا رجل وأعفنا من التغليظ والترقيق، وفرط الإمالة والمدود، ووقوف حمزة، فإلى كم هذا؟! وآخر منهم: إن حضر في ختم أو تلا في محراب جعل ديدنه إحضار غرائب الوجوه والسكت والتهوع بالتسهيل، وأتى بكل خلاف ونادى على نفسه أنا "أبو … اعرفوني، فإني عارف بالسبع"، إيش نعمل بك؟! لا وصبحك الله بخير، إنك حجر منجنيق ورصاص على الأفئدة. (^٢). [وعلى هذا المعنى جاء كلامُ غيرهم من أهل العلم، فهذا الإمام ابن القيم ﵀ يقول وهو يذكر مكائد الشيطان على الإنسان: ومنْ ذلك: الوسوسةُ في مخارج الحروفِ، والتنطع فيها … ومنْ تأملَ هديَ رسولِ اللهِ ﷺ وإقرارَه أهلِ كلِّ لسانٍ على قراءتِهم؛ تبيَّنَ له أن التنطعَ والتشدقَ والسوسةَ في إخراجِ الحروفِ ليس من سنته (^٣)] [¬*]. المطلب الثالث: مرعاة صحة الأداء وخاتمة هذا المبحث لريحانة الأداء الشيخ محمود خليل الحصري (ت: ١٤٠٠ هـ) حيث يقول ﵀ عن صحة الترتيل: الترتيل: وهو تجويد كلماته، وتقويم حروفه، وتحسين أدائه، بإعطاء كل حرفٍ حقَّه، ومنحه مستحقَّه من الإجادة والإتقان، والتحقيق والإحسان. ولا يكون ذلك إلا بتصحيح إخراج كلِّ حرفٍ من مخرجه الأصلي المختصِّ به، تصحيحًا يمتاز به عن مُقارِبِه، وتَوْفِيَة كلِّ حرفٍ صفته المعروفة به توفيةً تُخرجه عن مجانِسه، مع تيسير النطق به على صفته الحقيقية، وهيئته القرآنية. ومع العناية بإبانة الحروف، وتمييز بعضها من بعض، وإظهار التَّشديدات، وتحقيق الهَمَزات، وتوفية الغُنَّات، وإتمام الحركات، والإتيان بكلٍّ من الإظهار والإدغام والقَلْب والإخفاء على حقيقته التي وردت عن أئمَّة القرآن. ومع تفخيم ما يجب تفخيمه من الحروف، وترقيق ما يجب ترقيقه منها، وقَصْر ما ينبغي قَصْرُه، ومَدِّ ما يتعين مدُّه، ومع ملاحظة الجائز من الوقوف، والممنوع منه؛ ليوقَفَ على ما يصحُّ الوَقْف عليه، ويوصَلَ ما لا يصحُّ الوَقْف عليه. ثم هو يحذر من التعسف والتشدق فيقول: على أن يكون ذلك كله من غير تشدُّق ولا إسراف، ولا تصنُّع ولا اعتساف، ولا خروج عن الجادَّة إلى حدِّ الإفراط الذي قد

(^١) -الجنائزية: نسبة إلى الجنائز، لعله يقصد القراء الذين يقرءون القرآن على الجنائز بالألحان المحرمة على ما سبق بيانه، والله أعلم. (^٢) بيان زغل العلم بالطلب، الذهبي، ص (٤ - ٥)، طبعة المقدسي، ويُنظر: بدع القراء القديمة والمعاصرة، بكر أبو زيد (ص: ٢٤ - ٢٥). بدع القراء القديمة والمعاصرة، المؤلف: بكر بن عبد الله أبو زيد، الناشر: دار الفاروق، سنة النشر: ١٤١٠ - ١٩٩٠، ط: ١، عدد المجلدات: ١. (^٣) إغاثة اللهفان، ابن القيم، (١/ ٢٥٢، ٢٥٤). إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: ٧٥١ هـ) المحقق: محمد حامد الفقي الناشر: مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية عدد الأجزاء: ٢. ، ويُنظر: بدع القراء القديمة والمعاصرة، بكر أبو زيد، ص (١٠). للاستزادة يُنظر: بدعة التنطع بالقراءة والوسوسة في مخارج الحروف والبعد عن التدبر والتأمل، محمد بن عبدالله المقدي، مركز إحسان للاستشارات التربوية [¬*] (تعليق الشاملة): مابين المعكوفين ليس في المطبوع من المجلة وهو ثابت في المرسل إلينا من المؤلف - حفظه الله -

71 / 25

ينشأ عنه تحريك السواكن، وتوليد الحروف، وتكرير الراءات، وتطنين النونات بالمبالغة في الغنَّات، إلى غير ذلك مما ينفر منه الطَّبْع السليم، ويأباه الذَّوْق المستقيم. ثم هو يحذر القارئ من الإسراع والعَجَلَة في القراءة، ويوجه إلى التؤدة والاطمئنان فيقول ﵀: وعلى أن يكون ذلك كلُّه - أيضًا - في تؤدةٍ وطمأنينةٍ، وبُعْدٍ عن الإسراع والعَجَلَة. وهذه الكيفيَّة هي التي نزل بها القرآن الكريم، وهي المرادة من الترتيل الذي أمر الله به نبيَّه محمدًا ﷺ في قوله تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا) (المزمل: ٤). (^١) المطلب الرابع: القراءة بتؤدة واطمئنان وهذا الضابط من الأهمية بمكان لتفادي أي لحن خفي، إذ إن الكثير من القراء المعاصرين لهم اختلاسات واضحة وجلية تظهر لأهل التحقيق والتدقيق من أئمة الأداء وسادة الإقراء لأول وهلة، وذلك يرجع غالبًا للهجة القارئ ومنشئه، إذ اللهجات المحلية لبعض البلدان والقبائل يغلب عليها اختلاس بعض حركات الحروف كما هو معروف. والمطلوب من قارئ القرآن هو القراءة بتؤدة واطمئنان وترسل وتمهل مع العناية بتبيّن الحروف، مع عدم العجلة المخلة بالقراءة؛ كما قال الله تعالى: (ورتّل القُرآنَ تَرتِيْلًا) (المزمل: ٤) والترتيل كما هو معلوم تبيين الحروف وإظهارها، ولا يكون ذلك إلا بإخراجها من مخارجها. قال الزجاج (ت: ٣١١ هـ) ﵀: رتّل القرآن ترتيلًا، بينه تبيينًا، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن، إنما يتم بأن يبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع. (^٢) وقال ابن الجزري (ت: ٨٣٣ هـ) ﵀: الترتيل مصدر من رتل فلان كلامه؛ إذا أتبع بعضه بعضًا على مكث … قال صاحب العين: "رتلت الكلام: تمهلت فيه. (^٣) ومراتب القراءة وإن كان قد قال عنها بعض أهل التجويد أنها أربعة مراتب من جهة الإسراع والبطء، وهي: "التحقيق، والتدوير، والترتيل، والحدر" (^٤)، والبعض

(^١) أحكام قراءة القرآن الكريم، للشيخ محمود خليل الحصري (ص: ٣٨٩). أحكام قراءة القرآن الكريم- محمود خليل الحصري المتوفى سنة ١٤٠١ هـ، تحقيق محمد طلحة بلال، جماعة تحفيظ القرآن الكريم بمكة المكرمة الطبعة الأولى ١٤١٦ هـ - ١٩٩٥ م. (^٢) - يُنظر: تفسير الفخر الرازي (١٦/ ١٠٧). (^٣) - التمهيد، لابن الجزري (١/ ٥٩). (^٤) - كـ "القسطلاني" في اللآلئ السنية ص ٥٢.

71 / 26