الإمَامُ البِقَاعِيّ
جهادُه ومنهاجُ تأوِيله بلاغة
القرْآن الكَرِيم
إعداد
محمود توفيق محمد سعد أستاذ البلاغة والنقد ورئيس القسم في كلية اللغة العربية جامعة الأزهر الشريف شبين الكوم.
الطبعة الأولى
١٤٢٤هـ
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
ملحوظة مهمة)
هذا البحث قد تمَّ نشلره في القاهرة - مكتبة وهبة
وعنواها: القاهرة شارع الجمهورية - عابدين - هاتف رقم ٣٩١٧٤٧٠
وقد وضعته هنا لمن لم يتسير له اقتناء النسخة الورقية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
﴿الْحَمْدُ للهِ رَبّ الْعالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ﴾
اللهمَّ صلِّ على مُحمدٍ وعلى آلِ مُحمَّدٍ كما صلّيت علَى إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ إنّك حميدٌ مَجيدٌ، وباركْ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما باركت على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ
أمَّا بعدُ، فإنَّ من سنَّة الله ﷿ في خلقه أنَّه ما أوغلت أمة من الأمم في البعد عن طاعة الله ﷾ ورضوانه، واستهترت في الذنوب والمعاصي إلاَّ أقام فيها نبيًّا أو أرسلَ رسولا
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر:٢٤)
حتى كانت خاتم الأمم: أمَّة العربِ اتَّخذت الشرك دينا والظلم منهاجا والآثام احترافا، فأرسل فيها خاتمَ الرُّسلِ وأكرمَهم عليه ﷻ سيدنا محمد بن عبد الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وأنزل عليه"القرآن الكريم" وجعله الكتابَ المُصدِّق لما بين يديه والمُهَيْمِنَ والناسخ للشرائع التي سبقته:
1 / 1
﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (المائدة:٤٨)
ولمَّا كان النبي محمد ﷺ خاتم الرسل وكانت أمته: أمة الدعوة أبسط الأمم موطنًا وأمدَّ الأممِ زمانًا، وكان لزامًا أن يُوغِل بعضُ هذه الأمةِ بل وأغلبُها في البُعد عمَّا يرضي رب العالمين ﷻ، وليس من نبيّ آت من بعده، كان من فضل الله ﷿ على هذه الأمة أن يبعث فيها على رأس كل مئة سنة من يُجدِّد لها دينها:
روى "أبو داود ﵃ في سننه في صدر كتاب الملاحم بسنده عن أبي هريرة ﵃ أنَّ رسول الله ﷺ قال:
" إنّ الله يَبْعَثُ لهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأسِ كُلّ مِئَةِ سَنَةٍ مَن يجَدِّدُ لها دِينَها "
أولئك المبعوثون إنَّما هم أئمة العلماء: ورثة الأنبياء، يجددون لهذه الأمَّة فقه دينها، فيتجدد لها تدينها، وحسن التزامها في سلوكها بما جاءها عن الله ﷿ في كتابه وعن النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا في سنته المطهرة على النحو الذي يرضي به الله ﷿
إنّ تجديد العلماء: ورثة الأنبياء للدين إنّما هو تجديد فهم للكتاب والسنة فهما يبعث الناس على حسن التديُّن بالكتاب والسنة وليس غيرهما.
1 / 2
ومن لطيف وبديع البيان النبوي أنَّ ما يكون فيه تجديد العلماء المبعوثين على رأس كل مئة سنة سمَّاه " دينًا " أي تديّنًا.
في هذا إشارة نبوية إلى أنَّ ما يكون من العلماء في فهم الدين (النَّصِّ/ الخطاب الإلهي والنبويّ للأمّة) هو من الدَّين (التَّدين) وليس شيئا خارجا عن الكتاب والسنة بل هو شيءٌ خارج منهما، فاجتهاد العالم في فهم الكتاب والسنة وفق أصول الفهم الصحيح لهما هو من الكتاب والسنة، فعَلى الأمّة ألاَّ تطمَئِنَّ إلى اجتهادٍ إلاَّ إذا كان من عالمٍ بالكتاب والسنَّة وطرائق فقههما، وأن يكونَ اطمئنانُها إلى ما جاء عن مجامعِ أهلِ العِلْمِ أقوى من اطمئنانها إلى ما جاءت به الغرائب والفرائد من اجتهادات فردية، فنحن اليوم في سياق الاجتهاد الجَمْعِىِّ الذي يتظاهر ويتعاون عليه جمعٌ من أهل العلم المتخصصين المخلصين، فإنَّ في اجتماعهم وتشاورهم وتناصحهم مأمنًا من العثرة، ومن إغواء شيطان أو جرأة سلطان.
وفي هذا أيضًا هديٌ نبويٌّ للأمّة أنَّ ما يأتي به العلماءُ من اجتهاد في فقه وفهم الكتاب والسنّة وفقَ أصولِ الفقه والفهم عن الله رب العالمين وعن رسوله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إنَّما فيه خير هذه الأمة، وأنّ عليها أن تقبل على هذا الخير وأن تشكر الله ﷿ على أنْ أقام فيها من يجدد لها فقهها وفهمها لكتابه وسنة نبيه ﷺ، فيكون من ذلك التجديد في الفقه والفهم تجديد التدين بالكتاب والسنة
وفي هذا هدْيُ نبويٌّ للأمة – أيضًا – أن ترعى لعلماء الكتاب والسنة العاملين بهما حقّهم، فلا يعتدى على أعراضهم وسيرهم، ولا يسمع لمقال مفسد يرمى بإفكه في آذان الدهماء بما يجرح صور علماء الأمة في أفئدة أبنائها، فيرغبون عنهم إلى غيرهم من الذين يتكسبون عرض الدنيا بالقول في كتاب الله ﷿ وسنة نبيه ﷺ
1 / 3
وفي البعث على رأس كل مئة سنة إشارة إلى أن الله ﷿ من فيض رحمانيته ورحيميته لم يدع هذه الأمة تقيم في الإيغال في المعصية والاستهتار في البعد عن الطاعة أمدًا طويلا بل يجعل في كل جيل من أجيالها من يُجدِّد لها دينها، فلا تتراكم الدياجير عليها، فيكون إخراجها من تلك الدياجير غير عسير؛ لأنَّ من أقام في ظلمات المعصية أمدًا بعيدًا كان غير يسير على من قام لإخراجه منها أن ينجز ما قام له،وهذا من فيض العون الإلهي لورثة النبي ﷺ
المجدد المبعوث على رأس كلِّ سنة لايكون واحدًا بل يكون البعث لأكثر من واحد في مجالات عدة، ومن ثمَّ فإنِّي أعدُّ بعضًا من أهل العلم في قرن واحد ومجالاتٍ من الفقه في الكتاب والسنَّة ممن ابتعثهم الله ﷿ يجدد لهذه الأمة دينها: فهم كتابه وسنة نبيه ﷺ
في القرن التاسع الهجري مجددون لهذه الأمة منهم "برهان الدين البقاعي" صاحب تفسير" نظم الدرر"، جدّد لهذه الأمّة فهم كتاب الله ﷿
وقدرغبت في أن أعدّ هذا الكتاب عن حياة عقله وجهاد قلمه ومنهاج تأويلِه بلاغة القرآن الكريم وأنشره في طلاب العلم بالكتاب والسنة.
ومن ثَمَّ جعلتُ الكتابَ بابين:
الأول: جهاده في طلب العلم وتعليمه.
والباب الثاني جعلته لتبيان منهاجه في تأويل بلاغة القرآن الكريم
وقد حرَصْتُ على أنْ أذكر نماذج من تفسيره " نظم الدرر" لما أراه معلما من معالم منهاجه في تأويل القرآن الكريم عسى أن يكونَ في قراءة هذه النماذجِ ما يُغري القارئَ بالقراءةِ في تفسيره نفسه قراءةَ بحثٍ وعرفان جديرٍ بالصبر والمصابرة
1 / 4
في عصر تنادى شرزمة بأنّه لا يسعها ما وسع الصحابة في عهد النبوة، وبأنَّ علينا أن نعيد قراءة القرآن الكريم قراءة عصرية تتواكب مع حركة الحياة في عصر (العولمة) فتكاثرت الأسفار بتلك القراءات التى ليس من همِّها في المقام الأول إلاَّ تَسْفِيهِ التُّراثِ التأويليِّ لأهلِ السُّنَّة والجماعة واستعلاء شأن التأويل الفلسفيِّ للقرآن الكريم الذي تولى كبره شرزمة من المنسوبين إلى العلماء من أمثال "ابن عربي" وتفسيرات بعضِ المعتزلة الذين يجاهد بعض المشتغلين بالعلم في نشر منهاجهم العقلي المستعلِي على النصّ والدعوة إلى أن النصّ ليس مقدمًا على العقلِ بل للعقل المجرَّدِ من التَّبعيَّة للنصّ سلطان على النّصِّ وإن كان متواترًا.
ومن ثمَّ رأينا من يحاول مخفقا أن يطبق المناهج الأعجمية في نقد النصوص الأدبية على البيان القرآنيّ،ورأينا من ينادي في تلاميذه بوجوب دراسة القرآن الكريم " دراسة أدبية " وأنَّ أيَّ درس للقرآن الكريم لا يقوم على هذه الدراسة الأدبية هو درس عقيم وأنَّ الدرس الأدبي قائم على نزع الإيمان بقدسية النص في أثناء دراسته، فيكون محل مناقدة كمثل أي نصّ، فإذا ما انتهت الدراسة الأدبية للنصّ، فله أن يعودَ إلى إقامة قدسيّة النصّ القرآنيّ في قلبه، هكذا وكأنَّ قدسية القرآن الكريم وإقامتها في القلب رداء أو ما دونه ينزع متى شاء النازع ويُوضع متى شاء.
كلّ هذا بدعوى الموضوعيّة العلميّة في البحث العلميّ، وغير هذا كثير تموج به الصحائف المنشورة في العباد
1 / 5
ولعَلّي لأنشرُ قريبا إن شاء الله تعالى في طلاب العلم كتابًا قائما ببيان ضوابط فقه المعنى من الكتب والسنة قد فرغت بحمدالله ﷿ من إعداد مسودته الأولى، وأسأل الله ﷿ العون على تنقيحه وتبيضه عسي أن يكون فيه عونٌ لمن يبحث عن الحق فيَسْتَبْصِره ولعلِّى أقوِّضُ شيئًا ممَّا يبنى المفسدون من مسجد ضرار، فأكون ساعيًا إلى أداء بعض ما فرض علينا من النصيحة لكتاب الله ﷻ.
روى الإمام "مسلم" ﵁ في صحيحه من كتاب الإيمان بسنده عن"تميم الداريّ" ﵁ أنَّ النّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا قال:
" الدّينُ النَّصيحةُ. قلنا: لمن؟ قال: " لله ولكِتابِه ولرسُولِه ولأئمَّة المسلمين وعامتهم "
ولوأنَّ كلَّ طالب علم ومشتغلٍ به أقام ذلك الحديث الجليل نصب عينيه، وكان على ذُكْرٍ من أنَّ مجال الجهاد بالكلمة الحقّ والمرابطة في تحقيق الحقائق العلمية في باب العقيدة والشريعة باب وسيع من أبواب الجهاد في سبيل الله ﷿، لاستعذب ماسيلقى في ذلك السبيل من فتن ومحن، وقد قال الله ﷿ لنا:
﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ (الفرقان: من الآية٢٠)
1 / 6
وإنَّ من أشدَّ الفتن التي تهلك غير قليل من طُلاَّبِ العِلْمِ في زماننا فتنة إعلاء ذوى الأمر والسلطان من شأن أهل الفسق والعصيان وتقريبهم وتوليتهم كثيرًا من شؤون البلاد والعباد، وإغداق الأموال وصنوف التكريم عليهم وإبعاد أهل العلم والتقوى والتغافل عن تكريمهم إذا ما أحسنوا، فظنَّ صغار طلابُ العلمِ أنَّ في هذا ما يشفع لهم في الإعراض عن المجاهدة في باب العلم والمرابطة في ثغور الدعوة وتنوير القلوب بمعانى الهدى من الكتاب والسنة، وفيه ما يسوغ لهم الارتماء في أخضان إخوان الشياطين وتكثير سواد أهل الحل والعقد في شؤون البلاد، فتسارعوا إلى أبواب كل ذي سلطان وأعرضوا عن أبواب وراثة سيد المرسلين صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إنَّ مما يجدر بكلٍّ داعية إلى الله ﷾ مجاهد بكلمة الحقّ مصاحبة سورة " العنكبوت" ترتيلا، وفقها، وتخلقًا بما فيها من معانى الهدي إلى الصراط المستقيم هي سورة قائمة بالتحريض على المجاهدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتصدي لباطل أهل الدنيا، فإنَّهم في باطلهم وإن بَدَوا في ظاهرِ النَّظرِ أقوياءَ مَنَعَةً، فهم في حقيقتهم يحتمون بما هو أوهى من بيت العنكبوت، لايتردَّى فيه إلا من خُدِعَ به أمَّا أهل البصيرة فإنهم القادرون على اجتثاثه.
﴿ألم*أَحَسِبَ النَاسُ أن يّتْرَكُوا أن يّقُولُوا آمنَّا وَهُمْ لايُفتَنُون * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذينَ مِنْ قَبْلِهمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ (العنكبوت:١-٢)
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت:٦٩)
1 / 7
فانظر راشدًا مطلع التلاوة من تلك السورة ومقطعها، فإنَّ فيها ما يفتقر كل داعية إلى الله ﷿ – وكل مسلم داعية بلسان حاله – إلى أن يقوم طويلًا في فقهِ وفهمِ ما هو مَكْنُونٌ فيها من معانى الهدى إلى الصراط المستقيم، فإنْ جمعتَ إلى ذلك فقه وفهم معانيَ الهُدَى في سورة (النحل) كان لك من ذلك زادٌ كريم لا يفنى ولا تنقضي عجائبه ولذائذه
وإنَّ مما ينفع طالب العلم ويعينه بإذن الله ﷿ حسن قراءة حياة الأئمة من العلماء بالكتاب والسنة ولا سيّما في عصور الطغيان وتكاثر متاع الحياة الدنيا، ففي كل عصر من تلك العصور علماء أئمة عضّوا على الهدى بنواجذهم واستمسكوا بالهدى، وما ألقوا بجباههم من تحت نعال ذوى السلطة بل قالوا كلمة الحق واشعلوا مصابيح الهدى في دياجير الباطل.
وإنّ علينا أن نقدم حياة أولئك العلماء القائمين الشامخين في وجه الطغيان الصابرين على مناصرة الحق والصابرين عن إغراء المال والسلطة والجاه المنثور من تحت أقدام الشيطان
اللهم أني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت الواحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن تصلي وتسلّم وتباركَ على عبدك ونبيّك ورسولك محمد بن عبد الله وعلى آله وأزواجه وصحبه وورثته من أهل العلم في كلّ لمحة ونفسٍ عدد خلقك ورضاء نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك
وأن تجعلنى ووالديّ وذريتي وأهل بيتي من أهل القرآن الكريم ظاهرًا وباطنا في الدّارين
وأن ترفع بالقرآن الكريم بين عبادك الصالحين ذكري في الدنيا والآخرة
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (البقرة: من الآية٢٠١)
1 / 8
وأن تجزي عبدك " برهان الدين البقاعي " عن القرآن الكريم خير الجزاء فقد كان فيما أحسب ولا أذكي على الله ﷿ أحدًا ناصحا لكتاب الله ﷻ بما قدمه لنا من تفسيره: (نظم الدرر)، وأن تجزيه عنى وعن طلاب العلم بكتاب الله ﷾ ولسان العربية أفضلَ ما جازيت عالمًا عن طلاب علمه.
وأن تحزي عنى والديّ بما ربياني صغيرًا وأغرياني بأن أكون من أهل طلب العلم بكتاب الله ﷿ وسنة رسوله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَىآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا
وأن تجزي عنى خيرالجزاء، وأكرمه، وأدومه شيخي": " مُحَمَّد أبو مُوسَى" الذي جلست بين يديه الكريمة بالعطاء في قاعات العلم بجامعة الأزهر الشريف، فإنَّ له يدًا باقية مجيدة حميدة في محبتي الاعتكاف على فقه لسان العربية في البيان العالى شعرا ونثرًا والبيان العَلِىّ المعجز: قرآنا وسنة وعلى نشرذلك وتعليمه للعباد، وقد علمنى - أعزّه الله - أنَّ ذلك باب رئيس من أبواب إنقاذ الأمة من براثن الجهالة والمذلة
وقد كان له - رفع الله ﷿ ذكره بالقرآن الكريم في الدارين - وما يزال أثرٌ نافذٌ في كثير من طلاب علم العربية، ألقى بنور عقله وقلبه على الصراط فمهَّد وأغرى، ولا يكاد يجحد فضله ويده إلا جاهل أو حانق، وسيبقى أثره فينا إن شاء الله ﷿ ما بقيت لنا على الأرض حياة وحسبه من نعيم الدنيا ذلك
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ورسوله محمد بن عبد الله وعلى آله وأزواجه وصحبه وورثته من أهل العلم ومن والاه في كلّ لمحة ونفس بعدد كل معلوم لديه والحمد لله رب العالمين
وكتبه
محمود توفيق محمد سعد
الأستاذ في جامعة الأزهر
القاهرة: حدائق الزيتون
ربيع الأول ١٤٢٣
1 / 9
الباب الأول: جهاده في طلب العلم وتعليمه.
جهاده
توطئة.
إنَّ الله ﷿ لمَّا جعل عبده سيّدنَا محمدًا صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا خاتمَ الأنبياءِ والمرسلين،وجعل دينه:الإسلامَ خاتم الأديان، وللناس كافة:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (سبأ:٢٨)
وكان من شأن الناس حاجتهم إلى من يأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم: صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُور ُ﴾ (الشورى:٥٣)
جعل ذلك رسالة العلماء من بعده ﷺ، فكانوا نُجومَ الأُمَّةِ كما أخبر ﷺ فيما رواه "أحمد" ﵃ في مسنده عن "انس بن مالكٍ ﵃:" قال النبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا:
" إنَّ مثَلَ العُلماء فِي الأرضِ كَمَلِ النٌّجومِ فِي السَّماءِ يُهتَدَى بِها فِي ظُلُماتِ البَّرِّ وَالبَحْرِ، فإذا انْطَمَسَتِ النُّجومُ أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الهُداةُ "
(مسند أحمد ج٣ص١٥٧)
وجعلهم ورثة الأنبياء: روي "أحمد" ﵃ في مسنده عن "أبي الدرداء ﵃ "أنَّه سَمِعَ رسولَ الله ﷺ يقولُ:
" ... إنَّ العلمَاءَ هُمْ وَرَثَةٌ الأنْبِياءِ، لم يورثُوا دينَارًا وَلا دِرْهمًا،وإنّما ورّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخذه أَخذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ " (مسند أحمد: ٥/١٩٦)
وعلى مقدار عقل المرء يكون مقدار سعيه إلَى أن يأخُذَ منْ ميرَاثِ النُّبوة قولًا وعمَلا، فكَثُرَ في الأُمَّة قديمًا السّاعين إلى أنْ يأخذوا من ميراثِ النّبُوّةِ؛ ليقوموا بِتِبْيانِ الصِّراطِ المستقيم في كلّ ما يَجِدُّ من حركة الحياة المُتَجَدِّدَةِ.
1 / 10
وإنَّ مما يغري - أيضًا - بالحِرْصِ على أن يكون المرء من أهل العلْمِ الوقوفَ على سيرة العلماء المَاجِدة، ولا سيّما أولئك الذين أَقبلُوا علي طَلَبِه احتسَابًا بقلب مفتوحٍ فلم يتخذوا من طلبه منهاج التكرار لما جاء
عن سلفهم بل اتخذوا منهجا نقديًّا يستثمر عَلِيَّ القول وكريمَه ويضِيفُ إليه؛ لما جاءت به الحكمة النبويّة الجليلةُ:
روى "التّرمزِيُّ ﵃ بسنده عن حذيفة ﵃ قال: قَالَ رسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا:
" لاَ تَكُونُوا إِمَّعَة:
تَقولُون:إنْ أحسنَ النّاسُ أَحْسَنَّا، وإنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، ولكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وإنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا "
(صحيح الترمزي: كتاب: البر - حديث:٢٠٠٧)
العلماءُ هُمْ أقدرُ الأمَّة على التأدّب بهذِه الحِكْمَة النَّبويَّة المُغْرِيَةِ بمنهج نقدي لكل ما تجري به حركة الحياة، وهو منهج لا يقتدرُ عليه إلاَّ من كان طيّبَ المَنْبَتِ والمَرْعَى سامي الغاية يرى الدنيا كما هي عند خالقها، فلا يجعلها في قلبه فوق حقيقتها، فهو يَعْجَبُ لِمَنْ يُغْرِي بِها عالمًا، وقد جعله ربّه ﷿ وارث نبوةٍ،لا وارثَ ملك يزول،ويعجبُ أكثر ممن ينتسب إلى أهل العِلْم ويتطلع إلى ما تلّوح به يد السّلطان من لُعضاعضة الدّنيَا.
و" برهان الدين البقاعيّ " فيما أحسب - ولا أذكي على الله ﷿ أحدًا -واحدٌ منْ أؤلئك العلماء المجاهدين في طلبهم العلم وتعليمه ونشر أسفاره النافعة في الأمة.
قدَّم لأمّته كثيرًا من أسفار العلم النافع، فرغبتُ في أن أُطلِعَ طُلاَّبَ العلمِ على شيءٍ من جهاده.
1 / 11
الفصل الأول جهاده في طلبِ العِلْمِ وتعليمِه
المَنْبِت والمرعى..
في مطلع القرن التاسع الهجري وفي أرض الشام كان هنالك مَقْدَمُ رجلٍ سيكون له مع تثوير القرآن الكريم وتدبره منهاجٌ يرفع ذكرَه بين أقرانه في عصره، ثُمَّ في العصور المتتابعة من بعده، ويجعله بارزًا ذكرُه بين القائمين إلى تدبر البيان القرآني الكريم، وهم من قبله ومن بعده كثير لا يكاد يُحصَى عددُهم، ولكنَّه سيحظى بأنْ يكونَ رأسًا في منهاج من مناهج التدبُّر البيانيّ للقرآن الكريم، وهو وإن لم يكنْ المؤسِّسَ ذلك المنهاج، فإنّه الرافعُ لقواعدِه المرابطُ على ثغرِه يَزُودُ عنه، ويُكملُ بنيانَه
ذلك القادم من أرض البقاع، المنسوب إليها، فجعلها على لسان كثير من أهل العلم، فكان البارَّ بذكرها:
"إبراهيم بن عمر بن حسن الرُباط بن على بن أبي بكر " " أبو الحسن برهان الدين البقاعي" ينتهي نسبُه - كما يذكر - إلى سيدنا" سعد بن أبي وقاص الزهريّ" ﵃ (١)
_________
(١)؟ - عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران للبقاعي: ج١/٣٤٩، ٣٥١ (مخطوط رقم:٢٢٥٥- تاريخ تيمور) والأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة للبقاعي: ق/١ (خ - رقم ١٢٦٩ - تفسير - دار الكتب المصرية)، وبذل النصح والشفقة في صحبة السيد ورقة للبقاعي: ق:١ (خ- رقم١١٧- تصوف - دار الكتب الصرية) والضوء اللامع لأهل القرن التاسع لشمس الدين السخاوي:١/١٠١ - مكتبة الحياة - بيروت
1 / 12
وكان مولده في قرية " خَرْبَة رَوْحَا" من البقاع العزيزي بأرض الشام سنة تسع وثمان مئة من الهجرة، وقد تناقل ذلك التاريخ عنه من أرخوا له (١)
وقد بقي في قيد الحياة الدنيا سِتًا وسبعين سنة عانى من الكبد والكمد ما عانى حتّى رحل إلى ربه ﷻ ليلة السبت الثامن من شهر رجب سنة خمس وثمانين وثمان مئة (٨٨٥) بدمشق ودفن يوم السبت في المقبرة الحميدية من جهة قبر"عاتكة" بدمشق (٢)
***
مذهبه العقدي والفقهيّ: كان " البقاعيّ" في باب العقيده على منهاج الأشاعرة وفي فقه الشريعة على منهاج الإمام الشافعيّ ﵁
ولم يكتف بذلك بل درس المذهب المالكي على شيخه "المشدالى" بالأزهر الشريف، ودرس "الموطأ" على شيخه محمد بن على الصفوي" بالقاهرة سنة سبع وثلاثين وثمان مئة (٣)
والجمع بين مذهبين فقهيين في الدرس من بعد التمكن في أحدهما معينٌ على اتساع النظر العقلى ونفاذ البصيرة
اختلاف المذاهب الفقهية أساسُه اختلافٌ في منهاج التبصُّر في نصوص الكتاب والسنة من جهة والتبصُّر في حركة الحياة والسياق الحضاريّ الذي يقوم فيه صاحب المذهب ودارسه، فليس فقيها من عكف على حفظ آراء أهل العلم وحوى صدره ما سطَّروه في أوراقهم وأسفارهم وانعزل عن حركة حياة قومه وسياق وجودهم الزماني والمكاني، فإذا ما كانت شريعة الإسلام صالحة لكلّ زمان ومكان كما هو مشهور فإنّها أيضًا مُصْلِحَةٌ كلّ زمان ومكان، فما من عصر أو مصر عمَّه الفساد فأسلم أمره إلى شريعة الإسلام إسلامَ المريض أمره إلى طبيبه إلا عوفي وعاد إليه مجده وعزّه وأمنه.
إنَّ على فقهاء الأمة في عصرنا هذا وما يردفه من العصور فريضة لازمة لا يقوم بها فرد من جمعهم:
_________
(١) الضوء اللامع: ج:١/١٠١ والبدر الطالع: للشوكاني ج:١ص١٩- مكتبة ابن تيمية - القاهرة ونظم العقيان للسيوطى: ص٢٤، - ط: ١٩٢٧- نيويورك وشذرات الذهب لابن عماد الحنبلي: ج ٧/٣٢٩-ط:١٣٥١، والعنوان في ضبط مواليد ووفيات أهل الزمان، لأبي المفاخرالنعيمي:١٤ (خ-رقم٢١٩٣-تاريخ تيمور - دار الكتب المصرية)
(٢) - عنوان الزمان:١/٣٥١
(٣) - عنوان الزمان:١/٤٨، ٣٥٢، ج٤ص٤٨، ٦٥، ٢٦٧
1 / 13
عليهم الوعي البالغ بحركة الحياة المتجددة تجددًا محمومًا يستوجب أن تصاحبه حركة تفقه بالغ لتلك الحركة في نور الكتاب والسنة، والسعي إلى ما يستبقي الناس في دائرة الطاعة والتباعد بهم عن حرج التضييق والتشديد، وعن إلزامهم بمباعدة ما لم تقطع الأدلة بحرمته إذا ما حملتهم حاجة على المقاربة
الخير في أن ندع للناس - ولا سيما الدهماء - مساحة متسعة من المباح ومما لم تتواتر علي حرمته تحقيقات العلماء المحررين المتقين، فإنَّ مغريات الحياة أقوى من ركائز الإيمان في قلوب غير قليل من الناس، فإذا ما توافدت على مسامعهم كلمات التحريم غير المقطوع بدلالة النصوص عليه في كل ما يستفتون فإنّ سبل الفرار كثيرة.
ليكن فقهاؤنا ربانيين، ولن يتحقق مثل هذا إذا ما حصرت أبصارهم وبصائرهم في ما جاءت به المذاهب الفقهية الأربعة، وفي تراث علمائنا من قبل أولئك الأمة الأربعة ومعهم ومن بعدهم اجتهادات للأئمة علماء لا يقلون شأنا في علمهم واجتهادهم، ونصحهم لله ﷿ ولكتابه، ولرسوله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَىآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وللأئمة المسلمين وعامتهم احتسابا لرضوان ربهم ﷾ وجدير بنا أن نحيي درس تراثهم والاستفادة من أصول النظر عندهم.
***
رحلاته العلمية:
المرحلة الأولى: (٨٠٩ - ٨٣٥)
لمّا أدرك البقاعيّ تلقى علومًا عدة في قريته "خربة روحا" قرأ على عمه الشهاب البقاعي (٧٧٠-٨٢٠) القرآن الكريم وحفظه ولازم زاوية الشيخ " موسى" لمراجعة محفوظه من القرآن الكريم، وصلّي به (١)
_________
(١) - السابق:١/٣٥١، ٣٥٦، ج٢ص٣٩
1 / 14
هذا آية على إتقانه الحفظ والترتيل وهذا منهاج جليل يكشف عن تمكن الطالب من حفظ كتاب الله ﷾، فليتنا نأخذ بمثله في تعليم طلابنا في المراحل الأولى من التعليم بأزهرنا الشريف، فيمنح طلابنا اقتدارًا على حسن ترتيل القرآن الكريم من بعد حفظه؛ لأنَّ الصلاة به في جماعة جهرية من عوامل تثبيت حفظه في الصدر.
ثُمّ كانت بلية لقومه في العام الحادى والعشرين من القرن التاسع (٨٢١) والفتى في الثانية عشرة من عمرة، تودي البلية بجمع من أهله: والده وعميه، وستة آخرين، فيغادر قريته مع أمه وجده متنقلا في قرى عدة: يدخل قرى وادي التيم، والعرقوب ويظل بها حتى دخل دمشق" سنة (٨٢٣) فينشط في طلب العلم:
يدرس الشاطبية حتى سورة المنافقون على شيخه" شرف الدين المسحراتي " (ت٨٢٥) (١)
ويقرأ النحو والتصريف والفقه والمعقولات على شيخه الأثير عنده " محمد بن بهادر" (ت:٨٣١) فلازمه (٢)
ويتلقى المنطق على الشيخ "البدر الهندي" (ت٨٣٣) تلميذ السيد الشريف (ت٨١٦) فيعجب الشيخ به، ويعده أنْ يعلمه " علم الهندسة" غير أن "البدر" غادر دمشق إلى" حماة" من قبل أن يمكن من الوفاء بوعده (٣)
وفي سنة (٨٢٨) يدرس على الشمس بن الجزري (ت:٨٣٣) القراءات العشر، ويحفظ "النشرفي القراءات العشر"، ويجيزه بكل ما يجوز للشيخ (٤)
ويرحل إلى"القدس" لأول مرة مع والدته، فيَدْرُس هناك " علم الحساب" على شيخه" العماد بن شرف" (ت:٨٥٢) ويحفظ منظومتى " ابن الهائم " في الجبر وقواعد الإعراب، ويعرضهما على شيخه "العماد"، فيعجب به، ويلقبه بالشيخ والإمام والمقرئ المجيد (٥)
_________
(١) - السابق ج٢ص٣٥٢، ج٣/١٨٠
(٢) - السابق:١/٣٥٢، ٢/٤١
(٣) -السابق:١/٣٥٣، ٤٨٤
(٤) -السابق:٢/٣٥٢
(٥) – السابق:١/٣٥٢ / مصاعد النظر للاإشراف على مقاصد السور للبقاعي ٠ ج١ص١٣٠ ت: عبد اليديع حسنين ٠: الرياض ١٤٠٨
1 / 15
وفي رمضان من العام نفسه توفيت والدته بالقدس، ويبقي فيه حتى شهر " ذي القعدة "، فيرتحل إلى دمشق، ويحفظ فيها كتاب" البهجة نظم الحاوي" في الفقه الشافعي، ويقرأ على "ابن قاضي شهبة" كتاب الحاوي" قراءة بحث، ويتم تأليف كتابه: " كفاية القارئ وغنية المقرئ في رواية أبي عمرو" (١)
ويقرأ على "تقي الدين الحصنى الشافعي" (ت:٨٢٨) شرحه للتنبيه، والمنهاج، ويبقي ملازما شيخه " ابن بهادر " حتى وفاة الشيخ سنة (٨٣١) فيغادر"البقاعي" دمشق مرة أخرى إلى" القدس " فيزيد في منظومته: " الباحة في علم الحساب والمساحة" التى بدأها سنة (٨٢٧)
ويدرس كتاب " الوسيلة في الحساب والفقه والفرائض " على شيخه " زين الدين ماهر بن عبد الله " تلميذ ابن الهائم، ويتلقى" النحو" على التاج الغرابيلي (ت:٨٣٥) ويدرس كتاب " التحفة " لابن حجر على " العماد بن شرف"، ويظل بالقدس مستشرفا لقيا "ابن حجر"، فلما عنَّت له حاجة في "الخليل " رحل إليها ومنها إلى"غزة" فكانت الرحلة إلى "القاهرة"، فدخلها، ومثل بين يدي " ابن حجر العسقلانيّ " في شهر صفر الخير سنة (٨٣٤) فكتب جملة من تصانيف شيخه وقرأها عليه وأذن له في التدريس (٢)
وسمع في هذه الرحلة من علماء القاهرة ولا يبقى في القاهرة طويلا فيعود إلى"القدس" مرة أخرى في العام نفسه، فيتلقى "سنن أبي داود" وغيرها على بعض شيوخ "القدس.
_________
(١) - -عنوان الزمان:١/٣٢
(٢) - عنوان الزمان:١/١٦٢، الذيل على رفع الإصر للسخاوي:٦٨، النجوم الزاهرة:١٥/٥٢٣، شذرات الذهب:٧/٢٧٠
1 / 16
ويستشرف إلى الإقامة في القاهرة، فيرجع إليها سنة (٨٣٥) ليبقى بها خمسة وأربعين عاما، فتنتهى مرحلة من مراحل تلقيه العلم لتبدأ مرحلة أخرى يجمع فيها بين تلقيه العلم من أعلامه وتعليمه طلاب العلم ما تلقاه، حرصًا على أن يكون المتعلّم المعلّم، وذلك شأن العاقل من المنتسبين إلى هذه الأمة المحمدية غاية ومنهاجا، فلا خير في يوم لا يتعلم فيه المرء علما نافعا، ولا يعلم فيه مسلما ما ينفعه إن بلسان مقاله أو قلمه وإن بلسان حاله وفعاله وأخلاقه.
*****
المرحلة الثانية: (٨٣٥ - ٨٨٠)
اتخذ في هذه المرحلة القاهرة دارًا ووطنا، وقام ببعض الأسفار داخل الديار المصرية، وخارجها، وكان يقيم في القاهرة فوق مسجد في " رحبة باب العيد" وهي رحبة واسعة كانت أمام الباب الشرقي للقصر الفاطمي الكبير الذي أنشأه "جوهر الصقلى" للمعز الفاطمي، وهي الآن متفرعة من شارع قصر الشوق بالغورية بالأزهر، وما يزال شارع " رحبة باب العيد " قائما عامرا
تولى "البقاعي" وظيفة "معيد" بهذا المسجد، وبمسجد "الظاهر" وهي وظيفة يقوم صاحبها بتفهيم بعض الطلاب ما لم يستطيعوا فهمه من الشيخ، فيعيد الدرس عليهم بشيء من التوضيح كما يقول التاج السبكي في "معيد النعم "
1 / 17
وليت هذا المسجد: مسجد الظاهر يعتنى الآن بشأن التعليم والدعوة فيه ليكون منارًا علميا تربويا في تلك البقعة القائم فيها فإنَّ جيرانه ليفتقرون إلى أن يشرق عليهم منه نور العلم النافع، فلا يكتفى بأن يكون أثرًا إسلاميًا يشاهده غير المسلمين ولا ينتفع منه أبناء الإسلام بشيء غير إقامة الصلوات المفروضة، ثُمّ تغلّق الأبواب في وجوههم، فليست المساجد في الإسلام لإقامة الصلوات فحسب بل هي كذلك ومعاهد تربية ومجامع شورى ومنازل تراحم وتواصل، ولكن القوم مخافة على كرسيّ إماراتهم ارتعدت فرائصهم من أن يتلاقى الشباب برعاية عالم يتلون كتاب الله ﷾ ويتدارسونه فيما بينهم، فغلقت المساجد في غير أوقات الفرائض، وفتحت المواخير في كل وقت ولكلّ من رغب.
ظل البقاعيّ ملازما شيخه " ابن حجرالعسقلانيّ" في حله وترحاله حتى وفاة "ابن حجر" (ت:٨٥٢) وقد نشط " البقاعي" في التأليف في هذه المرحلة
ومن رحلاته مع "ابن حجر" رحلته إلى الشام سنة (٨٣٦) في صحبة السلطان " برسباي" وهناك يقرأ على بعض شيوخ الشام كالبرهان الطرابلسي، و" ابن شيخ السوق الحنبلي" وعلى" ابن العديم" وعلى الشهاب الرملى" وسعى إلى الاجتماع بالشاعر "ابن حجة الحموي، فلم يتيسر له (١)
وفي سنة (٨٣٧) يعود مع شيخه "ابن حجر" إلى القاهرة، فيكثر من القراءة على علمائها:
يقرأ على " المقريزي" المؤرخ بعض مؤلفاته، وعلى "المشدالى" التفسير والفقه المالكي، ويتعلم منه القاعدة الكلية لتناسب آيات وسور القرآن الكريم ويقيم على أساسها تفسيره العظيم: "نظم الدّرر"
ويقرأ على " البدر البوصيري "، وعلى "ابن الصفوي" ويقرأ النحو والبلاغة وتفسير الكشاف والمنطق والفقه وأصوله على " القاياتي"
ويقرأ على "الزين المحلى "و"شهاب الدين الجوهري " وعلى" شرف الدين القرقشندي"
_________
(١) – عنوان الزمان:١/٤٣٦
1 / 18
ويقرأ على بعض أهل العلم من نساء القاهرة مثل: زينب بنت الزين العراقي، وكلثوم بنت الزين البابلي (١)
ويجتهد في الأخذ عن العلماء في شتى فنون المعرفة، وقد ترجم شيوخه في كتابه القيم " عنوان الزمان " وهو في أربع مجلدات مخطوطة بدار الكتب المصرية
وطوّف في بلدان (الدلتا) من مصر ويقرأ على بعض أهل العلم فيها ويسجل تراجم بعضهم ويلقى بعضًا من شعرائها
ويسافر إلى أرض الحجاز للحجّ سنة (٨٤٨) ويمكث عاما يطوِّف في "الجزيرة" ويأخذ عن بعض علمائها، ثمّ يعود إلى القاهرة سنة (٨٤٩) مستأنفا تلقيه وملازمة شيخه ابن حجر
ويشارك في الجهاد والمرابطة في دمياط سنة (٨٥١) و(٨٥٢) ويعود إلى القاهرة مقيما بها حتى عام (٨٨٠)
وقد جرت له بمصر وقائع ومحن عديدة شديدة لتصدّيه لما رآه منكرًا لا يَحِلُّ السكوت عنه فيغادرها إلى "دمشق" (٢)
ومما كان له أثر في حياته وفي منزلته من بعد تفسيره تصديه للعبث بأصول العقيدة الإسلامية ولا سيّما صفاء عقيدة التوحيد، إذ رأى في نشر فكر الإلحاد والقول بوحدة الوجود والترويج لمقالات " ابن الفارض" و"ابن عربي" عدوانًا داخليًّا على الأمة، فرابط في هذا الثغر الذي خطره أشد من الثغور التي تهاجمها جحافل العسكر من أعداء الإسلام، فامتشق قلمه ولسانه وتصدى لإخوان الباطل، وكان له مع الفكر الإلحادي ممثلا في تراث "ابن الفارض" و"ابن عربي" منازلات سجلت في كتب التاريخ:
يقول " ابن إياس الحنفي " في تأريخ أحداث سنة خمس وسبعين وثمان مئة:
_________
(١) – عنوان الزمان:١/١٠، ج ٢/٤١٩
(٢) – عنوان الزمان ج١/٢٢٦و٣١٢نج٢/ ٦٤، ١٤١، ٢٤٩، ٣٧٠،ج٣/٨٤، ١٤٨، ٢٠٥
1 / 19
" وفي أوائل هذه السنة كثر القال والقيل بين العلماء بالقاهرة في أمر الشيخ العارف بالله تعالى سيدي " عمر بن الفارض " نفع الله النّاس ببركته [!!! كذا] وقد تعصب عليه جماعة من العلماء بسبب أبياتٍ قالها في قصيدته " التائية"، فاعترضوا عليه في ذلك، وصرّحوا بفسقه بل وتكفيره، ونسبوه إلى من يقول بالحلول والاتحاد، وحاشاه من ذلك أن ينسب إليه هذا المعنى، ولكن قصرت أفهام جماعة من علماء هذا العصر، ولم يفهموا معنى قول الشيخ " عمر" فيما قصده من هذه الأبيات، فأخذوا بظاهرها ولم يوجهوا لها معنى، فكان كما قال المتنبيّ:
وآفته من الفهم السقيم
وكمْ من عائبٍ قولا صحيحًا
على قدر القرائح والفهوم
ولكن تأخذ الأذهان منه
فكان رأس من تعصّب على الشيخ " عمر بن الفارض": "برهان الدين البقاعيّ "، وقاضي القضاة: "محب الدين بن الشحنة "، وتبعهم جماعة كثيرة من طلبة العلم يقولون بفسقه، وأمَّا من تعصّب لابن الفارض من العلماء فهم: الشيخ محيي الدين الكافييجي الحنفي، والشيخ القاسم الحنفي....
فلمَّا زاد الرهج في هذه المسألة كُتبت الفتاوى في أمر "ابن الفارض" التى ظاهرها الخروجُ عن قواعدِ الشَّرعِ، فكتب الشيخ محيي الدين الكافييجي على هذا السؤال ما هو أحسن عبارة وأقرب إلى انصاف ٠
والف الجلال السيوطيّ في ذلك كتابًا سماه:" قمع المعارض في الرد عن ابن الفارض " وألف " البدري بن الفرس " في ذلك كتابًا شافيًا في هذا المعنى واضحا في الرد على من تعرض على " ابن الفارض" وصنف بعض العلماء كتابًا سماه:" درياق الأفاعي في الردّ على البقاعيّ"
ووقع في هذه المسألة تشاحنات بين العلماء مما يطول شرحه في هذا المعنى ثمّ هجوا " البقاعيّ " و"ابن الشحنة " وغيره ممن تعصّبوا على " ابن الفارض" وصاروا يكتبون الأوراق بِهَجْوِ المعترضين على "ابن الفارض ويلصقون تلك الأوراق في مزاره....
1 / 20