الحوقلة مفهومها وفضائلها ودلالتها العقدية

عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر ت. غير معلوم

الحوقلة مفهومها وفضائلها ودلالتها العقدية

الناشر

الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة

رقم الإصدار

السنة ٣٤

سنة النشر

العدد (١١٧) ١٤٢٢هـ

تصانيف

الحوقلة مفهومها ودلالتها العقدية إعداد: أد. عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر الأستاذ في كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة المقدمة الحمد لله ربّ العالمين، به سبحانه نستهدي، وإياه نستكفي، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم، وهو المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل. أما بعد؛ فإنَّ للأذكار الشرعية مكانةً عالية في الدين، ومنزلة رفيعة في نفوس المؤمنين، وهي من أجل القربات، وأفضل الطاعات، ولها من الثمار اليانعة والفضائل المتنوعة والخيرات المتوالية في الدنيا والآخرة ما لا يحصيه ويحيط به إلاّ الله ﷿. والكتاب والسنة مليئان بالشواهد العديدة والأدلة المتنوعة على فضل الذكر ورفيع قدره وعلو مكانته وكثرة عوائده وفوائده على أهله الملازمين له والمحافظين عليه. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ ١. وقال تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ ٢. وقد أخرج الترمذي،وابن ماجه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، عن أبي الدرداء ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ:" ألا أنبّئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله " ٣. وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال:"سبق المفرِّدون، قالوا: وما المفرِّدون يا رسول الله؟ قال: الذّاكرون الله كثيرًا والذّاكرات"٤.

١ سورة الأحزاب، الآيات (٤١ - ٤٤) . ٢ سورة الأحزاب، الآية (٣٥) . ٣ سنن الترمذي (رقم: ٣٣٧٧)، سنن ابن ماجه (٣٧٩٠)، والمستدرك (١/ ٤٩٦)، وصححه العلامة الألباني في صحيح الجامع (رقم: ٢٦٢٩) . ٤ صحيح مسلم (رقم: ٢٦٧٦) .

1 / 59

وروى البخاري عن أبي موسى الأشعري ﵁ عن النبي ﷺ قال: "مثلُ الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه مثلُ الحيّ والميّت"١. والأحاديث في هذا الباب كثيرة. ثم إنَّ هذه الأذكار الشرعية إضافة إلى دلالة النصوص على عظم فضلها وكثرة خيراتها وعوائدها، فإنَّها تمتاز بكمال معناها وجمال ألفاظها وتنوع دلالاتها وقوة تأثيرها وشمولها لحقائق الإيمان وأبواب الخير، فهي من جوامع كلم الرسول الكريم ﷺ ومن محاسن هذا الدّين العظيم، مع الأمن الكامل فيها من الشطط والانحراف في المعاني والدلالات أو التكلف والتقعر في الألفاظ والعبارات. بل جاءت بألفاظ جزلة وكلمات مختصرة ودلالات عميقة، فهي يسيرٌ لفظُها ونطقها، عظيم معناها ومقصودها، كثير أجرها وثوابها، واسعة خيراتها ومنافعها، متعددة فوائدها وثمراتها. وقد أشار النبي ﷺ إلى ذلك وأرشد إليه بقوله ﵊ في وصف أحد هذه الأذكار: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"٢. وهذا شأن جميع الأذكار الشرعية خفيفةٌ على اللسان، ثقيلةٌ في الميزان، حبيبةٌ إلى الرحمن، مع التفاضل بينها والتمايز حسبما دلت عليه نصوص الشريعة. ومع ما في الأذكار الشرعية من الكمال والجمال في معانيها ومبانيها إلاّ أنَّك ترى في كثير من عوام المسلمين من يعدل عنها وينصرف إلى أذكار مخترعة وأدعية مبتدعة ليست في الكتاب ولا في السنة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – ﵀: «ومن أشدّ الناس عيبًا من يتخذ حزبًا ليس بمأثور عن النبي ﷺ، وإن كان حزبًا لبعض المشايخ، ويدع الأحزاب النبوية التي كان يقولها سيّد بني آدم وحجة الله على عباده» ٣. يضاف إلى ذلك ما لدى كثير من المسلمين من الجهل وعدم العلم بمعاني الأذكار

١ صحيح البخاري (رقم: ٦٤٠٧) . ٢ رواه البخاري (رقم: ٧٥٦٣) . ٣ مجموع الفتاوى (١٢ / ٥٢٥)

1 / 60

الشرعية العظيمة ودلالاتها النافعة القويمة، مما يستوجب مضاعفة العناية بالأذكار النبوية علمًا وتعليما، وشرحًا وبيانا، وتوضيحًا وتذكيرا، لتعلم مراميها، وتفهم مقاصدها، وتتضح دلالتها، لتؤدّي بذلك ثمراتها النافعة، وفوائدها الحميدة وخيرها المستمر. قال ابن القيم – ﵀: «وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ القلب اللسان، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكر معانيه ومقاصده» ١. هذا وإنَّ من الأذكار النبوية العظيمة التي كان يحافظ عليها رسول الله ﷺ، ويكثر من قولها، ويحثّ على الإكثار منها والعناية بها "الحوقلة"، وهي قول «لا حول ولا قوة إلاّ بالله»، فإنَّ هذه الكلمة العظيمة لها من الفضائل والفوائد والثمار ما لا يحصيه إلاّ الله، وفيها من المعاني العميقة والدلالات المفيدة ما يثبت الإيمان، ويقوي اليقين، ويزيد صلة العبد بربّ العالمين. ولما كان الأمر بهذه المثابة وعلى هذا القدر من الأهمية رأيت إفرادَ هذه الكلمة بهذا البحث الذي جعلته بعنوان «الحوقلة: مفهومها، وفضائلها، ودلالاتها العقدية» . ورغم أهمية هذا الموضوع وشدّة الحاجة إليه إلاّ أني لم أر من أفرده بالتأليف سوى رسالتين: إحداهما: لجلال الدين السيوطي، سمّاها «شرح الحوقلة والحيعلة» وهي من أول تأليفه سنة «٨٨٦ هـ» كما في كشف الظنون للحاج خليفة٢، ولم أقف عليها. الثانية: لجمال الدين يوسف بن عبد الهادي، أسماها «فضل لا حول ولا قوة إلاّ بالله»، وقد خصها بذكر ما يتعلق بفضل هذه الكلمة. وقد رأيت أن يكون طرقي لهذا الموضوع من خلال المباحث التالية: المبحث الأول: مفهوم الحوقلة. المبحث الثاني: فضائلها. المبحث الثالث: دلالاتها العقدية. المبحث الرابع: في التنبيه على بعض المفاهيم الخاطئة فيها. ومن الله ﵎ أستمد العون واستمنح التوفيق، فلا حول ولا قوة إلاّ به، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١ الفوائد (ص: ٢٤٧) . ٢ كشف الظنون (٢/١٠٤٠)

1 / 61

المبحث الأول: مفهوم الحوقلة: أولًا: المراد بالحوقلة: الحوقلة كلمةٌ منحوتة من " لا حول ولا قوة إلاّ بالله "، وهذا الباب سماعي، وهو من الفعل الرباعي المجرد كما هو مقررٌ في كتب الصرف. والنحت «هو أن ينحت من كلمتين أو أكثر كلمة واحدة تدل على معنى الكلام الكثير، وذلك على النحو التالي: أ - النحت من كلمتين مركبتين تركيبًا إضافيًا مثلما نحتوا من عبد قيس: عبقسي. ب – النحت من جملة مثل: بسمل أي: قال بسم الله، حوقل، قال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله» ١. ويقال لها أيضا «الحولقة»، قال النووي – ﵀: «قال أهل اللغة: ويعبر عن هذه الكلمة بالحوقلة والحولقة ...» ٢. وقال في موضع آخر: «ويقال في التعبير عن قولهم لا حول ولا قوة إلاّ بالله الحوقلة، هكذا قاله الأزهري والأكثرون، وقال الجوهري الحولقة، فعلى الأول وهو المشهور الحاء والواو من الحول، والقاف من القوة، واللام من اسم الله تعالى، وعلى الثاني الحاء واللام من الحول، والقاف من القوة، والأول أولى لئلا يفصل بين الحروف» ٣.

١ التطبيق الصرفي للدكتور عبده الراجحي (ص: ٢٩) . وانظر للاستزادة: المبدع في التصريف لأبي حيان (ص: ١٠١)، المغني في تصريف الأفعال لمحمد عبد الخالق عضيمة (ص: ١٠٧)، تصريف الأفعال ومقدمة الصرف لعبد الحميد عنتر (ص: ١٢٧) . ٢ شرح النووي على صحيح مسلم (١٧ / ٢٧) . ٣ المصدر السابق (٤ / ٨٧) ونقله الشوكاني في نيل الأوطار (٢ / ٣٨) .

1 / 62

ويلاحظ على هذا أمران: ١- أنَّ الذي ذكره الأزهري في تهذيب اللغة ونقله عن بعض أهل اللغة كالفراء وابن السكيت «الحولقة» وليس «الحوقلة» ١. ٢- تعليل أولوية لفظ «حوقل» على لفظ «حولق» بحجة عدم الفصل بين الحروف غير واضح، لأنَّ «حولق» ليس فيها فصل بين الحروف.

١ انظر: تهذيب اللغة (٣ / ٣٧٣)، و(١٣ /١٥٦) .

ثانيًا: معنى «لا حول ولا قوة إلاّ بالله»: الحول: هو التحرك، يقال: حال الرجل في متن فرسه يحول حولًا وحوُولًا إذا وثب عليه، وحال الشخص إذا تحرك، وكذلك كلُّ متحول عن حاله٢. والقوة: هي الشدّة وخلاف الضعف، يقال: قوي الرجل، كرضي، فهو قويٌّ وتَقوَّى واقتوى أي: صار ذا شدّة، وقوّاه الله أي: أعطاه القوة وهي الشدّة وعدم الضعف٣. فمعنى لا حول ولا قوة إلاّ بالله أي: لا تحول من حال إلى حال، ولا حصول قوة للعبد على القيام بأيِّ أمر من الأمور، إلاّ بالله، أي: إلاّ بعونه وتوفيقه وتسديده، وقد ورد في بيان معنى هذه الكلمة وتوضيح المراد بها عن السلف وأهل العلم نقول عديدة من ذلك: ١- قول عبد الله بن عباس ﵄ في «لا حول ولا قوة إلاّ بالله» أي: «لا حول بنا على العمل بالطاعة إلاّ بالله، ولا قوة لنا على ترك المعصية إلاّ بالله» رواه ابن أبي حاتم٤.

٢ انظر: معجم مقاييس اللغة (٢ / ١٢١)، ومجمل اللغة (١ / ٢٥٨) كلاهما لابن فارس. ٣ انظر: معجم مقاييس اللغة (٥ /٣٦)،ومجمل اللغة (٣ / ٧٣٦)، والقاموس المحيط للفيروز ابادي (ص: ١٧١) . ٤ أورده السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٣٩٣) .

1 / 63

٢- وروي عن عبد الله بن مسعود ﵁ أنَّه قال في معناها أي «لا حول عن معصية الله إلاّ بعصمته، ولا قوة على طاعته إلاّ بمعونته» ١. ٣- وروي عن علي بن أبي طالب ﵁ في معناها أي: «أنا لا نملك مع الله شيئًا، ولا نملك من دونه، ولا نملك إلاّ ما ملكنا مما هو أملك به منا» ٢. ٤- وسئل زهير بن محمد عن تفسير «لا حول ولا قوة إلاّ بالله» فقال: «لا تأخذ ما تحبّ إلاّ بالله، ولا تمتنع مما تكره إلاّ بعون الله» رواه ابن أبي حاتم٣. ٥- وسئل أبو الهيثم الرازي (ت٢٧٦هـ) وهو إمام في اللغة عن تفسير «لا حول ولا قوة إلاّ بالله» فقال: «الحول: الحركة، يقال حال الشخص إذا تحرك، فكأنّ القائل إذا قال: لا حول ولا قوة، يقول: لا حركة ولا استطاعة إلاّ بمشيئة الله» ٤. ٦- وقيل معناها: «لا حول في دفع شر، ولا قوة في تحصيل خير إلاّ بالله» ٥. وجميع هذه الأقوال متقاربة في الدلالة على المعنى المراد بهذه الكلمة العظيمة؛ ولهذا قال النووي – ﵀ – بعد أن أورد بعض هذه الأقوال: «وكلُّه متقاربٌ» ٦.

١ ذكره النووي في شرحه لصحيح مسلم (١٣ / ٢٦) . ٢ ذكره ابن علان في الفتوحات الربانية (١ / ٢٤٢) . ٣ أورده السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٣٩٤) . ٤ تهذيب اللغة للأزهري (٥ / ٢٤٣) . ٥ ذكره النووي في شرحه لصحيح مسلم (١٧ / ٢٦) . ٦ المصدر السابق (١٧ / ٢٧) .

1 / 64

ثالثًا: إعراب «لا حول ولا قوة إلاّ بالله»: «لا»: نافية للجنس. «حول»: اسم لا، مبني على الفتح في محل نصب، وخبرها محذوف، وتقديره كائن أو موجود. «ولا» الواو عاطفة، ولا نافية للجنس أيضا. «قوة» اسم لا، وخبرها محذوف، وتقديره كائنة أو موجودة. «إلاّ» أداة استثناء. «بالله» جار ومجرور، متعلق بالخبر المحذوف. وقد ذكر أهل اللغة أنَّه يجوز في إعراب «لا حول ولا قوة إلاّ بالله» خمسة أوجه١، بيانها كما يلي: ١ – «لا حولَ ولا قوةَ إلاّ بالله» بفتحهما بلا تنوين. ٢ – «لا حولَ ولا قوةً إلاّ بالله» بفتح الأولى ونصب الثاني منونًا. ٣ – «لا حولٌ ولا قوةٌ إلاّ بالله» برفعهما منونين. ٤ – «لا حولَ ولا قوةٌ إلاّ بالله» بفتح الأول ورفع الثاني منونًا. ٥ – «لا حولٌ ولا قوةَ إلاّ بالله» برفع الأول منونًا وفتح الثاني. وإلى هذه الوجوه الخمسة يشير ابن مالك – ﵀ – في ألفيته حيث يقول: عملَ إنّ اجعل للا في نكرة ... مفردةً جاءتك أو مكررة فانصب بها مضافًا أو مضارعه ... وبعد ذاك الخبر اذكر رافعه

١ انظر: شرح ابن عقيل على الألفية (١/٣٩٥) وتفسير القرطبي (٣/١٧٤) وشرح صحيح مسلم للنووي (٤/٨٧) و(١٧/٢٥) .

1 / 65

وركّب المفرد فاتحًا كلا ... حول ولا قوة والثان اجعلا مرفوعًا أو منصوبا أو مركبا ... وإن رفعتَ أوّلًا لا تنصبا١ ثم إنَّ في هذه الكلمة صيغةً من صيغ الحصر وهي «إلاّ»، بل عدّها السكاكي من أهم صيغ الحصر ٢. قال الأخضري في أرجوزته مشيرًا إلى صيغ الحصر: وأدوات القصر إلاّ إنّما ... عطفٌ وتقديم كما تقدّما (٣)

١ متن الألفية (ص: ٢١) . ٢ انظر: مفتاح العلوم للسكاكي (ص: ٢٨٩) . ٣ منظومة الجوهر المكنون في علم البلاغة للأخضري (ص: ٢٩) .

1 / 66

المبحث الثاني: فضائل «لا حول ولا قوة إلاّ بالله»: لقد وردت نصوص كثيرة في السنة في بيان فضل هذه الكلمة وعظم شأنها، وقد تنوعت هذه النصوص في الدلالة على تشريف هذه الكلمة وتعظيمها،مما يدل بجلاء على عظم فضل هذه الكلمة ورفعة مكانتها، وأنها كلمة عظيمة ينبغي علىكلِّ مسلم أن يعنى بها ويهتمّ بها غاية الاهتمام، وأن يكثر من قولها لعظم فضلها عند الله، وكثرة ثوابها عنده،ولما يترتب عليها من خيرات متنوعة وفضائل متعددة في الدنيا والآخرة، ومما يدل على فضل هذه الكلمة العظيمة ما يلي: ١- أنَّها وردت في عدة أحاديث مضمومة إلى الكلمات الأربع الموصفة بأنها أحبّ الكلام إلى الله. فقد ثبت في المسند وسنن الترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «ما على الأرض رجلٌ يقول لا إله إلاّ الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، إلاّ كُفِّرت عنه ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر» ١. وثبت في سنن أبي داود والنسائي والدارقطني وغيرهم عن ابن أبي أوفى ﵄ قال: جاء رجلٌ إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إني لا أستطيع أن أتعلم القرآن فعلّمني شيئًا يجزيني قال:" تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله "، فقال الأعرابي هكذا وقبض يديه فقال: هذا لله فما لي، قال:"تقول: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني واهدني" فأخذها الأعرابي وقبض كفيه، فقال النبي ﷺ:" أمَّا هذا فقد ملأ يديه بالخير " ٢.

١ المسند (٢ /١٥٨، ٢١٠)، وسنن الترمذي (رقم: ٣٤٦)، ومستدرك الحاكم (١ /٥٠٣) . قال الشيخ الألباني – ﵀ – في صحيح الجامع (رقم:٥٦٣٦): «صحيح» . ٢ سنن أبي داود (رقم: ٨٣٢)، وسنن النسائي (٢ /١٤٣)، وسنن الدارقطني (١ / ٣١٣ - ٣١٤) .وقال الألباني في صحيح أبي داود (١ / ١٥٧): «سنده حسن» .

1 / 67

٢- ورودها معدودةً في الباقيات الصالحات التي قال الله عنها: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾ ١. فقد روي من حديث أبي سعيد الخدري ﵁ أنَّ رسول الله ﷺ قال:"استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد ولا حول ولا قوة إلاّ بالله"، رواه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ٢، ولكن في إسناده أبو السمح دراج بن سمعان صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف٣، وهذا منها. لكن جاء عدُّ لا حول ولا قوة إلاّ بالله في جملة " الباقيات الصالحات" عن غير واحد من الصحابة والتابعين، فقد روى الإمام أحمد في مسنده أنَّ أمير المؤمنين عثمان بن عفان ﵁ سئل عن " الباقيات الصالحات " ما هي؟ فقال: «هي لا إله إلاّ الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله» ٤. وروى ابن جرير عن ابن عمر ﵄ أنَّه سئل عن " الباقيات الصالحات " فقال: لا إله إلاّ الله، والله أكبر، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ٥. وعن سعيد بن المسيب قال: «الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله» ٦. وروى ابن جرير الطبري عن عمارة بن صياد قال: «سألني سعيد بن المسيب عن " الباقيات الصالحات "، فقلت: الصلاة والصيام، قال: لم تصب، فقلت: الزكاة والحج، فقال: لم تصب، ولكنَّهنَّ الكلمات الخمس: لا إله إلاّ الله، والله

١ سورة الكهف، الآية (٤٦) . ٢ المسند (٣ / ٧٥)، وصحيح ابن حبان (الإحسان) (رقم: ٨٤٠)، والمستدرك (١/٥١٢) . ٣ انظر: تقريب التهذيب (٣١٠) . ٤ المسند (١ / ٧١) . ٥ تفسير الطبري (١٥ / ٢٥٥) . ٦ المصدر السابق (١٥ / ٢٥٤) .

1 / 68

أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله» ١. وأثر ابن المسيب هذا يوهم أنَّ " الباقيات الصالحات " محصورةٌ في هؤلاء الكلمات الخمس، والذي عليه المحققون من أهل العلم أنَّ " الباقيات الصالحات" هنّ جميع أعمال الخير، كما جاء عن ابن عباس ﵄ في قوله: ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَات﴾ قال: «هي ذكر الله، قول لا إله إلاّ الله، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله، والصيام والصلاة والحج والصدقة والعتق والجهاد والصلة وجميع أعمال الحسنات وهن الباقيات الصالحات، التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السموات والأرض» ٢. ٣ – إخبار النبي ﷺ أنَّها كنزٌ من كنوز الجنة. فقد روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري ﵁ قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر فكنا إذا علونا كبّرنا، وفي رواية: فجعلنا لا نصعد شرفًا ولا نعلو شرفًا ولا نهبط في واد إلاّ رفعنا أصواتنا بالتكبير، فقال النبي ﷺ:" أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنَّكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، ولكن تدعون سميعًا بصيرًا"، ثم أتى عليّ وأنا أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، فقال: "يا عبد الله بن قيس، قل: لا حول ولا قوة إلاّ بالله فإنَّها كنزٌ من كنوز الجنة"، أو قال:" ألا أدلك على كلمة هي كنزٌ من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلاّ بالله " ٣. قال بعض أهل العلم في التعليق على هذا الحديث: «كان عليه [الصلاة و] السلام معلِّمًا لأمته فلا يراهم على حالة من الخير إلاّ أحبّ لهم الزيادة،فأحب للذين رفعوا أصواتهم بكلمة الإخلاص والتكبير أن يضيفوا إليها التبري من

١ المصدر السابق (١٥ / ٢٥٦) . ٢ المصدر السابق مع الجزء والصفحة نفسها. ٣ صحيح البخاري (رقم:٤٢٠٥، ٦٣٨٤)، وصحيح مسلم (رقم: ٢٧٠٤) .

1 / 69

الحول والقوة فيجمعوا بين التوحيد والإيمان بالقدر» ١، وقد جاء في الحديث:" إذا قال العبد لا حول ولا قوة إلاّ بالله، قال الله: أسلم واستسلم" رواه الحاكم بإسناد قال عنه الحافظ ابن حجر: «قوي» ٢. وفي رواية: " ألا أدلك على كلمة من تحت العرش من كنز الجنة؟ تقول: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، فيقول الله ﷿: أسلم عبدي واستسلم" رواه الحاكم وقال: «صحيح ولا يحفظ له علة» ووافقه الذهبي. قال النووي – ﵀: «ومعنى الكنز هنا أنَّه ثواب مدخرٌ في الجنة، وهو ثوابٌ نفيسٌ كما أنَّ الكنز أنفس أموالكم» ٣. وقال ابن حجر – ﵀: «كنزٌ من كنوز الجنة من حيث أنَّه يدخر لصاحبها من الثواب ما يقع له في الجنة موقع الكنز في الدنيا؛ لأنَّ من شأن الكانز أن يعد كنزه لخلاصه مما ينوبه والتمتع به فيما يلائمه» ٤. ٤ – ورود الأمر بالإكثار منها والإخبار أنَّها من غراس الجنة. روى الإمام أحمد وابن حبان عن أبي أيوب الأنصاري ﵁ أنَّ النبي ﷺ ليلة أسري به مرَّ على إبراهيم، على نبينا وعليه الصلاة والسلام فقال: «يا محمد مُرْ أمَّتَك أن يكثروا من غراس الجنة، قال: وما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله» ٥. وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة ﵁ أنَّ النبي ﷺ قال:" أكثروا من قول لا حول ولا قوة إلاّ بالله فإنَّها كنزٌ من كنوز الجنة " ٦.

١ فتح الباري (١١/٥٠١) ٢ فتح الباري (١١ / ٥٠١) . ٣ شرح النووي على صحيح مسلم (١٧ / ٢٦) . ٤ نقله ابن علان في الفتوحات الربانية (١ / ٢٣٨) . ٥ المسند (٥ / ٤١٨)، وصحيح ابن حبان (الإحسان) (رقم:٨٢١) . ٦ المسند (٢ /٣٣٣)، وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (رقم: ١٥٢٨) .

1 / 70

٥ – إخبار النبي ﷺ أنَّها بابٌ من أبواب الجنة. روى الإمام أحمد والحاكم عن قيس بن سعد بن عبادة أنَّ أباه دفعه إلى النبي ﷺ يخدمه قال: فمرّ بي النبي ﷺ وقد صليت فضربني برجله وقال:" ألا أدلك على باب من أبواب الجنة؟ قلت: بلى، قال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله" ١. ٦ – تصديق الله لمن قالها. روى الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم عن أبي إسحاق عن الأغر أبي مسلم، أنَّه شهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ﵄ أنَّهما شهدا على رسول الله ﷺ أنَّه قال:" إذا قال العبد: لا إله إلاّ الله والله أكبر، قال: يقول الله ﵎: صدق عبدي لا إله إلاّ أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلاّ الله وحده، قال: صدق عبدي لا إله إلاّ أنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلاّ الله لا شريك له، قال: صدق عبدي لا إله إلاّ أنا لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلاّ الله له الملك وله الحمد، قال: صدق عبدي، لا إله إلاّ أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلاّ الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، قال: صدق عبدي لا إله إلاّ أنا ولا حول ولا قوة إلاّ بي". ثم قال الأغر شيئًا لم أفهمه، قلتُ لأبي جعفر: ما قال؟ قال: «من رُزِقهنّ عند موته لم تمسّه النار» . وقال الترمذي: حديث حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الشيخ الألباني ﵀: وهو حديث صحيح٢. قال ابن القيم – ﵀: «الذكر سبب لتصديق الرب ﷿ عبدَه،

١ المسند (٣ / ٤٢٢)، والمستدرك (٤ / ٢٩٠)، وانظر: الصحيحة (٤ / ٣٥ – ٣٧) . ٢ سنن الترمذي (رقم:٣٤٣٠)، وسنن ابن ماجه (رقم: ٣٧٩٤)، وصحيح ابن حبان (رقم:٨٥١)، ومستدرك الحاكم (١ / ٥)، والسلسلة الصحيحة (رقم: ١٣٩٠) .

1 / 71

فإنَّ الذاكر يخبر عن الله تعالى بأوصاف كماله ونعوت جلاله، فإذا أخبر بها العبد صدَّقه ربُّه، ومن صدّقه اللهُ تعالى لم يحشر مع الكاذبين، ورجي له أن يحشر مع الصادقين» ١. فهذه بعض الفضائل الدالة على عظم مكانة هذه الكلمة، ورفعة شأنها، وكثرة عوائدها وفوائدها، وعظم ما يترتب عليها من أجور عظيمة وخيرات جليلة وفوائد متنوعة في الدنيا والآخرة. وقد نظم ابن العراقي – ﵀ – جملةً من الفضائل الواردة لهذه الكلمة في أبيات لطيفة فقال: يا صاح أكثر قول لا حول ولا ... قوة إلاّ فهي للداء دوا وإنَّها كنز من الجنة يا ... فوز امرئ لجنة المأوى أوا له يقول ربنا أسلم لي ... عبدي واستسلم راضيًا هوا وأنشد أيضًا لنفسه: تبرّأ من الحول والقوة ... تنل أيَّ كنز من الجنة وسلِّم أمورك لله كي ... تبيت وتصبح في جنة ولا ترج إن مسّ خطب سوى ... إلهك ذي الفضل والمنة وواظب على الخير واحرص على ... أداء الفرائض والسنة وكن سالم الصدر للمسلمين ... من غلٍّ وحقد ومن ظنَّةٍ٢

١ الوابل الصيب (ص: ١٦٠) ٢ انظر: فضل لا حول ولا قوة إلاّ بالله لابن عبد الهادي (ص:٣٩ – ٤٠) .

1 / 72

المبحث الثالث: دلائل «لا حول ولا قوة إلاّ بالله» العقدية: إنَّ هذه الكلمة العظيمة التي سبق ذكر بعض فضائلها وبيان شيء من ميزاتها ومحاسنها ذاتُ دلالات عميقة ومعان جليلة تشهد بحسنها، وتدل على كماله وعظم شأنها وكثرة عوائدها وفوائدها. وإنَّ أحسن ما يستعان به على فهم دلالاتها ومعرفة معانيها ومقاصدها قولُ النبي ﷺ لأبي هريرة ﵁:" ألا أدلك على كلمة من تحت العرش من كنز الجنة؟ تقول: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، فيقول الله ﷿: أسلم عبدي واستسلم" ١. وقد روى ابن عبد الهادي في كتابه " فضل لا حول ولا قوة إلاّ بالله " بسنده عن ابن عباس ﵄ قال: «من قال بسم الله فقد ذكر اللهَ، ومن قال الحمد لله فقد شكر الله، ومن قال: الله أكبر فقد عظّم اللهَ، ومن قال: لا إله إلاّ الله فقد وحّد الله، ومن قال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله فقد أسلم واستسلم وكان له بها كنزٌ من كنوز الجنة» ٢. وروي عن ابن عمر أنَّه قال: «سبحان الله هي صلاة الخلائق، والحمد لله كلمة الشكر، ولا إله إلاّ الله كلمة الإخلاص، والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، وإذا قال: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، قال الله تعالى: أسلم واستسلم» ٣. فهي كلمة إسلام واستسلام، وتفويض وتبرّؤ من الحول والقوّة إلاّ بالله، وأنَّ العبد لا يملك من أمره شيئًا، وليس له حيلةٌ في دفع شر، ولا قوةٌ في جلب خير إلاّ بإرادة الله تعالى، فلا تحوّل للعبد من معصية إلى طاعة، ولا من مرض إلى

١ تقدم تخريجه. ٢ فضل لا حول ولا قوة إلاّ بالله لابن عبد الهادي (ص:٣٥) . ٣ رواه رزين كما في مشكاة المصابيح للتبريزي (٢ / ٧١٨) .

1 / 73

صحة، ولا من وهن إلى قوة، ولا من نقصان إلى كمال وزيادة إلاّ بالله، ولا قوة له على القيام بشأن من شؤونه، أو تحقيق هدفٍ من أهدافه أو غاية من غاياته إلاّ بالله العظيم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فأزمّةُ الأمور بيده سبحانه، وأمور الخلائق معقودةٌ بقضائه وقدره، يصرفها كيف يشاء ويقضي فيها بما يريد، ولا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه، فما شاء كان كما شاء في الوقت الذي يشاء، على الوجه الذي يشاء من غير زيادة ولا نقصان، ولا تقدّم ولا تأخر، له الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النعمة والفضل،وله الثناء الحسن، شملت قدرته كلَّ شيء، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ١، ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾ ٢، ومن كان هذا شأنه فإنَّ الواجب الإسلامُ لألوهيته والاستسلام لعظمته، وتفويض الأمور كلِّها إليه، والتبرّؤُ من الحول والقوة إلاّ به، ولهذا تعبّد الله عباده بذكره بهذه الكلمة العظيمة التي هي باب عظيم من أبواب الجنة وكنز من كنوزها. فهي كلمة عظيمةٌ تعني الإخلاص لله وحده بالاستعانة، كما أنَّ كلمة التوحيد لا إله إلاّ الله تعني الإخلاص لله بالعبادة، فلا تتحقق لا إله إلاّ الله إلاّ بإخلاص العبادة كلِّها لله، ولا تتحقق لا حول ولا قوة إلاّ بالله إلاّ بإخلاص الاستعانة كلِّها لله، وقد جمع الله بين هذين الأمرين في سورة الفاتحة أفضل سورة في القرآن، وذلك في قوله ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فالأوّل تبرّؤٌ من الشرك، والثاني تبرّؤٌ من الحول والقوّة، وتفويضٌ إلى الله ﷿، والعبادة متعلّقة بألوهية الله سبحانه، والاستعانة متعلّقة بربوبيّته، العبادة غاية، والاستعانة وسيلة، فلا سبيل إلى تحقيق تلك الغاية العظيمة إلاّ بهذه الوسيلة: الاستعانة بالله الذي لا حول ولا قوة إلاّ به.

١ سورة يس، الآية (٨٢) . ٢ سورة فاطر، الآية (٢) .

1 / 74

ويمكن أن نلخص الدلالات العقدية لهذه الكلمة العظيمة في النقاط التالية: ١ – أنَّها كلمة استعانة بالله العظيم، فحريٌّ بقائلها والمحافظ عليها أن يظفر بعون الله له وتوفيقه وتسديده. قال شيخ الإسلام ابن تيمية – ﵀: «وقول " لا حول ولا قوة إلاّ بالله " يوجب الإعانةَ؛ ولهذا سنّها النبي ﷺ إذا قال المؤذّن: حيّ على الصلاة، فيقول المجيب: لا حول ولا قوة إلاّ بالله، فإذا قال: حي على الفلاح، قال المجيب: لا حول ولا قوة إلاّ بالله. وقال المؤمن لصاحبه: ﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ ١ولهذا يؤمر بهذا من يخاف العين على شيء، فقوله: ما شاء الله، تقديره: ما شاء الله كان، فلا يأمن؛ بل يؤمن بالقدر ويقول: لا قوّة إلاّ بالله، وفي حديث أبي موسى الأشعري ﵁ المتفق عليه،أنَّ النبي ﷺ قال:"هي كنز من كنوز الجنة" والكنز مال مجتمع لا يحتاج إلى جمع؛ وذلك أنَّها تتضمن التوكل والافتقار إلى الله تعالى. ومعلوم أنَّه لا يكون شيء إلاّ بمشيئة الله وقدرته، وأنَّ الخلق ليس منهم شيء إلاّ ما أحدثه الله فيهم، فإذا انقطع طلب القلب للمعونة منهم وطلبها من الله فقد طلبها من خالقها الذي لا يأتي بها إلاّ هو، قال تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾ ٢ وقال تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾ ٣ وقال تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ

١ سورة الكهف، الآية (٣٩) . ٢ سورة فاطر، الآية (٢) . ٣ سورة يونس، الآية (١٠٧) .

1 / 75

قَدِيرٌ﴾ ١ وقال تعالى: ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ﴾ ٢. وقال صاحب يس: ﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ٣ولهذا يأمر الله بالتوكل عليه وحده في غير موضع، وفي الأثر: من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده» ٤. ولهذا ورد في السنة مشروعية قول هذه الكلمة عند خروج المسلم من منزله لقضاء أموره الدينية أو الدنيوية استعانةً بالله واعتمادًا عليه، فعن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ:"من قال – يعني إذا خرج من بيته – بسم الله، توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله تعالى، يقال له: كفيت، ووقيت، وهديت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي " رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح.٥ ولهذا أيضًا جعل بعض أهل العلم هذه الكلمة في مستهل ومفتتح مؤلفاتهم طلبًا للإعانة من الله ﷿ كما في مقدمة صريح السنة للطبري، والأربعين في دلائل التوحيد للهروي، والصفات للدار قطني وغيرها. ٢ - تضمنها الإقرار بربوبيّة الله وأنَّه وحده الخالق لهذا العالم، المدبّر

١ سورة الأنعام، الآية (١٧) . ٢ سورة الزمر، الآية (٣٨) . ٣ سورة يس، الآيتان (٢٣ -٢٤) . ٤ مجموع الفتاوى (١٣ / ٣٢١ - ٣٢٢) . ٥ أبو داود (رقم: ٥٠٩٥) والترمذي (رقم:٣٤٢٦) وصححه الألباني في تحقيقه للكلم الطيب لابن تيمية (ص: ٤٩) .

1 / 76

لشؤونه، المتصرف فيه بحكمته ومشيئته، لا يقع شيءٌ في هذا العالم من حركة أو سكون، أو خفض أو رفع، أو عز أو ذل، أو عطاء أو منع إلاّ بإذنه، يفعل ما يشاء ولا يُمانع ولا يُغالب، بل قد قهر كلَّ شيء، ودان له كلُّ شيء، كما قال تعالى: ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ ١، وقال تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾ ٢، وقال تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ ٣، فالقائل لتلك الكلمة مقرٌّ بهذا، مذعن به، معترف أنَّ أموره كلَّها بيد ربّه ومليكه وخالقه لا قدرة له على شيء ولا حول ولا قوة إلاّ بإذن ربّه ومولاه، وبتوفيق سيّده ومليكه، ولهذا إليه يلجأ، وبه يستعين، وعليه يعتمد في كلِّ أحواله وفي جميع شؤونه. ٣ – تضمنها الإقرار بأسماء الله وصفاته، إذ القائل لهذه الكلمة - ولا بد - مقرٌّ بأنَّ المدعو المقصود الملتجأ إليه بهذه الكلمة غنيٌّ بذاته، وكلُّ ما سواه فقيرٌ إليه، قائم بذاته وكلُّ ما سواه لا يقوم إلاّ به، قديرٌ لذاته وكلُّ ما سواه عاجز لا قدرة له إلاّ بما أقدره، متصف بجميع صفات الكمال ونعوت العظمة والجلال، وكلُّ ما سواه ملازمه النقص، وليس الكمال المطلق إلاّ له ﷾، فلعظمة أسمائه وكمال نعوته وصفاته استحق أن يقصد وحده، وأن لا يلجأ إلاّ إليه. ٤ – وفي هذا دلالةٌ وإشارة إلى التلازم بين التوحيد العلمي بقسميه: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، والتوحيد العملي الذي هو توحيد الألوهية.

١ سورة الأعراف، الآية (٥٤) . ٢ سورة فاطر، الآية (٢) . ٣ سورة يونس، الآية (٣)

1 / 77

فإنَّ العبد إذا أقرّ بربوبية الله وكماله في أسمائه وصفاته فإنَّ ذلك يستلزم أن لا يلجأ إلاّ إليه، ولا يقصد أحدًا سواه، وإن لم يفعل ذلك فإنَّه لا يكون موحدًا بمجرد إقراره بربوبيّة الله وإيمانه بأسماء الله وصفاته، فلو أقرّ بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كلِّ ما ينزه عنه، وأقرّ بأنه وحده خالق كلِّ شيء لم يكن من أهل الإيمان والتوحيد ما لم يشهد أنَّه لا إله إلاّ الله، ويعمل بمقتضى ذلك فلا يعبد إلاّ إيّاه، ولا يتوكل إلاّ عليه، ولا يعمل إلاّ لأجله. ٥ – تضمنها الإقرار بألوهية الله، وأنَّه وحده المعبود بحق ولا معبود بحق سواه، وذلك في قوله «إلاّ بالله» . والله معناه كما قال ابن عباس ﵄: «ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين» ١، وقد جمع ﵁ في هذا التفسير بين ذكر الألوهية وهي الوصف المتعلق بالله من هذا الاسم فهو سبحانه المألوه المعبود المرجو المطاع الذي لا يستحق العبادة أحدٌ سواه، وبين وصف العبد وهو العبودية؛ إذ إنَّ عباد الله هم الذين يعبدونه ويألهونه ويقومون بطاعته وحده لا شريك له. ثم إنَّ هذا الاسم مستلزمٌ لجميع أسماء الله الحسنى دالٌ عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين له، ولهذا كان من خصائص هذا الاسم أنَّ الله جلّ وعلا يضيف سائر الأسماء إليه كقوله: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ ٢ويقال: العزيز الحكيم الرحيم من أسماء الله، ولا يقال الله من أسماء الرحمن، فلهذا الاسم شأنه ومكانته وخصائصه. قال ابن منده – ﵀: «فاسم الله معرفة ذاته، منع الله ﷿ خلْقَه أن يتسمّى به أحدٌ من خلقه، أو يدعى باسمه إله من دونه، جعله أوّلَ الإيمان،

١ رواه ابن جرير في تفسيره (١ / ٥٤) . ٢سورة الأعراف، الآية (١٨٠) .

1 / 78