العزيز شرح الوجيز = الشرح الكبير للرافعي - ط العلمية
محقق
علي محمد عوض - عادل أحمد عبد الموجود
الناشر
دار الكتب العلمية
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤١٧ هـ - ١٩٩٧ م
مكان النشر
بيروت - لبنان
تصانيف
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[قال الشيخ الأجل الكبير، الإمام العالم العامل الورع الأوحد، حبر الأمة، ملك الأئمة، إمام الدين، علاَّمة الإسلام أبو القاسم عبد الكريم الرافعي، القزويني، قدس الله تعالى روحه] (١).
أحمد اللهَ الحقَّ ذا الجلال والإكرام، وأصلي على رسوله محمد خير الأنام، وأسلم عليه وعلى آله وأصحابه أفضل الصلاة والسلام - وأقول: إن المبتدئين لحفظ (٢) المَذْهَبِ من أبناء الزمان، قد تولَّعوا بكتاب الوجيز للإمامة العلامة حُجَّة الإسلام، أبي حامد الغزاليِّ، قدَّس الله تعالى روحه العزيزة وهو كتاب غزيرُ الفوائدِ، جَمُّ العوائد، وله القدح المُعَلَّى، والحظ الأوفى، من استيفاء أقسام الحسن والكمال، واستحقاق صرف الهَمَّة إليه (٣) والاعتناء بالإكباب عليه، والإقبال والاختصاص (٤) بصعوبة اللفظ، ودقَّةِ المعنى؟ لما فيه من حسن النَّظْمِ، وصغر الحجم، وإنه من هذا الوجه مُحَوَجٌ إلى أحد أمرين:
إما مراجعة غيره من الكتب. وإما (٥) شرح يُذَلِّلُ صِعَابَهُ.
ومعلوم أن المراجعة لا تتأتى لكل أحد، وفي كل وقت، وأنها لا تقوم مقام الشرح المغني لإيضاح الكتاب (٦)، فدعاني ذلك إلى عمل شرح يوضح فقه مسائله، فيوجهها (٧)، ويكشف عما انغلق من الألفاظ، ودَقَّ من المعاني، ليغتنمه الشَّارعون في ذلك الكتاب، المخصوصون بالطَّبْع السليم، وبعينهم على بغيتهم، ويتنبه الذين [رأوا] (٨) غيره أولى منه، لما ذهب عليهم (٩) من فقه الكتاب ودقائقه؛ واستصعابه
_________
(١) ما بين القوسين سقط في ط، وفي أ: قال الشيخ الإمام أبو القاسم الرافعي القزويني ﵀.
(٢) في أ: لتحصيل.
(٣) في ب: إليه الآداب.
(٤) في أ: لاختصاصه.
(٥) في أ: أو.
(٦) في ز: عن الإيضاح للكتاب.
(٧) في أ: ويوجهها.
(٨) سقط في ط.
(٩) في أ: عليه.
1 / 3
عليهم؟ فينكشف لهم أنهم حرموا أشياء كثيرة (١)، ولقبته بـ"العَزِيْزِ (٢) في شَرْح الوَجِيْزِ"، وهو عزيز على [المتخلفين] (٣) بمعنى، وعند المبرزين المنصفين بمعنى، وربما تلتبس (٤) على المبتدئين والمتبلدين أمور من الكتاب، فيطمعون في اشتمال هذا الشرح على ما يشفيهم، ولا يظفرون به فليعلموا [أن] (٥) السبب فيه أن تلك المواضع لا تستحق شرحًا يودع بطون الأوراق، والقصور في أفهامهم فدواؤهم الرجوع إلى من يوقفهم (٦) على ما يطلبون، والله وليُّ التيسير وهذا حين افتتح القول [فيه] (٧) مستعينًا بالله تعالى، [ومتوخيًا] (٨) للاختصار ما استطعت، واللهُ حَسْبِي ونعم الوكيلُ.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الغزالي: أَحْمَدُ اللهَ عَلَى نِعَمه السَّابِغَة، وَمنَنِه السَّائغَة، وَأَتَوَكَّلُ عَلَيهِ بِمَعْرِفَةٍ يُسْتَحْقَرُ في ضِيَائِهَا نُورُ الشَّمْسِ الْبَازِغَةِ، وَبَصِيرَة تَنْخَنَسُ دُونَ بَهَائِهَا وَسَاوِسُ الشَّيَاطِينِ النَّازِغَةِ، وَهِدَايَة يَنْمَحَقُ في رُوَائِهَا أَبَاطِيلُ الخَيَالاَتِ الزَّائِغَةِ، وَطُمَأنِينَةٍ تَضمَحِلُّ في أَرْجَائِهَا تَخَاييلُ المَقَالاَتِ الفَارِغَةِ، وأُصلِّي عَلَى المُصْطَفَى مُحَمَّدٍ المَبعُوثِ بالاَيَاتِ الدَّامِغَةِ، المُؤَيَّدِ بالحُجَجِ البَالِغَةِ، وعَلَى آلِهِ الطَّيبِينَ، وَأَصْحَابِهِ الطَّاهِرِينَ إرْغَامًا لِأُنوفِ المُبْتَدَعَةِ النَّابِغَةِ.
أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي مُتْحِفُكَ أَيها السَّائِلُ المُتَلَطِّفُ، وَالحَريصُ المُتَشَوِّفُ بِهَذَا الوَجِيزِ الَّذِي اشْتَدّتْ إِلَيْه ضَرُورَتُكَ وَافْتِقَارُكَ، وَطَالَ فِي نَيْلِهِ اَنتِظَارُكَ، بَعْد أَنْ مَخَضْتُ لَكَ فِيهِ جُمْلَةَ الفِقْهِ فَاسْتَخْرَجْتُ زُبْدَتَهُ، وَتَصَفَّحْتُ تَفَاصِيلَ الشَّرْعِ فَاَنْتَقَيْتُ صَفْوَتَهُ وَعُمْدَتَهُ، وَأَوْجَزْتُ لَكَ المَذْهَبَ البَسِيطَ الطَّوِيلَ، وَخَفَّفْتُ عَنْ حِفْظِكَ ذَلِكَ العِبْءِ الثَّقِيلَ، وَأَدْمَجْتُ جَمِيعَ مَسَائِلِهِ بِأُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا بِاَلْفَاظٍ مُحَرَّرَةٍ لَطِيفَةٍ، في أَوْراقٍ مَعْدُودَةٍ خَفِيفَةٍ، وَعَبَّيْتُ فِيهَا الفُرُوعَ الشَّوَارِدَ، تَحْتَ مَعَاقِدِ القَوَاعِدِ، وَنَبَّهْتُ فِيهَا بِالرُّمُوزِ، عَلَى الكُنُوزِ، وَاكْتَفَيتُ عَنْ نَقْلِ المَذَاهِبِ وَالوُجُوهِ البَعِيدَةِ بِنَقْلِ الظَّاهِرِ مِنْ مَذْهَبِ الإِمَامِ الشَّافِعِيَّ المُطَّلِبيِّ ﵀، ثُمَّ عَرَّفْتُكَ مَذْهَبَ مَالِكِ وَأَبِي حَنُيفَةَ والمُزَنِيِّ وَالوُجُوهَ البَعِيدَةَ لِلأَصْحَابِ بِالعَلاَمَاتِ،
_________
(١) في ط (شيئًا كثيرًا).
(٢) في أ: بالعزيز.
(٣) في ز (المختلفين).
(٤) في أ: يلتبس.
(٥) سقط في ب.
(٦) في ط (يطلعهم).
(٧) سقط في أ.
(٨) في ز (مستوجبًا).
1 / 4
وَالرُّقُومَ المَرْسُومَةَ بالحُمْرَةِ (١) فَوْقَ الكَلِمَاتِ، فَالمِيمُ عَلاَمَةُ مَالِكٍ، وَالحَاءُ عَلاَمَةُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالزَّايُ عَلاَمَةُ المُزَنِيِّ فَاستُدِلَّ بِإثْبَاتِ هَذِهِ العَلاَمَاتِ فَوْقَ الكَلِمَاتِ عَلَى مُخَالَفَتَهمْ فِي تِلكَ المَسَائِلِ، وَبالوَاو بِالحُمْرةِ فَوْقَ الكَلِمَةِ عَلَى وَجْهٍ أَوْ قَوْلٍ بَعِيدٍ مُخَرَّجٍ لِلأَصْحَابِ، وَبِالنَّقْطُ بَيْنَ الكَلِمَتَينِ، عَلَى الفَصْلِ بَينَ المَسْأَلَتَينِ، كُلُّ ذَلِكَ حَذَرًا مِنَ الإِطْنَابِ، وَتَنْحِيَةً لِلقِشرِ عَنِ اللُّبَابِ، فَتَحَرَّرَ الكِتَابُ مَعَ صِغَر حَجمِهِ، وَجَزَالَةِ نَظْمِهِ، وَبَدِيعِ تَرْتِيبِهِ، وَحُسْنِ تَرْصِيعِهِ وَتَهذِيبِهِ، حَاوِيًا لِقَوَاعِدِ المَذهَبِ مَعَ فُرُوع غَرِيبَةِ، خَلاَ عَنْ مُعْظَمِهَا المَجمُوعَاتُ البَسِيطَةُ، فَإِنْ أَنْتَ تَشَمَّرْتَ لِمُطَالَعَتِهَا، وَأَدْمَنْتَ مُرَاجَعَتَهَا، وَتَفِطَّنْتَ لِرُمُوزِهَا وَدَقَائِقَهَا، المَرْعِيةِ في تَرْتِيبِ مَسَائِلِهَا، اجْتَزَأتُ بِهَا عَنْ مُجَلَّدَاتِ ثَقِيلَةٍ، فَهِيَ عَلَى التَّحْقِيقِ إِذَا تأمَلْتَهَا قَصِيرَةٌ عَنْ طَوِيلَةٍ، فَكَم مِن كَلِم كَثِيرَةٍ فَضلَتْها كَلِمُ قَلِيلَةٌ، فَخَيْرُ الكَلاَمِ مَا قَلَّ وَدَلَّ وَمَا أَمَلَّ، فَنَسْأَلُ اللهَ ﷿، أَنْ يَدْفَعَ عَنَّا كَيدَ الشَّيْطانِ إِذَا أسْتَهْوَيَ وَاسْتَزَلَّ، وَأَنْ لاَ يَجعَلَنَا مِمَّنْ زَاغَ عَنِ الحَقِّ وَضَلَّ، وأَنْ يَعفُوَ عَمَّا طَغَى بِهِ القَلَمُ أَوْ زَلَّ، فَهُوَ أَحَقُّ مَنْ أَسْدَى إِلَى عِبَادِهِ سُؤْلَهُمْ وَأَزَلَّ.
قال الرافعي: أما ديباجةُ الكتاب فلا يتعلق بشرحها غرضٌ، ولكن من شرطك أن تطالعها وتعرف منها غاية (٢) حجة الإسلام رحمه الله تعالى، بالرموز التي قصد أن يُسَمِّ بها الكلمات (٣) إشعارًا بالأقوال والوجوه ومذاهب سائر الأئمة، وتتبين أنه ليس للشارح إهمالها على غزارة فائدتها، فإنها لا تعطى إلا معرفة خلاف في المسألة، فإما كفايته (٤) وإطلاقه وتفصيله (٥) فلا، ولذلك نجد أكثر النسخ عاطلة عنها في معظم المسائل ونحن لا نلتزم الوفاء بها، فإن اختلاف العلماء فن عظيم لا يمكن جعله علاوة كتاب، ولكن نتعرض منها لما هو أهم في عرض الكتاب ويستدعيه لفظه وبالله التوفيق.
_________
(١) ثبت في هامش المتن: قد استبدلنا هذه العلامات الحمراء برسم كل من الميم والحاء والزاي والواو بين قوسين بعد الكلمة لا فوقها فليتذكر المطالعون ذلك.
(٢) في أ، ب: عناية.
(٣) في أ: الكتاب.
(٤) في أ: كيفيتها.
(٥) في أ: وتفصيله وإطلاقه.
1 / 5
قال (١) ﵀:
كِتَابُ الطَّهَارَةِ (٢)
وَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ
البَابُ الأَوَّلُ فِي المِيَاهِ الطَّاهِرَةِ
قال الغزالي: وَالمُطَهِّرُ لِلْحَدَثِ وَالْخَبَثِ (ح) هُوَ المَاءُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ المَائِعَاتِ.
قال الرافعي: أراد بالطهارة بعض أنواع الطهارة، وهو الطهارة بالماء، وإلا فمن شرطه إدراجِ التيمم في أبواب هذا الكتاب؛ لأنه إحدى الطَّهَارات، ألا ترى إلى قول الشافعي ﵁ طَهَارَتَانِ فكيف يفترقان فلما أفرده بكتاب دلَّ أنه أراد الطهارة بالماء. ثم الأحكام المتعلقة بالطَّهَارَةِ تنقسم إلى ما يَجْرِي مُجّرَى المقدمات، كالقول في المياه وإلى ما يجري مجرى المقاصد كالقول في نفس الوضوء والغُسْلِ، فجعل من الأبواب الثمانية أربعة في المُقَدّمَاتِ، ثم أربعة (٣) في المَقَاصِدِ، ولهذا قال عند تمام الأربعة الأولى هذا تمام قسم المُقَدّمَات، ثم الماء إما أن يكون مَعْلُومَ الحُكْمِ، أو لا يكون، فإن كان فهو إما طَاهِرٌ، أو نَجِسٌ، فإن (٤) لم يكن فهو الذي يُشْكَلُ ويشتبه حاله ثم هو على التقدير إما أن يكون في إناء يُحْفَظُ فيه ويستعمل منه، أو لا يكون، فجعل البابِ الأول في المياه الطاهرة، والطاهر ينتظم فيه الطهور، وغيره.
والثاني: في المِيَاهِ النَّجِسَةِ.
والثالث: فيما اشْتَبَهَ حُكْمُهُ.
_________
(١) في أ: قال حجة الإسلام.
(٢) الطهارة لغة النظافة، وفي اصطلاح العلماء رفع حدث وإزالة نجس، أو ما في معناهما وهو تجديد الوضوء والأغسال المسنونة، والغسلة الثانية والثالثة في الوضوء والنجاسة والتيمم وغير ذلك مما لا يرفع حدثًا، ولا نجسًا لكنه في معناهما، انظر في معناها اللغوي الصحاح ٢/ ٧٢٧، ترتيب القاموس ٣/ ١٠٣، لسان العرب ٤/ ٢٧١٢، المصباح المنير ٢/ ٥١٨، والشرعي تحرير التنبيه للإمام النووي (٣٤)، وشرح المهذب ١/ ١٢٣، الاقناع ١/ ٥٨، حاشية الباجرري ١/ ٢٥.
(٣) في أ: وأربعة.
(٤) في أ: وان.
1 / 7
والرابع: فيما يعتبر من الأحكام باعتبار الظروف، والأواني.
وقوله: "والمُطَهِّرُ لِلْحَدَثِ وَالخَبَثِ"، هو الماء من بين سائر المائعات.
وفيه كلامان:
أحدهما: أن الخَبَثَ مَرْقُومٌ فيه النسخ بِرَقَمِ أبي حنيفة (١) -رحمه الله تعالى-، دون الحدث بناء على أن المشهور أن الطّهُورِيَّةَ مخصوصة بالماء في الحدث إجماعًا (٢)، ولكنه في الخبث مختلف فيه بيننا [وبين أبي حنيفة] (٣). ولك أن تقول دعوة الإجماع في الحدث على إطلاقه لا يَستقيم، لأن نَبِيذَ التَّمْرِ عنده طَهِورٌ في السفر عند إعواز (٤) الماء، وإذا كان كذلك فلو جعل الرقم على قوله هو الماء ليشملها جميعًا لم يضر.
الثاني: لم قال من بين سائر المَائِعَاتِ، ولم يقتصر على قوله، والمُطَهِّرُ للحدث والخبث، هو: الماء.
والجواب أنه لو اقتصر عليه لأشكل بِالتُّرَابِ فإنه مطهر، وليس بماء.
واعلم أنه لو أراد تخصيص الطهورية في الحدث والخبث جميعًا بالماء لما لزم هذا الإِشْكَالُ، لكنه لم يرد التَّخْصِيصَ في الفصلين جميعًا، وإنما أراد التخصيص في كل واحد منهما، فوجب الاحْتِرَازُ. فإن قلت: ولم اختصت الطهورية بالماء.
قلنا: أما في الحدث، فلقوله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ (٥) لولا اخْتِصَاصُ الوضوء بالماء لما نقل إلى التراب إلا بعد فقد ما يشارك الماء في الطهورية من المَائِعَاتِ
_________
(١) الإمام البارع أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى - بضم الزاي وفتح الطاء ابن ماه التيمي الكوفي إمام المذهب الحنفي، وأحد الأئمة الأربعة التي عليها مدار الناس قال الشافعي: (الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه) ولد سنة ٨١ هـ، وتوفي سنة ١٥٠ العبر ١/ ٢١٤، تهذيب الأسماء واللغات ٢/ ٢١٦، الجواهر المضيئة (١/ ٢٦ - ٣٢).
(٢) الإجماع في اللغة: العزم المصمم والاتفاق. وعند الأصوليين: اتفاق مجتهدي أمة الإجابة في عصر من العصور على أمرٍ من أمور الدين بعد وفاة النبي ﷺ. انظر: القاموس ٣/ ١٥، المصباح المنير ١/ ١٧١، المعتمد ٢/ ٤٥٧، المستصفى ١/ ١١٠، الإحكام للآمدي ٢/ ٢٨٠، منتهى السول ١/ ٤٩، المحصول ٢/ ١/ ١٩، شرح التنقيح ٣٢٢، الإبهاج ٢/ ٣٨٩، المنتهى لابن الحاجب ٣٧، جمع الجوامع حاشية البناني ٢/ ٧٧، العضد على المختصر ٢/ ٢٩، كشف الأسرار ٣/ ٢٢٧، تيسير التحرير ٣/ ٢٢٤، شرح الكوكب ٢/ ٢١٠. انظر سلاسل الذهب ٣٣٧.
(٣) في ط (وبينه).
(٤) عوز الشيء عوزًا من باب تعب عزْ فلم يوجد وعزت المشيء أعوزه من باب قال احتجت إليه فلم أجده وأعوزني المطلوب مثل أعجزني المصباح المنير ٢/ ٥٩٨.
(٥) سورة النساء (٤٣)، والمائدة (٦).
1 / 8
ليأتي بأكمل الطهارات، وأما في الخبث فلما نستوفي من الخلاف.
قال الغزالي: ثُمَّ المِيَاهُ الطَّاهِرَةُ عَلَى ثَلاثَةِ أقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَوَّلُ: المَاءُ المُطْلَقُ البَاقِي عَلَى أَوْصَافِ خِلْقَتِهِ فَهُوَ طَهُورٌ ومِنْهُ مَاءُ البَحْرِ وَمَاءُ البِئْرِ وَكُلَّ مَاءٍ نَبَعَ مِنَ الأَرْضِ أوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ.
قال الرافعي: قوله: "ثم المياه" يعني المياه الداخلة في هذا الباب - وهي الطاهرة وإنما انقسمت إلى ثلاثة أقسام، لأنها إما أن تبقى على أصل الخِلْقَةِ أو لا تبقى، وإن لم تَبْقَ فإما أن يخرج بما تغير من الصفات عن أن يسمى ماء مُطْلَقًا أو لا يكون كذلك.
الأول الباقي على أوصاف خِلُقتِهِ، فهو طَهُورٌ لوقوع [مطلق اسم] (١) الماء عليه، واندراجه تحت النصوص الآمرة باستعمال الماء، والمُجَوّزَةِ له. وقد ورد في ماء البحر قوله ﷺ: "الْبَحْرَ هُوَ الطَّهُورُ ماؤه" (٢). وفي ماء البئر: "إنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ بِئْر بضاعَة" (٣).
فإن قلت: لم اعتبر الإطلاقُ مع البقاء (٤) على أصل الخِلْقَةِ حيث قال: "الماء المُطْلَقُ الباقي على أوصاف خِلْقَتِهِ فهو طهور"، ثم إذا اعتبر فكيف عُدَّ منه ماء البحر،
_________
(١) في ز تقديم وتأخير.
(٢) رواه مالك والشافعي وأحمد والدارمي والأربعة والدارقطني والبيهقي والحاكم من رواية أبي هريرة قال الترمذي: حسن صحيح قال: وسألت البخاري عنه فقال حديث صحيح وصححه ابن خزيمة وابن حبان ورجح ابن منده صحته قال البيهقي في خلافياته: وإنما لم يخرجه الشيخان في صحيحيهما لأجل اختلاف وقع في اسم سعيد بن سلمة، والمغيرة بن أبي بردة. قال الحاكم ١/ ١٤٢ مثل هذا الحديث الذي تداوله الفقهاء في عصر الإمام مالك إلى وقتنا هذا لا يرد بجهالة هذين الرجلين. وهي مرفوعة عنهما بمتابعات فذكرها بأسانيد. قلت: وليسا بمجهولين. انظر خلاصة البدر المنير ١/ ٧. وقال ابن حجر في التلخيص تنبيه: وقع في بعض الطرق التي ذكرها الدارقطني أن اسم السائل عبد الله المدلجي، وكذا ساقه ابن بشكوال بإسناده وأورده الطبراني فيمن اسمه عبد، وتبعه أبو موسى فقال: عبد أبو زمعة البلوي الذي سأل النبي ﷺ عن ماء البحر، قال ابن منيع بلغني أن اسمه عبد، وقيل اسمه عبيد بالتصغير، وقال السمعاني في الأنساب: اسمه العركي، وغلط في ذلك، وإنما العركي وصف له، وهو ملاح السفينة قال أبو موسى: وأورده ابن منده فيمن اسمه عركي، والعركي هو الملاح، وليس هو اسمًا، والله أعلم. وقال الحميدي: قال الشافعي: هذا الحديث نصف علم الطهارة. انظر التلخيص ١/ ١٢.
(٣) رواه الشافعي وأحمد والثلاثة والدارقطني، والبيهقي من رواية أبي سعيد الخدري قال الترمذي: حسن. وفي بعض نسخه: صحيح وصححه أحمد ويحيى بن معين وغيرهما. انظر خلاصة البدر المنير ١/ ٧. وبضاعة بكسر الباء وَضَربها، والضم أكثر، وهي بئر قديمة بالمدينة حرسها الله تعالى.
(٤) في ب: بقائه.
1 / 9
وماء البئر، وهذا مُقَيَّدٌ (١) لا مُطْلَقٌ (٢).
فالجواب أن وصف الماء بالإطلاق قد تَكَرَّرَ في كلامِ الأئمة، ثم منهم من يفسر المطلق بالباقي على أوصاف الخِلْقَةِ، ومنهم من يُفسِّرُهُ بِاْلعَارِي عن القُيُود [والأوصاف] (٣).
ونقول: الماء ينقسم إلى مُطْلَقِ، وإلى مضاف، ثم من المضاف ما هو طهور [كماء الكُوز] (٤) والبحر، ومنه ما ليس بطهور كماء الزَّعْفَرَانِ وماء الشَّجَرِ: فيجوز أن يقال: أراد بالمطلق الباقي على أوصاف الخلقة، وبه يشعر ظاهر كلامه في الوَسِيطِ (٥)، وعلى هذا يكون تعقيب المطلق بالباقي على أوصاف الخلقة تفسيرًا، وبيانًا لِلْمَعْنَى.
ويجوز أن يقال: أراد بالمطلق العَارِيَ عَنِ القُيُودِ والإضافات، أي: كل ما يسمى ماء من غير قيد فهو طَهُورٌ، وهذا لا ينافيه وقوع اسم الماء عليه مضافًا، بل تصح الإشارة إلى الماء المُعَيَّنِ بأنه ماء وبأنه مَاءُ عَيْنٍ، أو نهر وبهذا يظهر فساد تقسيم من قسم الماء إلى مطلق، ومضاف؛ لأن المطلق يجوز أن يكون مضافًا، وبالعكس أيضًا، فيدخل أحد القسمين في الآخر وإذا عرفت ذلك فإن أراد المعنى الأول فهما شيء واحد، فلا معنى لقول القائل: لم اعتبر الإطلاق مع البقاء على أصل الخلقة، وإن أراد المعنى الثاني فقد ذكرنا أنه لا مُنَافَاةَ بين كونه مطلقًا بهذا المعنى، ومضافًا، ثم ليس ذلك على سبيل اشتراط الإطلاق، لأن كل باق على أصل [خلقته يقع] (٦) عليه اسم الماء عريًا عن الإضافات فهو إذًا ملازم للبقاء على أصل الخِلقة، وإنما هو إِشَارَةٌ إلى أن المعنى المقتضي للطّهُورِيَّةِ إطلاقه والدخول في النصوص على ما سبق، ويتبين مما ذكرناه أنه لو حذف لفظ المطلق لم يضر.
قال الغزالي: وَلاَ يُسْتَثْنَى عَنْهُ إِلَّا المَاءُ المُسْتَعْمَلُ فِي الحَدَثِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ (ح) غَيْرُ طَهُورٍ (م) عَلَى القَوْلِ الجدِيدِ (٧) لِتَأَدِّي العِبَادَةِ بِهِ وَانتِقَالِ المَنْعِ إِلَيهِ، فَالمُسْتَعْمَلُ فِي الكَرَّة
_________
(١) المقيد هو اللفظ الدال على الماهية الموصوفة بأمر زائد عليها أو هو اللفظ المتناول لمعين أو غير معين موصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لحينه.
(٢) المطلق هو اللفظ الدال على الماهية بلا قيد، أو هو اللفظ المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لعينه. انظر شرح الكوكب المنير ٢/ ٣٩٢ - ٣٩٣، العضد على ابن الحاجب ٢/ ٥٥ كشف الأسرار ٢/ ٣٨٦ التعريفات للجرجاني ٢١٨، الحدود للباجي ٤٧ - ٤٨، المحصول ١/ ٢/ ٥٢١، البرهان ١/ ٣٥٦، حاشية العطار ٢/ ٧١.
(٣) في أ (الإضافات).
(٤) في ب: كالكوز.
(٥) أحد الكتب الثلاثة للإمام الغزالي ﵀.
(٦) في ط: الخلق يقع.
(٧) وهو ما قاله الشافعي بمصر، وعليه استقرار المذهب، وانظر المقدمة. فإن فيها مزيد تفصيل.
1 / 10
الرَّابِعَةِ طَهُورٌ لِعَدَمِ المَعْنَيَينِ، وأمَّا المُسْتَعْمَلُ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ أَوْ فِي تَجْدِيدِ الوُضُوءِ أَوْ فِي غسلِ الذِّمِّيَّةِ إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنَ الحَيْضِ لِيَحِلَّ لِلزَّوْجِ غَشَيَانُهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ لِوُجُودِ أَحَدِ المَعْنَيَينِ دُونَ الثَّاني.
قال الرافعي: استثناء المستعمل من الباقي على أوصاف الخِلْقَةِ يبين أنه ليس المراد من الأوصاف كل ما يصح وصف الماء به، حتى الإضافات، والاعتبارات وإلا فإنه قبل الاستعمال مَوْصُوفٌ بأنه غير مستعمل، وبعده بأنه مستعمل، فلا يكون باقيًا على الأوصاف كلها، حتى يستثنى منه، وإنما المراد الصفات المعنوية، ثم الاعتبار منها باللَّوْنِ، وَالطَّعْمِ، وَالرَّائِحَةِ، وهي المنظور إليها في التغير بالنَّجَاسَةِ كما سيأتي، والصفات المعنوية باقية بحالها في المستعمل ثم هو غير طهور على المذهب فوجب استثناؤه.
وفقه الفصل. أن الماء المستعمل في الحديث طاهر، وفي رواية عن أبي حنيفة ﵀ هو نجس، وبه قال أبو يوسف (١) ﵀.
لنا وجهان، أحدهما: قال ﷺ: "خَلَقَ الله الْمَاءَ طَّهُورًا، لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلاَّ مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أوْ رِيْحَهُ" (٢) ولا تغير هاهنا.
والثاني: أن الصحابة فمن بعدهم كانوا يتوضؤن في ثِيَابِهِمْ، ولا يَحْتَرِزُونَ عما يَتَقَاطَرُ عليهم وعلى ثيابهم، وهل هو طهور أم لا؟ قال في الجَدِيدِ: لا، لأنهم ما كانوا يجمعون المياه المستعملة للاستعمال، ثانيًا، ولو جاز الاستعمال لجمعوها كي لا يحتاجوا إلى التَّيَمُّمِ، وحكى عن القديم، أنه طهور، وبه قال مالك (٣) ﵀؛ لأن الطَّهُورَ ما يتكرر منه الطهارة، كَالقَتُولِ، وَالشَّتُومِ من يتكرر منه الفعل، ولأنه ماء بَاقٍ على إطلاقه، فأشبه غيره.
ومنهم من لم يثبت هذا القول، وجزم بالجديد، وسواء ثبت أم لا فَالفَتْوَى على الجديد. ثم ذكر الأصحاب في أنه لم سقطت طهورية المستعمل معنيين:
_________
(١) يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، ويكنى بأبي يوسف، ويلقب بالقاضي، وقاضي القضاة، ولد سنة ١١٣ هـ وتوفى سنة ١٨٢ هـ. ابن خلكان ٢/ ٤٠٠، طبقات الأصوليين ١/ ١١٤.
(٢) رواه ابن ماجه والبيهقي هكذا من رواية أبي أمامة. والدارقطني بدون (أو لونه) وهو حديث ضعيف في إسناده رشدين بن سعد المصري. وهو واه قاله يحيى وأبو حاتم الرازي: والصحيح إرساله وأشار أمامنا الشافعي أيضًا إلى ضعفه، واستغنى عنه بالإجماع. انظر خلاصة البدر ١/ ٨.
(٣) الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي أبو عبد الله المدني أحد أعلام الإسلام وإمام دار الهجرة، ولد سنة ثلاث وتسعين، وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة، ودفن بالبقيع. انظر خلاصة تهذيب الكمال ٣/ ٣.
1 / 11
أحدهما: تأدى عبادة الطهارة به.
والثانى: تأدى فرض الطهارة به.
فمن قال بالأول: أسقط طهورية المستعمل في الكَرَّةِ الثانية والثالثة، وتجديد الوضوء، والمَضْمَضَةِ، وَالاسْتِنْشَاقِ، وَغُسْل الجمعة، والعيدين، وسائر مسنونات الطهارة، [والطهارة المسنونة] (١) وقال بقاء الطهورية فيما اغتسلت به الذمية عَنِ الحَيْضِ لتحل لزوجها المسلم إذ لا تصح منها العبادة. ومن قال: بالآخر عكس الحكم.
واتفقوا على أنهما لَيْسَتَا عِلَّتَيْنِ مستقلتين، وإلا لما صار بعضهم إلى ثبوت الطهورية في هذه الصور، وعلى أنهما ليستا جزأي علة واحدة، وإلا لما صار بعضهم إلى النفي، وإنما اختلفوا في أن المعنى هذا أو ذاك، وكل واحد منهما ملائم [الآخر] (٢)، أما تَأَدَّي العبادة [به] (٣) فلأن الآلة المستعملة في المقصود الحِسِّيِّ يورثها ضَعْفًا وَكَلاَلًا، فكذلك [الآلة] (٤) المستعملة في المَقصُودِ الشَّرْعِيِّ.
وأما تَأَدِّي الفرض به فلأن المراد منه رفع الحدث به، أو رفع منعه من الصلاة حيث لا يرتفع هو كما في وضوء صاحب الضَّرُورَةِ، وذلك يقتضي تأثر الماء ألا ترى أن غُسَالَةَ النَّجَاسَةِ لما أثرت في المَحِلِّ لم يبق المَحِلُّ كما كان قبل الغُسْلِ تأثرت هي بالاستعمال، حتى لم تبق كما كانت قبل الغسل، يُحْكَى هذا التقرير عَن ابْنِ سُرَيجٍ (٥)، ويجوز أن لا يقدر لكل واحد من فريقي الأصحاب التعليل بالمعنى الذي أبداه استقلالًا؛ بل يقول هؤلاء: ما ذكرناه من المعنى واقع في موضوع الاتفاق ملائم للحكم، فلا يحذف عن دَرَجَةِ الاعتبار، ويزعمون أن المعنى الثاني لغو، والآخرون يدعون مثل ذلك في المعنى الثاني، فَيَنْتَظِمُ الخلاف على هذا التقدير أيضًا.
_________
(١) في ز (الطهارات المسنرنات).
(٢) سقط في ط.
(٣) سقط في ط.
(٤) سقط في ب.
(٥) القاضي أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي شيخ الشافعية في عصره، وعنه انتشر فقه الشافعي في أكثر الآفاق. قال الشيخ أبو إسحاق: كان ابن سريج يفضل على جميع أصحاب الشافعي حتى المزني، وقال الشيخ أبو حامد: نحن نجري مع ابن سريج في ظواهر الفقه دون دقائقه. بلغت مصنفاته أربعمائة تصنيف. تولى أبو العباس قضاء شيراز، ومات ببغداد لخمس بقين من جمادى الأولى سنة ست وثلثمائة عن سبع وخمسين، وستة أشهر قاله النووي في (تهذيبه) قال الخطيب: ودفن بالجانب الغربي بحجرة لسويقة بن غالب، وكان سريج جده مشهورًا بالصلاح الوافر. انظر ترجمته في الأسنوي ٥٩٣ ابن قاضي شهبة ١/ ٨٩ طبقات الشيرازي ٨٩ ووفيات الأعيان ١/ ٤٩، تاريخ بغداد ٤/ ٢٨٧، الشذرات ٢/ ٢٤٧، النجوم الزاهرة ٣/ ١٩٤.
1 / 12
واعلم أن ظَاهِرِ المذهب اعْتِبَارُ أدَاءِ الفرض دون المعنى الثاني حتى لا تَسْقُطُ طَهورِيَّةُ المستعمل في المرة الثانية وأخواتها، وتسقط في مسألة الذمية، والوجهان في الذِّمِيِّةِ مخصوصان بقولنا: إن الذمية إذا أسلمت يجب عليها إعادة ذلك الغُسْلِ، وهو الصحيح. أما إذا قلنا: لا تجب الإعادة عليها فهو مستعمل على المعنيين، لأنه قد ارتفع به المنع من الوَطءِ وأفاد جَوَازَ العِبَادَةِ به لو ارتفع مانع الكفر.
وقوله: في الأصل "لتأدي العبادة به وانتقال المنع" كذلك يوجد في بعض النسخ؟ بل في أكثرها؛ وفي بعض النُّسَخِ المُحْدَثَةِ "أو انتقال المنع إليه"، وشغف به جماعة من مُحَصِّلِي هذا الكتاب لما ذكرنا أن العِلَّةَ غير مركبة من المعنيين، وإنما اختلفوا في أن العلة ماذا، ولا شك أن ما شرحناه من كلام الأصحاب واختلافهم يقتضي ذلك، ولكن الواو وأو قد يستعمل أحدهما في موضع الآخر، فالواقف على حظ المعنى قد ينزل الواو على أو، ولا يغير صورة الكتاب، ونظيره يكثر في المذهب، ثم الحدث ليس شيئًا محققًا يفرض انتقاله من البَدَنِ إلى الماء، لكن [المعنى أن باستعمال الماء] (١) يرتفع منع كان بالبدن، وهو أنه كان ممنوعًا من الصلاة وغيرها، ويحدث منع في الماء لم يكن، وهو أنه لا يستعمل مرة أخرى فَعَبَّرَ عن ارتفاع منع وحدوث منع بالانتقال تَوَسُّعًا.
وينبغي أن تعلم أن انتقال المنع الذي ذكره هو الذي عبر عنه غيره من الأصحاب بأداء الفرض، لأن رفع الحدث فرض، ولا نعني بالفرض في مثل هذا ما يلحق الإِثْم بتركه بل ما لا بد منه، وكذلك نحكم باستعمال ما توضأ به الصبي إلا على وجه لا يعبأ به، وباستعمال ما توضأ به البَالِغُ لصلاة النفل: وعبارة أداء الفرض أوضح وأولى.
قال الغزالي: فُرُوعٌ ثَلاثة: الأوَّلُ- المَاءُ المُسْتَعْمَلُ فِي الحَدَثِ لاَ يسْتَعْمَلُ فِي الخَبَثِ عَلَى أَحْسَنِ الوَجْهَينِ. الثَّانِي- إِذَا جُمِعَ المَاءُ المُسْتَعْمَلُ حَتَّى بَلَغَ قُلَّتَينِ (٢) عَادَ طَهُورًا عَلَى أَقْيَسِ الوَجْهَينِ كَالمَاءِ النَّجِسِ. الثَّالِثُ- إِذَا انْغَمَسَ الجُنُبُ فِي مَاء قَلِيل نَاوِيًا وَخَرَجَ ارْتَفَعَتْ (و) جَنَابَتُهُ وَصارَ المَاءُ مُسْتَعْمَلًا بَعْدَ الخُرُوجِ وَالاِنْفِصَالِ.
قال الرافعي: اعلم أنه يتفرع على القول الجديد مسائل:
إحداها: المستعمل في الحدث هل يستعمل في الخبث؟ فيه وجهان:
_________
(١) بدل ما بين القوسين في ب: بالاستعمال.
(٢) والقلتان بالأرطال: خمسمائة رطل بغدادية، وقيل ستمائة، وقيل: ألف، والصحيح خمسمائة، والقلتان تساوي ١٩٠ كيلو جرام، وهي تقريبية لا تحديدية.
1 / 13
قال الأَنْمَاطِيُّ (١)، وابن خيران (٢): نعم، لأن للماء قُوَّتَيْنِ، ولم يستوف إلا إحداهما. وقال الأكثرون وهو الأصح: لا، كما أن المستعمل في الحدث الأصغر لا يستعمل في الأكبر، وبالعكس. ولا يقال: الماء له قوتان ولم يستوف إلا إحداهما، ويجري الوجهان في المستعمل في الخبث هل يستعمل في الحدث إذا فرعنا على أن المستعمل في الخبث طاهر غير طهور وهو المذهب على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى- ولك أن تقول: إذا كان المستعمل في الخبث بحيث لا نحكم بنجاسته كان باقيًا على أوصاف خِلْقَتِهِ وهو غير طهور على الظاهر، فيكون مستثنى مع المستعمل في الحدث عن الماء الباقي على أوصاف الخلقة فكيف ساغ للإمام ﵁ أن يقول: "ولا يستثنى عنه إلا الماء المستعمل في الحدث".
المَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذا جمع الماء المستعمل حتى بلغ قُلَّتَيْنِ، هل يعود طهورًا وجهان أحدهما يعود لأنه لو لم (٣) يعد إلى الطهورية لقَبِلَ النجاسة، وقد، قال ﷺ: "إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لمْ يَحْمِلْ خَبُثًا" (٤)، ولأن الماء النجس المتفرق إذا جمع ولا تغير يعود
_________
(١) أبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار، بفتح الباء وتشديد الشين المعجمة، الأنماطي كذا نسبه الشيخ أبو إسحاق. وقال المطوعي في كتابه: (المذهب في ذكر أئمة المذهب). اسمه عبد الله ابن أحمد بن بشار، قال ابن الصلاح: وقد وقع للعقادي هنا خبط سببه اشتباه هذا بشخص من رواة الحديث، يقال له أيضًا الأنماطي، فليعلم ذلك. والأنماطي: منسوب إلى الأنماط، وهي البسط التي تفرش، أخذ الفقه عن المزني والربيع وأخذ عنه ابن سريج، قال الشيخ أبو إسحاق: كان الأنماطي هو السبب في نشاط الناس بالأخذ بمذهب الشافعي في تلك البلاد. قال: ومات ببغداد سنة ثمان وثمانين ومائتين. زاد ابن الصلاح في (طبقاته) وابن خلكان في تاريخه أنه في شوال. انظر ترجمته في تاريخ بغداد ١١/ ٢٩٢، انظر طبقات الأسنوي ٢٦، ابن قاضي شهبة ١/ ٨٠، العبر ٢/ ٨١، الشذرات ١٩٨/ ٢، مرآة الجنان ٢١٥.
(٢) أبو علي الحسين بن صالح بن خيران البغدادي كان إمامًا جليلًا ورعًا، كان يعقب على ابن سريج في ولايته للقضاء ويقول: هذا الأمر لم يكن في أصحابنا، إنما كان في أصحاب أبي حنيفة، وطلب الوزير ابن الفرات بأمر الخليفة للقضاء، فامتنع فوكل ببابه، وختم عليه بضعة عشر يومًا حتى احتاج إلى الماء فلم يقدر عليه إلا بمناولة بعض الجيران، فبلغ الخبر إلى الوزير فأمر بالإفراج عنه وقال: ما أردنا بالشيخ أبي علي إلا خيرًا أردنا أن نعلم أن في مملكتنا رجلًا يعرض عليه قضاء القضاة شرقًا وغربًا وفعل به مثل هذا، وهو لا يقبل. توفي ﵀ يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة، سنة عشرين وثلثمائة، كذا قال العسكري والشيخ أبو إسحاق. وقال الدارقطني: توفي في حدود العشر وثلثمائة، ومال إليه الخطيب، وقال ابن الصلاح في: (طبقاته) إن الأول أقرب، وقال الذهبي: إنه أصح. انظر ترجمته في الأسنوي ٤١٧، تهذيب الأسماء واللغات ٢/ ٢٦١، طبقات الشيرازي ١١٠.
(٣) في ط: وجهان أصحهما نعم، لأنه لم.
(٤) رواه الشافعي وأحمد والأربعة والدارقطني، والبيهقي من رواية ابن عمر. وصححه الأئمة كابن =
1 / 14
طهورًا؛ فالمستعمل أَوْلَى؛ لأن النجاسة أقوى من الاستعمال، ولأنه صار إلى حالة لو كان عليها في الابتداء لم يتاثر بالاستعمال، فإذا عاد إلى تلك الحالة يسقط حكم الاستعمال.
والثاني: لا يعود طَهُورًا (١)؛ لأن قوته صارت مستوفاة بالاستعمال فالتحق بِمَاءِ الوَرْدِ وسائر المائعات.
الثالثة: إذا انغمس الجُنُبُ في ماء قليل ونوى، نُظِر إن نوى بعد تمام انغماسه فيه واتصال الماء بجميع البَدَنِ، فلا خلاف في أنه يرتفع حَدَثُهُ ويصير الماء مستعملًا، أما ارتفاع الحدث فلوصول الماء الطهور إلى محل الحدث مع النِيَّةِ (٢)، وأما الاستعمال فلأداء العبادة المفروضة به: وهل يحكم باستعماله في حق غيره قبل انفصاله عنه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا، وإنما يثبت حكم الاستعمال بعد الانفصال، ألا ترى أن الماء ما دام متردِّدًا على أعضاء المتطهر لا يحكم باستعماله.
والثاني: وهو الأصح: نعم، وإنما لا يحكم بالاستعمال ما دام الماء مُتَرَدِّدًا جَارِيًا للحاجة إلى انغسال الباقي ولا ضرورة في حق غيره والماء منفصل عنه. فعلى هذا ليس لغيره أن يرفع به الحدث، وعلى الأول يجوز، ولو خاض جُنُبَانِ فيه وَنَويَا معًا بعد تمام الانغماس ارتفع حَدَثُهُمَا على الوَجْهَيْنِ، وإن نوى الجنب قبل تمام الانغماس، إما في أول المُلاَقَاةِ أو بعد غَمْسِ بعض البدن ففيه وجهان:
قال أبو عبد الله الخضريُّ: لا ترتفع الجَنَابَةُ إلا عن أول الجزء المُلاَقِي مع النية،
_________
= خزيمة، وابن حبان، وابن منده، والطحاوي والحاكم. وزاد أنه على شرط الشيخين، يعني البخاري ومسلمًا والبيهقي والخطابي وفي رواية أبي داود وغيره. (إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس) قال يحيى بن معين: إسنادهما جيد. والحاكم صحيح، والبيهقي موصول، والزكي لا غبار عليه. وانظر نصب الراية ١/ ١٤، وما بعده، والتلخيص ١/ ١٦ وما بعده.
(١) ولو جمع المستعمل فبلغ قلتين، عاد طهورًا في الأصح، كما لو انغمس جنب في قلتين، فإنه طهور بلا خلاف، وقال ابن أبي زهر: لم يذكر الرافعي هذه المسألة، وفي "المهمات" أن الشيخ أبا محمد حكى في "التبصرة" فيها وجهان فقال: لو انغمس في قلتين ولا نجاسة في الماء ولا ببدنه في صحة الغسل خلاف وحكاهما صاحب الشامل ونقله في شرح المهذب ثم نازعه من اقتضاء كلام الشيخ ذلك ولا شك أنهما مخصوصان بالقلتين وإلا لتناول النهر والبحر ولا قائل به، ووجه الخلاف نقصانهما لما يقر على البدن عند من يقول بالتحديد فافهمه (تعليقة الفوائد).
(٢) رجع الخضري عن ذلك كما قال النووي في شرح المهذب وجزم الشيخ أبو محمد الجويني في الفروق بمثل ما قاله الخضري. ينظر شرح المهذب ١/ ١٦٥.
1 / 15
لأن الماء يصير مستعملًا بملاقاته فلا ترتفع الجنابة عن الباقي (١) بخلاف ما إذا كان الماء واردًا على البدن، حيث لا يحكم باستعماله بأول الملاقاة لاختصاصه بِقُوَّةِ الوُرُودِ، والأصح: أنه ترتفع الجَنَابَةُ، ولا يصير الماء مستعملًا بأول الملاقاة، لأنا إنما لم نحكم بالاستعمال عند ورود الماء على البدن للحاجة إلى رفع الحدث، وعسر إفراد كل موضع بماء جديد، وهذا المعنى موجود سواء كان الماء واردًا، أو كان هو واردًا على الماء (٢) وإذا عرفت ذلك نشأ لك البحث والنظر في أمور من ألفاظ الكتاب في الفَرْعِ الثالث.
أحدها: أن مراده ما إذا نوى بعد تمام الانغماس، أو فيما إذا نوى قبله أو كلتا الحالتين؟ أما اللفظ فهو (٣) شامل لهما والتنزيل عليهما صحيح لما ذكرنا بأنه لا خلاف في ارتفاع الحدث (٤) في الحالة الأولى، وأن الصحيح في الحالة الثانية أيضًا الارتفاع لكنه ما أراد الحالة الأولى وحدها؟ لأن قوله: "ارتفعت جَنَابَتُهُ" مُعْلَمٌ بالواو، ولا خلاف في ارتفاع الجنابة في تلك الحالة.
بَقِيَ احتمالان إرادة الحالة الثانية وحدها وعلامة الواو إشارة إلى وجه الخضري (٥)
_________
(١) قال النووي: ولو انغمس جنبان ونوى أحدهما قبل صاحبه ارتفعت جنابة الناوي وصار مستعملًا بالنسبة إلى الآخر على الصحيح، ولو نويا معًا بعد غمس جزء منهما ارتفع عن جزءيهما، وصار مستعملًا بالنسبة إلى باقيهما على الصحيح. والله أعلم. الروضة ١/ ١١٧ بتحقيقنا.
(٢) قال النووي: وإذا جرى الماء من عضو المتوضئ إلى عضو صار مستعملًا حتى لو انتقل من إحدى اليدين إلى الأخرى صار مستعملًا، وفي هذه الصورة وجه شاذ محكى في باب التيمم. عن (البيان) أنه لا يصير، لأن اليدين كعضو. ولو انفصل من بعض أعضاء الجنب إلى بعضها فوجهان، الأصح عند صاحبي (الحاوي) و(البحر): لا يصير. والراجح عند الخراساني يصير، وبه قطع جماعة منهم. وقال إمام الحرمين: إن نقله قصدًا صار، وإلا فلا. ولو غمس المتوضئ يده في الإناء قبل الفراغ من غسل الوجه لم يصر مستعملًا، وإن غمسها بعد فراغه من الوجه بنية رفع الحدث صار مستعملًا. وإن نوى الاغتراف لم يصر، وإن لم ينو شيئًا فالصحيح أنه يصير، وقطع البغوي بأنه لا يصير. والجنب بعد النية كمحدث بعد غسل الوجه. وأما الماء الذي يتوضأ به الحنفي وغيره ممن لا يعتقد وجوب نية الوضوء فالأصح أنه يصير. والثاني: لا يصير. والثالث: إن نوى صار، وإلا فلا، ولو غسل رأسه بدل مسحه فالأصح أنه مستعمل كما لو استعمل في طهارته أكثر من قدر حاجته. والله أعلم. الروضة ١/ ١١٧.
(٣) في ب: فإنه.
(٤) في ط: الجنابة.
(٥) أبو عبد الله محمد بن أحمد الخضري المروزي. كان هو وأبو زيد شيخي عصريهما بمرو، وكثيرًا ما يقول القفال: سألت أبا زيد والخضري وممن نقل عنه القاضي الحسين في باب استقبال القبلة في الكلام على تقليد الصبي. توفي ﵀ في عشر الثمانين وثلثمائة. قال ابن خلكان قال والخضري: نسبة إلى بعض أجداده. انظر ترجمته في طبقات الأسنوي ٤٢١، وطبقات الفقهاء للعبادي ٩٦، ابن قاضي شهبة ١/ ٤٦، الأنساب ٥/ ١٥٢، ووفيات الأعيان ٣/ ٣٥١، تهذيب الأسماء واللغات (٢/ ٢٧٦).
1 / 16
واحتمال إرادتهما جميعًا ويصح الإعلام بالواو أيضًا؛ لأن الصائر إلى النفي في إحدى الصورتين يخالف المثبت في الصورتين، والاحتمال الثاني أقرب إلى إطلاق اللفظ، والأول قضية إيراده في الوَسِيطِ.
الثاني: أنه لم قيد صورة الفرع بالخروج فقال: "إذا انْغَمَسَ الجُنُبُ في ماء قليل وخرج" اعلم أن ارتفاع الجنابة لا يحتاج إلى هذا القيد، بل سواء خرج أو لم يخرج ترتفع الجنابة. وأما صَيْرورَةُ الماء مستعملًا في كلام الأصحاب ما يقتضي توقف الحكم بالاستعمال على خروجه منه، وهو مشكل؛ لأن المقتضى للاستعمال أنه رفع الحدث فإذا ارتفع الحدث وجب أن يصير هو مستعملًا، سواء انْفَصَلَ عن البدن أم لا، هذا بالإضافة إليه، وأما بالإضافة إلى غيره ففيه ما حكينا من الوجهين.
وإذا عرفت ذلك فقد رتب على الانغماس والخروج شيئين: ارتفاع الجنابة، وَصَيْرُورَةُ الماء مستعملًا والأول مُسْتَغْنٍ عن شرط الخروج.
والثاني: بتقدير أن يكون محتاجًا إليه، ففي قوله: "بعد الخروج والانفصال" ما يفيد التعرض لهذا الشرط فإذًا قوله "وخرج" ضائع.
الثالث: لم جمع بين لفظي الخروج والانفصال، ظني أن هذا مما يجري به القَلَمُ لا عن قصد، أو مما يقصد به البَسْطُ في العبارة أيضًا، وعلى التقديرين فلا يطلب لكل لفظة فائدة تخصها وإن زعم (١) زعم أنه إذا لم يبق في الماء إلا عضو واحد من المنغمس يُسَمَّى خَارِجًا من الماء ولا يسمى منفصلًا، وحكم الاستعمال إنما يثبت بعد الانفصال.
قلت له: هَبْ أنه كذلك لكن هذا وجه الحاجة إلى تعقيب الخروج بالانفصال، فما الجواب عن قول القائل: لم جمع بينهما وَهَلاَّ اقتصر على الانفصال.
قال الغزالي: الْقِسْمُ الثَّاني: مَا تَغَيَّر عَنْ وَصْفِ خِلْقَتِهِ تَغَيُّرًا يَسِيرًا لاَ يُزَايِلُهُ اسْمُ المَاءِ المُطْلَقِ فَهُوَ طَهُورٌ كالمُتَغَيِّر (و) بِيَسِير الزَّعْفَرَان، وَكَذَا المُتَغَيِّرُ بِمَا يُجَاوِرُهُ (و) كالعُودِ وَالكَافِورِ الصُّلْبِ، وَكَذَا المُتَغَيِّرُ بِمَا لاَ يُمْكِنُ صَوْنُ المَاءِ عَنْهُ كَالمُتَغَيِّرِ بِالطِّينِ وَالطُّحْلُب (٢) وَكالمُتَغَيِّرِ بِطُولِ المُكْثِ وَالتُّرَابِ وَالزِّرْنيخِ (٣) وَالنُّورَةِ (٤) فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ لاَ
_________
(١) قال الواحدي ﵀: الزُعم والزعم لغتان وأكثر ما يستعمل بمعنى القول فيما لا يتحقق، قال ابن المظفر أهل العربية يقولون زعم فلان إذا شك فيه، ولم يدر لعله كذب أو باطل (الأسماء واللغات ١/ ١٣٤) (زعم).
(٢) (الطحلُب) بضم اللام وفتحها تخفيف شيء أخضر لزج يخلق في الماء ويعلوه. المصباح المنير ٢/ ٥٠٥.
(٣) فارسي معرب، وهو عنصر شبيه بالفلزات له بريق الصلب ولونه ومركباته سامة يستخدم في الطب وفي قتل الحشرات. انظر المعجم الوسيط ١/ ٣٩٤، والمصباح المنير ١/ ٣٤٢.
(٤) والنورة بضم النون حجر الكلس ثم غليت على أخلاط تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره، وتستعمل لإزالة الشعر (الشبة) انظر المصباح المنير ١/ ٨٦٦.
1 / 17
يُسْلَبُ اسْمَ المَاءِ المُطْلَقِ (١) وَكَذا المُسَخَّنُ وَالمُشَمَّسُ، وَفِي المُشَمَّسِ كَرَاهِيَةٌ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ إِذَا شُمِّسَ في البِلاَدِ المُفْرِطَةِ الحَرَارَةِ في الأوَاني المُنْطَبِعَةِ.
قال الرافعي: ذكرنا أن المتغير عن أوصاف الخلقة قسمان:
أحدهما: المتغير الذي لا يُسْلَبُ اسم الماء المطلق عنه. والثاني: ما يسلب.
أما القسم الأول فقد أدرج فيه أنواعًا منها: أن يكون التغير يسيرًا، وإن كان المُغَيِّرُ خَلِيطًا مستغنىً عنه كـ"الزَّعْفَرانِ" وَ"الدَّقِيقِ"، ونحوهما، فظاهر المذهب أنه لا يقدح في الطهورية، لأنه لا يبطل اسم الماء المطلق. وفيه وجه: أنه يقدح كالمتغير بالنجاسة يسلب الطهارة، سواء كان يسيرًا أو فاحشًا.
ومنها: أن يتغير بشيء يجاور الماء ولا يخالطه كالعود ونحوه. وهل يؤثر في سَلْبِ الطّهُورِيَّةِ، فيه قولان؟ أصحهما: وهو الذي ذكره في الكتاب أنه لا يؤثر؛ لأن هذا النوع من التغير تروح لا يسلب إطلاق اسم الماء كتغير الماء بِجِيْفَةٍ مُلْقَاةٍ عَلَى شَطِّ نَهْرِ.
والثاني: نعم لأنه تغير بما يلاقي الماء فأشبه التغير بما يخالط: وفي مَعْنَى العُودِ الدُّهْنُ، وَالشَّمْعُ، وما لا يختلط بالماء. وَالكَافُورُ نوعان:
أحدهما: يذوب [في الماء] (٢) ويختلط به.
والثاني: لا يَنْمَاعُ فيه، فالأول: كَالدَّقِيْقِ وَالزَّعْفَرانِ.
والثاني: كالعود فلذلك قيد الكافور بالصلابة. ومنها: أن يتغير بما لا يمكن صون الماء عنه، كالمتغير بالطِّيْنِ، وَالطُّحْلُبِ والكِبْرِيتِ، وَالنورَةِ، في مقرّ الماء ومهره، فهذا التغير لا يسلب الطهورية لوجهين:
أحدهما: أن أهل اللسان والعرف لا يمتنعون من إيقاع اسم الماء المطلق عليه.
والثاني: عسر الاحتراز عنه، ومن هذا القبيل المتغير بالتراب الذي يثور وَيَنْبَثُّ في الماء ويختلط به والمتغير بِالزَّرْنيخِ.
_________
(١) قال النووي: ولا كراهة في استعمال شيء من هذه المتغيرات بما لا يصان عنه، ولا في ماء البحر، وماء زمزم، ولا في المسخن ولو بالنجاسة. ويكره شديد الحرارة والبرودة. والله أعلم. الروضة ١/ ١١٩.
(٢) في ب: فيه.
1 / 18
ومنها: المتغير بطول المكث، وهو على طهوريته، لما روى أنه ﷺ "تَوَضَّأ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَة، وَكَانَ مَاؤُهَا كَنُقَاعَةِ الحِنَّاءِ" (١)، وذلك التغير لا يمكن أن يكون بالنَّجَاسَةِ وإلا لما توضأ به، فبعد ذلك لا يخلو إما أن يكون بنفسه أو بشيء طاهر آخر، إن كان بنفسه صح المدعي وإن كان بغيره فكذلك، لأن تغيره بنفسه أهون من تغيره بغيره، فإذا لم يقدح الثاني فأولى أن لا يقدح الأول.
ومنها: المسخن، فهو على طهوريته لبقاء إطلاق الاسم؛ ولأنهم تطهروا بين يدي رسول الله ﷺ بالماء المُسَخَّنِ ولم ينكر عليهم (٢).
ومنها: المشمش، وهو على طهوريته كالمسخن، وهل في استعماله كراهية أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا، وبه قال مالك وأبو حنيفة، وأحمد (٣) ﵏، كماء
_________
(١) قال ابن الملقن في خلاصة البدر ١/ ٧ غريب، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص ١/ ١٣ وهذا الوصف لهذه البئر لم أجد له أصلًا.
(٢) هذا الخبر قال المحب الطبري: لم أره في غير الرافعي انتهى، وقد وقع ذلك لبعض الصحابة فيما رواه الطبراني في "الكبير" والحسن بن سفيان في "مسنده"، وأبو نُعَيْم في المعرفة، والبيهقي من طريق الأسلع بن شريك. قال: كنت أرحل ناقة رسول الله ﷺ فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول الله ﷺ الرحلة فكرهت أن أرحل ناقته وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض فأمرت رجلًا من الأنصار برحلها، ووضعت أحجارًا فأسخنت بها ماء فاغتسلت، ثم لحقت برسول الله ﷺ فذكرت ذلك له، فأنزل الله ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ -إلى- ﴿غَفُورًا﴾ والهيثم بن زريق الراوي له عن أبيه عن الأسلع هو وأبوه مجهولان، والعلاء بن الفضل المنقري راويه عن الهيثم فيه ضعف، وقد قيل: إنه تفرد به، وقد روى عن جماعة من الصحابة فعل ذلك، فمن ذلك عن عمر رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفة عن الدراوردي عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر كانت له قمقمة يسخن فيها الماء، ورواه عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر كان يغتسل بالحميم، وعلقه البخاري، ورواه الدارقطني وصححه، وعن ابن عمر، روى عبد الرزاق أيضًا عن معمر، عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان يتوضأ بالماء الحميم، وعن ابن عباس، رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه، عن محمد بن بشر عن محمد بن عمرو ثنا أبو سلمة قال: قال ابن عباس: إنا نتوضأ بالحميم، وقد أغلى على النار، وروى عبد الرزاق بسند صحيح عنه، قال: لا بأس أن يغتسل بالحميم، ويتوضأ منه، وروى ابن أبي شيبة وأبو عبيد عن سلمة ابن الأكوع، أنه كان يسخن الماء يتوضأ به، وإسناده صحيح. انظر التلخيص ١/ ٢١، ٢٢.
(٣) أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني أبو عبد الله المروزي، أحد أئمة الإسلام، والهداة الأعلام، وأحد الأربعة الذين تدور عليهم الفتاوى والأحكام في بيان الحلال والحرام، وقد أفرد ترجمته بالتصنيف عبد الرحمن بن أبي حاتم، والبيهقي، وابن الجوزي. توفي عليه =
1 / 19
الحِيَاضِ وَالسَّوَاقِي إذا تأثرت بالشَّمِسِ؛ وكما أن التسخين لا يؤثر في الكراهية.
والثاني: وهو الأصح: نعم، لما روي عن عائشة ﵂ أنَّ النَّبي ﷺ "نَهَاهَا عَنُ اَلتَّشمِيسِ وَقَالَ: إِنَّه يُورِثُ البَرَصَ" (١).
وعن ابن عباس ﵄ أن النبي ﷺ قال: "مَنِ اغتَسَلَ بِمَاءٍ مُشَمَّسٍ فَأَصَابَهُ وَضَحٌ فَلاَ يَلُومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ" (٢).
وَكَرِهَ عمرُ ﵁ المُشَمَّسَ وَقَالَ: "إِنَّه يُورِثُ الْبَرَصَ" (٣).
_________
= سحائب الرحمة في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين ومائتين. وحضر جنازته ثلاثمائة ألف، وقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف، وقيل: أكثر. انظر ابن قاضي شهبة ١/ ٥٦، حلية الأولياء ٩/ ١٦١، تاريخ بغداد ٤/ ٤١٢، البداية والنهاية ١٠/ ٣٢٥، تذكرة الحفاظ ٢/ ٤٣١، تهذيب التهذيب ١/ ٧٢.
(١) أخرجه الدارقطني وابن عدي في الكامل، وأبو نعيم في الطب، والبيهقي من طريق خالد بن إسماعيل عن هشام بن عروة عن أبيه عنها، دخل على رسول الله ﷺ وقد سخنت ماء في الشمس فقال: (لا تفعلي يا حميراء، فإنه يورث البرص)، وخالد قال ابن عدي: كان يضع الحديث، وتابعه وهب بن وهب أبو البختري عن هشام قال: ووهب أشر من خالد، وتابعهما الهيثم بن عدي عن هشام رواه الدارقطني، والهيثم كذبه يحيى بن معين، وتابعهم محمد بن مروان السدي، وهو متروك، أخرجه الطبراني في الأوسط من طريقه، وقال: لم يروه عن هشام إلا محمد بن مروان كذا قال فوهم، ورواه الدارقطني في غرائب مالك من طريق ابن وهب عن مالك عن هشام وقال: هذا باطل عن ابن وهب، وعن مالك أيضًا، ومن دون ابن وهب ضعفاء، واشتد إنكار البيهقي على الشيخ أبي محمد الجويني في عزوه هذا الحديث لرواية مالك، والعجب من ابن الصباغ كيف أورده في الشامل جازمًا به فقال: روى مالك عن هشام وهذا القدر هو الذي أنكره البيهقي على الشيخ أبي محمد، ورواه الدارقطني من طريق عمرو ابن محمد الأعسم عن فليح عن الزهري عن عائشة قالت: نهى رسول الله ﷺ أن نتوضأ بالماء المشمس، أو نغتسل به وقال: (إنه يورث البرص). قال الدارقطني: عمرو بن محمد منكر الحديث، ولا يصح عن الزهري وقال ابن حبان: كان يضع الحديث. انظر التلخيص ١/ ٢٠، ٢١.
(٢) قال ابن الملقن: غريب جدًا. وليس في الكتب المشهورة، وهو في مشيخة قاضي المرستان بسند منقطع واهٍ. قال الحافظ أبو جعفر العقيلي: لا يصح في الماء المشمس حديث مسند إنما يروى فيه شيء عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- قلت: أثر عمر هذا رواه الشافعي في الأم عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صدقة بن عبد الله عن أبي الزبير عن جابر عن عمر، وإبراهيم هذا ضعفه الجسم الفقير، ووثقه الشافعي وابن جريج وحمدان بن محمد الأصفهاني، وابن عقدة الحافظ، وقال ابن عدي: لم أجد له حديثًا منكرًا. انظر خلاصة البدر المنير ١/ ٩.
(٣) انظر التخريج السابق.
1 / 20
فإن قلنا: بالكراهية، ففي محلها اختلاف منشؤه إشارة النقل بعد النهي إلى سببه وهو خوف الوضح (١). فقال قائلون من أصحابنا: إنما يكره إذا خيف منه هذا المحذور، وإنما يخاف عند اجتماع شرطين:
أحدهما: أن يجري التشميس في الأواني المنطبعة، كَالحَدِيدِ، وَالرُّصَاصِ، وَالنَّحَاسِ، لأن الشمس إذا أثّرت فيهما استخرجت منها زُهُومَةٌ تعلو الماء ومنها يتولد المَحْذُورُ.
والثاني: أن يتفق في البلاد المفرطة الحرارة دون الباردة، والمعتدلة، فإن تأثير الشمس فيها ضعيف (٢). ولا فرق عند القائلين بهذه الطريقة بين أن يقع ذلك قصدًا أو اتفاقًا؛ فإن المحذور لا يختلف، وأيّدوا طريقتهم بالمشمس في الحِيَاضِ، وَالبِرَكِ، فإنه غير مكروه بالاتفاق، وإنما كان ذلك؛ لأنه لا يخلف منه مكروه.
وقال آخرون: لا تتوقف الكراهية على خوف المحذور لإطلاق النهي، والتعرض للمحذور إشارة إلى حكمته، فلا [يشترط حصولها في كل صورة، وهؤلاء طردوا الكراهية في الأواني المُنْطَبِعَةِ] (٣) وغيرها، كَالخَزَفِيَّةِ، وفي البلاد الحَارَّةِ وغيرها، واعتذروا عَن مَاءِ الحِيَاضِ، وَالبِرَكِ بتعذر الاحتراز.
والطريقة الأولى أقرب إلى كلام الشافعي ﵁ فإنه قال: "ولا أكره المشمس إلا من جهة الطب" [أي: إنما كرهه شرعًا حيث يقتضي الطب] (٤) محذورًا فيه، واستثنى بعضهم من المنطبعات الذهب والفضة، لصفاء جوهرها، ويعد انفصال محذور عنهما. وإذا عرفت ذلك نعد إلى ألفاظ الكتاب.
واعلم أن قوله: "ما تغير عن وصف خلقته تغيرًا يسيرًا لا يزايله اسم الماء المطلق" [ليس] (٥) المراد من اليسير سوى أنه بحيث لا يزايله اسم الماء المطلق وتعقيبه به مذكور تفسيرًا لليسير وإن لم يكن كذلك، وجزينا على ظاهر اللفظ لزم اشتراط كون التغير يسيرًا لبقاء الطهُورِيَّةِ في جميع المسائل المعدودة وليس كذلك، بل التغير بطول
_________
(١) وضح يضح من باب وعد، وضوحًا انكشف وانجلى واتَّضح كذلك وهو محدى بالألف والوضح بفتحتين هو البياض والوضوء والدرن المصباح المنير (٢/ ٩١٣).
(٢) قال النووي: الراجح من حيث الدليل أنه لا يكره مطلقًا، وهو مذهب أكثر العلماء، وليس للكراهة دليل يعتمد، وإذا قلنا بالكراهة فهي كراهة تنزيه لا تمنع صحة الطهارة، وتختص باستعماله في البدن، وتزول بتبريده على أصح الأوجه، وفي الثالث: يراجع الأطباء، والله أعلم. الروضة ١/ ١٢٠.
(٣) و(٤) سقط في ط.
(٥) سقط في ب.
1 / 21
المُكْثِ، وما لا يمكن صون الماء عنه، وبالمجاور لا يفترق حكمه بين اليسير والفاحش وقوله: "وكذا المتغير بطول المُكْثِ، والتراث، والزَّرْنيخِ"، عطفه على المتغير بالطين والطُّحْلُبِ، وأحسن منه على المتغير بما يجاوره والمتغير بما لا يمكن صون الماء عنه ليكون تعذر الصون نوعًا يدخل تحته المتغير بطول المكث، وما لا يخلو الماء عنه في المقر والممر، فمنه الطين، والطحلب، ومنه التراب الذي يثور وينتثر فيه.
وأما الماء الذي يطرح فيه قصدًا فقد ذكره من بعد. والاختلافات التي ذكرناها في المشمس تقتضي أن يكون لفظ الكراهية في قوله: "وفي المُشَمَّسِ كراهية" معلَّمًا بالواو والحاء والميم والألف وهو علامة أحمد ﵁ وأن يكون قوله "من جهة الطب" معلَّمًا بالواو إشارة إلى خلاف من اتبع ظاهر النهي، ولم تقف الكراهية على موضع خوف الوضع، ولا بأس أن يعلم قوله في الأواني المنطبعة بذلك أيضًا إشارة إلى استثناء من استثنى التِّبْرَيْنِ (١).
قال الغزالي: القِسْمُ الثَّالِثُ: مَا تَفَاحَشَ تَغَيُّرُهُ بِمُخَالَطَةِ مَا يَسْتَغنِي المَاءُ عَنْهُ حَتَّى زَايَلَهُ اسْمُ المَاءِ المُطْلَقِ فَلَيْسَ بِطَهُورٍ (ح) وَإِنْ لَم يَستَجِدَّ اسْمًا آخَرَ كالمُتَغَيِّرِ بِالصَّابُونِ وَالزَّعفَرَانِ الكَثِيرِ (ح) وَأجْنَاسِهِمَا.
قال الرافعي: إذا بلغ تغير الماء حَدًّا يَنْسَلِبُ به اسم الماء المطلق عنه خرج عن كونه طهورًا، ولا فرق بين أن يقع اسم الماء عليه مضافًا إلى الخليط المُغَيِّرِ كَمَاءِ الزَّغفَرانِ، والدقيق، أو لا يقع ويحدث له اسم آخر كَالصَّبغِ وَالمَرَقِ وَالحِبْرِ خلافًا لأبي حنيفة ﵁ في الحالة الأولى. لنا وجهان:
أحدهما: القياس على مَاءِ البَاقِلاَّءِ ونحوه.
والثاني: أن النصوص الواردة في طهورية الماء متعرضة لاسم الماء عريًا عن القيود والإضافات والكلام فيما انسلب عنه اسم الماء عريًا عن القيود، والإضافات فلا يلحق بمورد النص لظهور الفرق في خاصية الرقة وغيرها. فإن قيل: النصوص متناولهّ للماء، وماء الزعفران ماء. قلنا: لا نسلمه، بل الماء المضاف على ضربين: منه ما يصح إطلاق اسم الماء عليه كماء البحر، وماء الكُوزِ.
ومنه ما لا يصح كَمَاءِ الوَرْدِ وماء الباقلاء فلم قلتم بان ماء الزعفران من قبيل الأول لا من قبيل الثاني؟ بل هو من الثاني فإن التغير الفاحش يصحح قول القائل: هذا ليس بماء وإنما هو ماء الزعفران؛ ولهذا لو حلف أن لا يشرب ماء فشرب ماء الزعفران
_________
(١) قال ابن فارس: التبر ما كان من الذهب والفضة غير مصوغ، وقال الزجاج: كل جوهر قبل استعماله كالنحاس والحديد وغيرهما. المصباح المنير ١/ ٩٩.
1 / 22
لا يحنث وكان اسم الماء عريًا عن القيود والإضافات غير موضوع للحقيقة المشتركة بين الماء وماء الزعفران، بل كما لا يتفاحش تغير صفاته الأصلية والله أعلم.
وهل يعتبر تَغَيُّرُ اللَّوْنِ، وَالطَّعْمِ، وَالرَّائِحَةِ، جميعًا أم يكفي تغير واحد منها؟ ذكر الموفق بن طاهر (١) في "شرح مختصر الجُوينِيِّ" (٢) أن صاحب "جمع الجوامع" حكى فيه قولين اختار ابن سريج الثاني منهما وهو المشهور المتوجه. وحكى قولًا آخر عن رواية الربيع (٣) أن التغير في اللون وحده وفي الطعم والرائحة معًا يمنع الطّهُورِيَّة وفي أحدهما لا يمنع.
وينبغي أن يتنبه من ألفاظ الكتاب للاحتراز عن التغيرات التي لا تقدح: فقوله: "ما تفاحش تغيره" يخرج عنه التغير اليسير، وان كان بخليط مستغنى عنه. وقوله: "بمخالطة ما يستغني عنه" يخرج عنه التغير بالمجاور وبما لا يمكن صون الماء عنه.
قال الغزالي: فُرُوعٌ ثَلاَثَةٌ:
الأَوَّلُ- المُتَغَيِّرِ بِالتُّرَابِ المَطْرُوحِ فِيهِ قَصْدًا فِيهِ وَجْهَانِ: أَظْهَرُهُمَا: أَنَّهُ طَهُورٌ وَيَقْرُبُ مِنْهُ المِلْحُ إِذ طُرِحَ (و) فِي المَاءِ لأَنَّه أَجْزَاءٌ سَبِخَةٌ مِنَ الأَرْضِ بِهَا يَصِيرُ مَاءُ البَحْرِ مَالِحًا فَيُضَاهِي التُّرابَ. الثَّانِي- إِذَا تَفَتَّتَتِ الأَوْرَاقِ فِي المِيَاهِ وَخَالَطَتْهَا فَفِيهَا ثَلاَثَةُ أَوْجْهٍ يُفْرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ الخَرِيفِيِّ وَالرَّبِيعِيِّ لِتَعَذُّرِ الاحْتِرَازِ عَنِ الخَرِيفِيِّ. الثَّالِثُ- إذَ صُبَّ مَائِعٌ عَلَى مَاءٍ قَلِيلٍ وَلَمْ يُغْيّرْهُ فَإنْ كَانَ بِحَيث لَوْ خَالَفَهُ في اللَّوْنِ لِتَفَاحُشِ تَغَيُّرِهِ زَالَتِ الطُّهُورِيَّةُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ فَهُوَ طَهُورٌ، وَيجوزُ اسْتِعْمَال الكُلِّ عَلَى الأَظْهَرِ، وقِيلَ: اِذَا بَقِيَ قَدْرُ ذَلِكَ المَائِعِ لَم يَجُزِ استِعْمَالُهُ.
_________
(١) هو أبو محمد الموفق بن طاهر بن يحيى كان فقيهًا من أهل نيسابور، مات سنة أربع وتسعين وأربعمائة. انظر ترجمته ابن هداية الله ١٨٨، معجم المؤلفين ١٣/ ٥٢، وتهذيب الأسماء واللغات ٢/ ١٢٠.
(٢) أبو سهل أحمد بن محمد الزوزني، ويعرف بابن العفريس بالعين والسين المهملتين صاحب جمع الجوامع، ذكره أبو عاصم العبادي في طبقة القفال الشاشي، وأبي زيد، والخفاف ونحوهم. الأسنوي ١/ ٣٠٤ ابن السبكي ٢/ ٢٢٧، طبقات العبادي ١٩١، ابن هداية الله ٢٨.
(٣) أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي مولاهم المصري المؤذن خادم الشافعي ﵁ وراوي "الأم" وغيرها من كتبه، قال الشافعي: إنه أحفظ أصحابي رحلت الناس إليه من أقطار الأرض ليأخذوا عنه علم الشافعي ويرووا عنه كتبه. ولد سنة أربع وسبعين ومائة، وتوفي بمصر حرسها الله يوم الاثنين لعشر بقين من شوال سنة سبعين ومائتين. الأسنوي ١٨، الشيرازي ٧٩، العبادي ١٢، تهذيب التهذيب ٣/ ٢٤٥، تهذيب الأسماء واللغات ١/ ١٨٨، الشذرات ٢/ ١٥٩، وفيات الأعيان ٢/ ٢٩١.
1 / 23