بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
خطْبَة الْمُؤلف
قَالَ أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن حزم ﵁ الْحَمد لله على عَظِيم مننه وَصلى الله على مُحَمَّد عَبده وَخَاتم أنبيائه وَرُسُله وَسلم تَسْلِيمًا وَأَبْرَأ إِلَيْهِ تَعَالَى من الْحول وَالْقُوَّة وَأَسْتَعِينهُ على كل مَا يعْصم فِي الدُّنْيَا من جَمِيع المخاوف والمكاره ويخلص فِي الْأُخْرَى من كل هول ومضيق أما بعد فَإِنِّي جمعت فِي كتابي هَذَا مَعَاني كَثِيرَة أفادنيها واهب التَّمْيِيز تَعَالَى بمرور الْأَيَّام وتعاقب الْأَحْوَال بِمَا منحني ﷿ من التهمم بتصاريف الزَّمَان والإشراف على أَحْوَاله حَتَّى أنفقت فِي ذَلِك أَكثر عمري وآثرت تَقْيِيد ذَلِك بالمطالعة لَهُ والفكرة فِيهِ على جَمِيع اللَّذَّات الَّتِي تميل إِلَيْهَا أَكثر النُّفُوس وعَلى
1 / 11
الازدياد من فضول المَال وزممت كل مَا سبرت من ذَلِك بِهَذَا الْكتاب لينفع الله تَعَالَى بِهِ من يَشَاء من عباده مِمَّن يصل إِلَيْهِ بِمَا أَتعبت فِيهِ نَفسِي وأجهدتها فِيهِ وأطلت فِيهِ فكري فَيَأْخذهُ عفوا وأهديته إِلَيْهِ هَنِيئًا فَيكون ذَلِك أفضل لَهُ من كنوز المَال وَعقد الْأَمْلَاك إِذا تدبره ويسره الله تَعَالَى لاستعماله وَأَنا راج فِي ذَلِك من الله تَعَالَى أعظم الْأجر لنيتي فِي نفع عباده وَإِصْلَاح مَا فسد من أَخْلَاقهم ومداواة علل نُفُوسهم وَبِاللَّهِ أستعين
1 / 12
مداواة النُّفُوس وَإِصْلَاح الْأَخْلَاق لَذَّة الْعَاقِل بتمييزه وَلَذَّة الْعَالم بِعِلْمِهِ وَلَذَّة الْحَكِيم بِحِكْمَتِهِ وَلَذَّة الْمُجْتَهد لله ﷿ بِاجْتِهَادِهِ أعظم من لَذَّة الْآكِل بِأَكْلِهِ والشارب بشربه والواطئ بِوَطْئِهِ والكاسب بِكَسْبِهِ واللاعب بلعبه والآمر بأَمْره وبرهان ذَلِك أَن الْحَكِيم والعاقل والعالم وَالْعَامِل واجدون لسَائِر اللَّذَّات الَّتِي سمينا كَمَا يجدهَا المنهمك فِيهَا ويحسونها كَمَا يحسها الْمقبل عَلَيْهَا وَقد تركوها وأعرضوا عَنْهَا وآثروا طلب الْفَضَائِل عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يحكم فِي الشَّيْئَيْنِ من عرفهَا لَا من عرف أَحدهمَا وَلم يعرف الآخر إِذا تعقبت الْأُمُور كلهَا فَسدتْ عَلَيْك وانتهيت فِي آخر فكرتك باضمحلال جَمِيع أَحْوَال الدُّنْيَا إِلَى أَن الْحَقِيقَة إِنَّمَا هِيَ الْعَمَل للآخرة فَقَط لِأَن كل أمل ظَفرت بِهِ فعقباه حزن إِمَّا بذهابه عَنْك وَإِمَّا بذهابك عَنهُ وَلَا بُد من أحد هذَيْن الشَّيْئَيْنِ إِلَّا الْعَمَل لله ﷿ فعقباه على كل حَال سرُور فِي عَاجل وآجل أما العاجل فقلة الْهم بِمَا يهتم بِهِ النَّاس وَإنَّك بِهِ مُعظم من الصّديق
1 / 13
والعدو وَأما فِي الآجل فالجنة تطلبت غَرضا يَسْتَوِي النَّاس كلهم فِي استحسانه وَفِي طلبه فَلم أَجِدهُ إِلَّا وَاحِدًا وَهُوَ طرد الْهم فَلَمَّا تدبرته علمت أَن النَّاس كلهم لم يستووا فِي استحسانه فَقَط وَلَا فِي طلبه فَقَط وَلَكِن رَأَيْتهمْ على اخْتِلَاف أهوائهم ومطالبهم وتباين هممهم وإراداتهم لَا يتحركون حَرَكَة أصلا إِلَّا فِيمَا يرجون بِهِ طرد الْهم وَلَا ينطقون بِكَلِمَة أصلا إِلَّا فِيمَا يعانون بِهِ إزاحته عَن أنفسهم فَمن مُخطئ وَجه سَبيله وَمن مقارب للخطأ وَمن مُصِيب وَهُوَ الْأَقَل من النَّاس فِي الْأَقَل من أُمُوره فطرد الْهم مَذْهَب قد اتّفقت الْأُمَم كلهَا مذ خلق الله تَعَالَى الْعَالم إِلَى أَن يتناهى عَالم الِابْتِدَاء ويعاقبه عَالم الْحساب على أَن لَا يعتمدوا بسعيهم شَيْئا سواهُ وكل غَرَض غَيره فَفِي النَّاس من لَا يستحسنه إِذْ فِي النَّاس من لَا دين لَهُ فَلَا يعْمل للآخرة وَفِي النَّاس من أهل الشَّرّ من لَا يُرِيد الْخَيْر وَلَا الْأَمْن وَلَا الْحق وَفِي النَّاس من يُؤثر الخمول بهواه وإرادته على بعد الصيت وَفِي النَّاس من لَا يُرِيد المَال ويؤثر عَدمه على وجوده ككثير من الْأَنْبِيَاء ﵈ وَمن تلاهم من الزهاد والفلاسفة وَفِي النَّاس من يبغض اللَّذَّات بطبعه ويستنقص طالبها كمن ذكرنَا من المؤثرين فقد المَال على اقتنائه وَفِي النَّاس من يُؤثر الْجَهْل على الْعلم كأكثر من ترى من الْعَامَّة وَهَذِه هِيَ أغراض النَّاس الَّتِي لَا غَرَض لَهُم سواهَا وَلَيْسَ فِي الْعَالم مذ كَانَ إِلَى أَن يتناهى أحد يستحسن الْهم وَلَا يُرِيد طرده عَن نَفسه فَلَمَّا اسْتَقر فِي نَفسِي هَذَا الْعلم الرفيع وانكشف لي هَذَا السِّرّ العجيب وأنار الله تَعَالَى لفكري هَذَا الْكَنْز
1 / 14
الْعَظِيم بحثت عَن سَبِيل موصلة على الْحَقِيقَة إِلَى طرد الْهم الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوب للنَّفس الَّذِي اتّفق جَمِيع أَنْوَاع الْإِنْسَان الْجَاهِل مِنْهُم والعالم والصالح والطالح على السَّعْي لَهُ فَلم أَجدهَا إِلَّا التَّوَجُّه إِلَى الله ﷿ بِالْعَمَلِ للآخرة وَإِلَّا فَإِنَّمَا طلب المَال طلابه ليطردوا بِهِ هم الْفقر عَن أنفسهم وَإِنَّمَا طلب الصَّوْت من طلبه ليطرد بِهِ عَن نَفسه هم الاستعلاء عَلَيْهَا وَإِنَّمَا طلب اللَّذَّات من طلبَهَا ليطرد بهَا عَن نَفسه هم فَوتهَا وَإِنَّمَا طلب الْعلم من طلبه ليطرد بِهِ عَن نَفسه هم الْجَهْل وَإِنَّهَا هش إِلَى سَماع الْأَخْبَار ومحادثة النَّاس من يطْلب ذَلِك ليطرد بهَا عَن نَفسه هم التوحد ومغيب أَحْوَال الْعَالم عَنهُ وَإِنَّمَا أكل من أكل وَشرب من شرب ونكح من نكح وَلبس من لبس وَلعب من لعب واكتن من اكتن وَركب من ركب وَمَشى من مَشى وتودع من تودع ليطردوا عَن أنفسهم أضداد هَذِه الْأَفْعَال وَسَائِر الهموم وَفِي كل مَا ذكرنَا لمن تدبره هموم حَادِثَة لَا بُد لَهَا من عوارض تعرض فِي خلالها وَتعذر مَا يتَعَذَّر مِنْهَا وَذَهَاب مَا يُوجد مِنْهَا وَالْعجز عَنهُ لبَعض الْآفَات الكائنة وايضا نتائج سوء تنْتج بالحصول على مَا حصل عَلَيْهِ من كل ذَلِك من خوف منافس أَو طعن حَاسِد أَو إختلاس رَاغِب أَو اقتناء عَدو مَعَ الذَّم وَالْإِثْم وَغير ذَلِك وَوجدت للْعَمَل للآخرة سالما من كل عيب خَالِصا من كل كدر موصلا إِلَى طرد الْهم على الْحَقِيقَة وَوجدت الْعَامِل للآخرة إِن امتحن
1 / 15
بمكروه فِي تِلْكَ السَّبِيل لم يهتم بل يسر إِذْ رجاؤه فِي عاقبه مَا ينَال بِهِ عون لَهُ على مَا يطْلب وزايد فِي الْغَرَض الَّذِي إِيَّاه يقْصد وَوَجَدته إِن عاقه عَمَّا هُوَ بسبيله عائق لم يهتم إِذْ لَيْسَ مؤاخذا بذلك فَهُوَ غير مُؤثر فِي مَا يطْلب ورأيته إِن قصد بالأذى سر وَإِن نكبته نكبة سر وَإِن تَعب فِيمَا سلك فِيهِ سر فَهُوَ فِي سرُور مُتَّصِل أبدا وَغَيره بِخِلَاف ذَلِك أبدا فَاعْلَم أَنه مَطْلُوب وَاحِد وَهُوَ طرد الْهم وَلَيْسَ إِلَيْهِ إِلَّا طَرِيق وَاحِد وَهُوَ الْعَمَل لله تَعَالَى فَمَا عدا هَذَا فضلال وسخف لَا تبذل نَفسك إِلَّا فِيمَا هُوَ أَعلَى مِنْهَا وَلَيْسَ ذَلِك إِلَّا فِي ذَات الله ﷿ فِي دُعَاء إِلَى حق وَفِي حماية الْحَرِيم وَفِي دفع هوان لم يُوجِبهُ عَلَيْك خالقك تَعَالَى وَفِي نصر مظلوم وباذل نَفسه فِي عرض دنيا كبائع الْيَاقُوت بالحصى لَا مُرُوءَة لمن لَا دين لَهُ الْعَاقِل لَا يرى لنَفسِهِ ثمنا إِلَّا الْجنَّة لإبليس فِي ذمّ الرِّيَاء حبالة وَذَلِكَ أَنه رب مُمْتَنع من فعل خير خوف أَن يظنّ بِهِ الرِّيَاء
1 / 16
الْعقل والراحة وَهُوَ اطراح المبالاة بِكَلَام النَّاس وَاسْتِعْمَال المبالاة بِكَلَام الْخَالِق ﷿ بل هَذَا بَاب الْعقل والراحة كلهَا من قدر أَنه يسلم من طعن النَّاس وعيبهم فَهُوَ مَجْنُون من حقق النّظر وراض نَفسه على السّكُون إِلَى الْحَقَائِق وَإِن آلمتها فِي أول صدمة كَانَ اغتباطه بذم النَّاس إِيَّاه أَشد وَأكْثر من اغتباطه بمدحهم إِيَّاه لِأَن مدحهم إِيَّاه إِن كَانَ بِحَق وبلغه مدحهم لَهُ أسرى ذَلِك فِيهِ الْعجب فأفسد بذلك فضائله وَإِن كَانَ بباطل فَبَلغهُ فسره فقد صَار مَسْرُورا بِالْكَذِبِ وَهَذَا نقص شَدِيد وَأما ذمّ النَّاس إِيَّاه فَإِن كَانَ بِحَق فَبَلغهُ فَرُبمَا كَانَ ذَلِك سَببا إِلَى تجنبه مَا يعاب عَلَيْهِ وَهَذَا حَظّ عَظِيم لَا يزهد فِيهِ إِلَّا نَاقص وَإِن كَانَ بباطل وبلغه فَصَبر اكْتسب فضلا زَائِدا بالحلم وَالصَّبْر وَكَانَ مَعَ ذَلِك غانما لِأَنَّهُ يَأْخُذ حَسَنَات من ذمه بِالْبَاطِلِ فيحظى بهَا فِي دَار الْجَزَاء أحْوج مَا يكون إِلَى النجَاة بأعمال لم يتعب فِيهَا وَلَا تكلفها وَهَذَا حَظّ عَظِيم لَا يزهد فِيهِ إِلَّا مَجْنُون وَأما إِن لم يبلغهُ مدح النَّاس إِيَّاه فكلامهم
1 / 17
وسكوتهم سَوَاء وَلَيْسَ كَذَلِك ذمهم إِيَّاه لِأَنَّهُ غَانِم لِلْأجرِ على كل حَال بلغه ذمهم أَو لم يبلغهُ وَلَوْلَا قَول رَسُول الله ﷺ فِي الثَّنَاء الْحسن (ذَلِك عَاجل بشرى الْمُؤمن) لوَجَبَ أَن يرغب الْعَاقِل فِي الذَّم بِالْبَاطِلِ أَكثر من رغبته فِي الْمَدْح بِالْحَقِّ وَلَكِن إِذْ جَاءَ هَذَا القَوْل فَإِنَّمَا تكون الْبُشْرَى بِالْحَقِّ لَا بِالْبَاطِلِ فَإِنَّمَا تجب الْبُشْرَى بِمَا فِي الممدوح لَا بِنَفس الْمَدْح لَيْسَ بَين الْفَضَائِل والرذائل وَلَا بَين الطَّاعَات والمعاصي إِلَّا نفار النَّفس وأنسها فَقَط فالسعيد من أنست نَفسه بالفضائل والطاعات ونفرت من الرذائل والمعاصي والشقي من أنست نَفسه بالرذائل والمعاصي ونفرت من الْفَضَائِل والطاعات وَلَيْسَ هَا هُنَا إِلَّا صنع الله تَعَالَى وَحفظه طَالب الْآخِرَة ليفوز فِي الْآخِرَة متشبه بِالْمَلَائِكَةِ وطالب الشَّرّ متشبه بالشياطين وطالب الصَّوْت وَالْغَلَبَة متشبه بالسباع وطالب اللَّذَّات متشبه بالبهائم وطالب المَال لعين المَال لَا لينفقه فِي الْوَاجِبَات والنوافل المحمودة أسقط وأرذل من أَن يكون لَهُ فِي شَيْء من الْحَيَوَان شبه وَلكنه يشبه الغدران الَّتِي فِي الكهوف فِي الْمَوَاضِع الوعرة لَا ينْتَفع بهَا شَيْء من الْحَيَوَان فالعاقل لَا يغتبط بِصفة يفوقه فِيهَا سبع أَو بَهِيمَة أَو جماد وَإِنَّمَا يغتبط بتقدمه فِي الْفَضِيلَة الَّتِي أبانه الله تَعَالَى بهَا عَن السبَاع والبهائم والجمادات وَهِي التَّمْيِيز الَّذِي يُشَارك فِيهِ الْمَلَائِكَة فَمن سر بشجاعته الَّتِي يَضَعهَا فِي غير موضعهَا لله ﷿ فَليعلم أَن النمر أجرأ مِنْهُ وَأَن الْأسد وَالذِّئْب والفيل أَشْجَع مِنْهُ وَمن سر بِقُوَّة جِسْمه فَليعلم أَن الْبَغْل والثور والفيل أقوى مِنْهُ جسما وَمن سر بِحمْلِهِ الأثقال فَليعلم أَن الْحمار أحمل مِنْهُ وَمن سر بِسُرْعَة
1 / 18
عدوه فَليعلم أَن الْكَلْب والأرنب أسْرع عدوا مِنْهُ وَمن سر بِحسن صَوته فَليعلم أَن كثيرا من الطير أحسن صَوتا مِنْهُ وَأَن أصوات المزامير ألذ وأطرب من صَوته فَأَي فَخر وَأي سرُور فِي مَا تكون فِيهِ هَذِه الْبَهَائِم مُتَقَدّمَة عَلَيْهِ لَكِن من قوي تَمْيِيزه واتسع علمه وَحسن عمله فليغتبط بذلك فَإِنَّهُ لَا يتقدمه فِي هَذِه الْوُجُوه إِلَّا الْمَلَائِكَة وَخيَار النَّاس قَول الله تَعَالَى ﴿وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى﴾ جَامع لكل فَضِيلَة لِأَن نهي النَّفس عَن الْهوى هُوَ ردعها عَن الطَّبْع الغضبي وَعَن الطَّبْع الشهواني لِأَن كليهمَا وَاقع تَحت مُوجب الْهوى فَلم يبْق إِلَّا اسْتِعْمَال النَّفس للنطق الْمَوْضُوع فِيهَا الَّذِي بِهِ بَانَتْ عَن الْبَهَائِم والحشرات وَالسِّبَاع قَول رَسُول الله ﷺ للَّذي استوصاه (لَا تغْضب) وَأمره ﵇ أَن يحب الْمَرْء لغيره مَا يحب لنَفسِهِ جامعان لكل فَضِيلَة لِأَن فِي نَهْيه عَن الْغَضَب ردع النَّفس ذَات الْقُوَّة الغضبية عَن هَواهَا وَفِي أمره ﵇ أَن يحب الْمَرْء لغيره مَا يحب لنَفسِهِ ردع النَّفس عَن الْقُوَّة الشهوانية وَجمع لأزمة الْعدْل الَّذِي هُوَ فَائِدَة النُّطْق الْمَوْضُوع فِي النَّفس الناطقة رَأَيْت أَكثر النَّاس إِلَّا من عصم الله تَعَالَى وَقَلِيل مَا هم يتعجلون الشَّقَاء والهم والتعب لأَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا ويحتقبون عَظِيم الْإِثْم الْمُوجب للنار فِي الْآخِرَة بِمَا لَا يحظون مَعَه بنفع أصلا من نيات خبيثة
1 / 19
يضبون عَلَيْهَا من تمني الغلاء المهلك للنَّاس وللصغار وَمن لَا ذَنْب لَهُ وتمني أَشد الْبلَاء لمن يكرهونه وَقد علمُوا يَقِينا أَن تِلْكَ النيات الْفَاسِدَة لَا تعجل لَهُم شَيْئا مِمَّا يتمنونه أَو يُوجب كَونه وَأَنَّهُمْ لَو صفوا نياتهم وحسنوها لتعجلوا الرَّاحَة لأَنْفُسِهِمْ وتفرغوا بذلك لمصَالح أُمُورهم ولاقتنوا بذلك عَظِيم الْأجر فِي الْمعَاد من غير أَن يُؤَخر ذَلِك شَيْئا مِمَّا يريدونه أَو يمْنَع كَونه فَأَي غبن أعظم من هَذِه الْحَال الَّتِي نبهنا عَلَيْهَا وَأي سعد أعظم من الَّتِي دَعونَا إِلَيْهَا إِذا حققت مُدَّة الدُّنْيَا لم تجدها إِلَّا الْآن الَّذِي هُوَ فصل الزمانين فَقَط وَأما مَا مضى وَمَا لم يَأْتِ فمعدومان كَمَا لم يكن فَمن أضلّ مِمَّن يَبِيع بَاقِيا خَالِدا بِمدَّة هِيَ أقل من كرّ الطّرف إِذا نَام الْمَرْء خرج عَن الدُّنْيَا وَنسي كل سرُور وكل حزن فَلَو رتب نَفسه فِي يقظته على ذَلِك أَيْضا لسعد السَّعَادَة التَّامَّة من أَسَاءَ إِلَى أَهله وجيرانه فَهُوَ أسقطهم وَمن كافأ من أَسَاءَ إِلَيْهِ مِنْهُم فَهُوَ مثلهم وَمن لم يكافئهم بإساءتهم فَهُوَ سيدهم وَخَيرهمْ وأفضلهم
1 / 20
الْعلم لَو لم يكن من فضل الْعلم إِلَّا أَن الْجُهَّال يهابونك ويجلونك وَأَن الْعلمَاء يحبونك ويكرمونك لَكَانَ ذَلِك سَببا إِلَى وجوب طلبه فَكيف بِسَائِر فضائله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَلَو لم يكن من نقص الْجَهْل إِلَّا أَن صَاحبه يحْسد الْعلمَاء ويغبط نظراءه من الْجُهَّال لَكَانَ ذَلِك سَببا إِلَى وجوب الْفِرَار عَنهُ فَكيف بِسَائِر رذائله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة لَو لم يكن من فَائِدَة الْعلم والاشتغال بِهِ إِلَّا أَنه يقطع المشتغل بِهِ عَن الوساوس المضنية ومطارح الآمال الَّتِي لَا تفِيد غير الْهم وكفاية الأفكار المؤلمة للنَّفس لَكَانَ ذَلِك أعظم دَاع إِلَيْهِ فَكيف وَله من الْفَضَائِل مَا يطول ذكره وَمن أقلهَا مَا ذكرنَا مِمَّا يحصل عَلَيْهِ طَالب الْعلم وَفِي مثله أتعب ضعفاء الْمُلُوك أنفسهم فتشاغلوا عَمَّا ذكرنَا بالشطرنج والنرد وَالْخمر والأغاني وركض الدَّوَابّ فِي طلب الصَّيْد وَسَائِر الفضول الَّتِي تعود بالمضرة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَأما فَائِدَة فَلَا فَائِدَة لَو تدبر الْعَالم فِي مُرُور ساعاته مَاذَا كَفاهُ الْعلم من الذل بتسلط
1 / 21
الْجُهَّال وَمن الْهم بمغيب الْحَقَائِق عَنهُ وَمن الْغِبْطَة بِمَا قد بَان لَهُ وَجهه من الْأُمُور الْخفية عَن غَيره لزاد حمدا لله ﷿ وغطبة بِمَا لَدَيْهِ من الْعلم ورغبة فِي الْمَزِيد مِنْهُ من شغل نَفسه بِأَدْنَى الْعُلُوم وَترك أَعْلَاهَا وَهُوَ قَادر عَلَيْهِ كَانَ كزارع الذّرة فِي الأَرْض الَّتِي يجود فِيهَا الْبر وكغارس الشُّعَرَاء حَيْثُ يزكو النّخل وَالزَّيْتُون نشر الْعلم عِنْد من لَيْسَ من أَهله مُفسد لَهُم كإطعامك الْعَسَل والحلواء من بِهِ احتراق وَحمى أَو كتشميمك الْمسك والعنبر لمن بِهِ صداع من احتدام الصَّفْرَاء الباخل بِالْعلمِ ألأم من الباخل بِالْمَالِ لِأَن الباخل بِالْمَالِ أشْفق من فنَاء مَا بِيَدِهِ والباخل بِالْعلمِ بخل بِمَا لَا يفنى على النَّفَقَة وَلَا يُفَارِقهُ مَعَ الْبَذْل من مَال بطبعه إِلَى علم مَا وَإِن كَانَ أدنى من غَيره فَلَا يشغلها بسواه فَيكون كغارس النارجيل بالأندلس وكغارس الزَّيْتُون بِالْهِنْدِ وكل ذَلِك لَا ينجب أجل الْعُلُوم مَا قربك من خالقك تَعَالَى وَمَا أعانك على الْوُصُول إِلَى رِضَاهُ
1 / 22
أنظر فِي المَال وَالْحَال وَالصِّحَّة إِلَى من دُونك وَانْظُر فِي الدّين وَالْعلم والفضائل إِلَى من فَوْقك الْعُلُوم الغامضة كالدواء الْقوي يصلح الأجساد القوية وَيهْلك الأجساد الضعيفة وَكَذَلِكَ الْعُلُوم الغامضة تزيد الْعقل الْقوي جودة وتصفية من كل آفَة وتهلك ذَا الْعقل الضَّعِيف من الغوص على الْجُنُون مَا لَو غاصه صَاحبه على الْعقل لَكَانَ أحكم من الْحسن الْبَصْرِيّ وأفلاطون الأثيني وبزرجمهر الْفَارِسِي وقف الْعقل عِنْد أَنه لَا ينفع إِن لم يُؤَيّد بِتَوْفِيق فِي الدّين أَو بِسَعْد فِي الدُّنْيَا لَا تضر بِنَفْسِك فِي أَن تجرب بهَا الآراء الْفَاسِدَة لتري المشير بهَا فَسَادهَا فتهلك فَإِن ملامة ذِي الرَّأْي الْفَاسِد لَك على مُخَالفَته وَأَنت نَاجٍ من المكاره خير لَك من أَن يعذرك ويندم كلاكما وَأَنت قد حصلت فِي مكاره إياك وَأَن تسر غَيْرك بِمَا تسوء بِهِ نَفسك فِيمَا لم توجبه عَلَيْك شَرِيعَة أَو فَضِيلَة وقف الْعلم عِنْد الْجَهْل بِصِفَات الْبَارِي ﷿ لَا آفَة على الْعُلُوم وَأَهْلهَا أضرّ من الدخلاء فِيهَا وهم من غير أَهلهَا فَإِنَّهُم يجهلون ويظنون أَنهم يعلمُونَ ويفسدون ويقدرون أَنهم يصلحون
1 / 23
من أَرَادَ خير الْآخِرَة وَحِكْمَة الدُّنْيَا وَعدل السِّيرَة والاحتواء على محَاسِن الْأَخْلَاق كلهَا وَاسْتِحْقَاق الْفَضَائِل بأسرها فليقتد بِمُحَمد رَسُول الله ﷺ وليستعمل أخلاقه وسيره مَا أمكنه أعاننا الله على الإتساء بِهِ بمنه آمين غاظني أهل الْجَهْل مرَّتَيْنِ من عمري إِحْدَاهمَا بكلامهم فِيمَا لَا يحسنونه أَيَّام جهلي وَالثَّانيَِة بسكوتهم عَن الْكَلَام بحضرتي فهم أبدا ساكتون عَمَّا يَنْفَعهُمْ ناطقون فِيمَا يضرهم وسرني أهل الْعلم مرَّتَيْنِ من عمري إِحْدَاهمَا بتعليمي أَيَّام جهلي وَالثَّانيَِة بمذاكرتي أَيَّام علمي من فضل الْعلم والزهد فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمَا لَا يؤتيهما الله ﷿ إِلَّا أهلهما ومستحقهما وَمن نقص علو أَحْوَال الدُّنْيَا من المَال وَالصَّوْت أَن أَكثر مَا يقعان فِي غير أهلهما وفيمن لَا يستحقهما من طلب الْفَضَائِل لم يُسَايِر إِلَّا أَهلهَا وَلم يرافق فِي تِلْكَ الطَّرِيق إِلَّا أكْرم صديق من أهل الْمُوَاسَاة وَالْبر والصدق وكرم الْعَشِيرَة وَالصَّبْر وَالْوَفَاء وَالْأَمَانَة والحلم وصفاء الضمائر وَصِحَّة الْمَوَدَّة وَمن طلب الجاه وَالْمَال وَاللَّذَّات لم يُسَايِر إِلَّا أَمْثَال الْكلاب الكلبة والثعالب الخلبة وَلم يرافق فِي تِلْكَ الطَّرِيق إِلَّا كل عَدو المعتقد خَبِيث الطبيعة مَنْفَعَة الْعلم فِي اسْتِعْمَال الْفَضَائِل عَظِيمَة وَهُوَ أَنه يعلم حسن الْفَضَائِل
1 / 24
فيأتيها وَلَو فِي الندرة وَيعلم قبح الرذائل فيجتنبها وَلَو فِي الندرة وَيسمع الثَّنَاء الْحسن فيرغب فِي مثله وَالثنَاء الرَّدِيء فينفر مِنْهُ فعلى هَذِه الْمُقدمَات يجب أَن يكون للْعلم حِصَّة فِي كل فَضِيلَة وللجهل حِصَّة فِي كل رذيلة وَلَا يَأْتِي الْفَضَائِل مِمَّن لم يتَعَلَّم الْعلم إِلَّا صافي الطَّبْع جدا فَاضل التَّرْكِيب وَهَذِه منزلَة خص بهَا النَّبِيُّونَ عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَن الله تَعَالَى علمهمْ الْخَيْر كُله دون أَن يتعلموه من النَّاس وَقد رَأَيْت من غمار الْعَامَّة من يجْرِي من الِاعْتِدَال وَحميد الْأَخْلَاق إِلَى مَا لَا يتقدمه فِيهِ حَكِيم عَالم رائض لنَفسِهِ وَلكنه قَلِيل جدا وَرَأَيْت مِمَّن طالع الْعُلُوم وَعرف عهود الْأَنْبِيَاء ﵈ ووصايا الْحُكَمَاء وَهُوَ لَا يتقدمه فِي خبث السِّيرَة وَفَسَاد الْعَلَانِيَة والسريرة شرار الْخلق وَهَذَا كثير جدا فَعلمت أَنَّهُمَا مواهب وحرمان من الله تَعَالَى
1 / 25
الْأَخْلَاق وَالسير إحرص على أَن تُوصَف بسلامة الْجَانِب وَتحفظ من أَن تُوصَف بالدهاء فيكثر المتحفظون مِنْك حَتَّى رُبمَا أضرّ ذَلِك بك وَرُبمَا قَتلك وَطن نَفسك على مَا تكره يقل همك إِذا أَتَاك ويعظم سرورك ويتضاعف إِذا أَتَاك مَا تحب مِمَّا لم تكن قدرته إِذا تكاثرت الهموم سَقَطت كلهَا الغادر يَفِي للمجدود والوفي يغدر بالمحدود والسعيد كل السعيد فِي دُنْيَاهُ من لم يضطره الزَّمَان إِلَى اختبار الإخوان لَا تفكر فِيمَن يُؤْذِيك فَإنَّك إِن كنت مُقبلا فَهُوَ هَالك وسعدك يَكْفِيك وَإِن كنت مُدبرا فَكل أحد يُؤْذِيك طُوبَى لمن علم من عُيُوب نَفسه أَكثر مِمَّا يعلم النَّاس مِنْهَا الصَّبْر على الْجفَاء يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام فَصَبر عَمَّن يقدر عَلَيْك وَلَا تقدر عَلَيْهِ وصبر
1 / 26
عَمَّن تقدر عَلَيْهِ وَلَا يقدر عَلَيْك وصبر عَمَّن لَا تقدر عَلَيْهِ وَلَا يقدر عَلَيْك فَالْأول ذل ومهانة وَلَيْسَ من الْفَضَائِل والرأي لمن خشِي مَا هُوَ أَشد مِمَّا يصبر عَلَيْهِ المتاركة والمباعدة وَالثَّانِي فضل وبر وَهُوَ الْحلم على الْحَقِيقَة وَهُوَ الَّذِي يُوصف بِهِ الْفُضَلَاء وَالثَّالِث يَنْقَسِم قسمَيْنِ إِمَّا أَن يكون الْجفَاء مِمَّن لم يَقع مِنْهُ إِلَّا على سَبِيل الْغَلَط وَيعلم قبح مَا أَتَى بِهِ ويندم عَلَيْهِ فالصبر عَلَيْهِ فضل وَفرض وَهُوَ حلم على الْحَقِيقَة وَأما من كَانَ لَا يدْرِي مِقْدَار نَفسه ويظن أَن لَهَا حَقًا يستطيل بِهِ فَلَا ينْدَم على مَا سلف مِنْهُ فالصبر عَلَيْهِ ذل للصابر وإفساد للمصبور عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يزِيد استشراء والمقارضة لَهُ سخف وَالصَّوَاب إِعْلَامه بِأَنَّهُ كَانَ مُمكنا أَن ينتصر مِنْهُ وَإنَّهُ إِنَّمَا ترك ذَلِك استرذالا لَهُ فَقَط وصيانة عَن مُرَاجعَته وَلَا يُزَاد على ذَلِك وَأما جفَاء السفلة فَلَيْسَ جَزَاؤُهُ إِلَّا النكال وَحده من جَالس النَّاس لم يعْدم هما يؤلم نَفسه وإثما ينْدَم عَلَيْهِ فِي معاده وغيظا ينضج كبده وذلا ينكس همته فَمَا الظَّن بعد بِمن خالطهم وداخلهم والعز والراحة وَالسُّرُور والسلامة فِي الِانْفِرَاد عَنْهُم وَلَكِن اجعلهم كالنار تدفأ بهَا وَلَا تخالطها لَو لم يكن فِي مجالسة النَّاس إِلَّا عيبان لكفيا أَحدهمَا الاسترسال عِنْد الْأنس بالأسرار الْمهْلكَة القاتلة الَّتِي لَوْلَا المجالسة لم يبح بهَا البائح
1 / 27
وَالثَّانِي مواقعة الْغَلَبَة الْمهْلكَة فِي الأخرة فَلَا سَبِيل إِلَى السَّلامَة من هَاتين البليتين إِلَّا بالانفراد عَن المجالسة جملَة لَا تحقر شَيْئا من عمل غَد أَن تحَققه بِأَن تعجله الْيَوْم وَإِن قل فَإِن من قَلِيل الْأَعْمَال يجْتَمع كثيرها وَرُبمَا أعجز أمرهَا عِنْد ذَلِك فَيبْطل الْكل وَلَا تحقر شَيْئا مِمَّا ترجو بِهِ تثقيل ميزانك يَوْم الْبَعْث أَن تعجله الْآن وَإِن قل فَإِنَّهُ يحط عَنْك كثيرا لَو اجْتمع لقذف بك فِي النَّار الوجع والفقر والنكبة وَالْخَوْف لَا يحس أذاها إِلَّا من كَانَ فِيهَا وَلَا يُعلمهُ من كَانَ خَارِجا عَنْهَا وَفَسَاد الرَّأْي والعار وَالْإِثْم لَا يعلم قبحها إِلَّا من كَانَ خَارِجا عَنْهَا وَلَيْسَ يرَاهُ من كَانَ دَاخِلا فِيهَا الْأَمْن وَالصِّحَّة والغنى لَا يعرف حَقّهَا إِلَّا من كَانَ خَارِجا عَنْهَا وَلَيْسَ يعرف حَقّهَا من كَانَ فِيهَا وجودة الرَّأْي والفضائل وَعمل الْآخِرَة لَا يعرف فَضلهَا إِلَّا من كَانَ من أَهلهَا وَلَا يعرفهُ من لم يكن من أَهلهَا أول من يزهد فِي الغادر من غدر لَهُ الغادر وَأول من يمقت شَاهد الزُّور من شهد لَهُ بِهِ وَأول من تهون الزَّانِيَة فِي عينه الَّذِي يَزْنِي بهَا مَا رَأَيْتنَا شَيْئا فسد فَعَاد إِلَى صِحَّته إِلَّا بعد لأي فَكيف بدماغ يتوالى عَلَيْهِ فَسَاد السكر كل لَيْلَة وَإِن عقلا زين لصَاحبه تَعْجِيل إفساده
1 / 28
كل لَيْلَة لعقل يَنْبَغِي أَن يتهم الطَّرِيق تبرم والزرايا تكرم وَكَثْرَة المَال ترغب وقلته تقنع قد ينحس الْعَاقِل بتدبيره وَلَا يجوز أَن يسْعد الأحمق بتدبيره لَا شَيْء أضرّ على السُّلْطَان من كَثْرَة المتفرغين حواليه فالحازم يشغلهم بِمَا لَا يظلمهم فِيهِ فَإِن لم يفعل شغلوه بِمَا يظلمونه فِيهِ وَأما مقرب أعدائه فَذَلِك قَاتل نَفسه كَثْرَة وُقُوع الْعين على الشَّخْص يسهل أمره ويهونه التهويل بِلُزُوم تزي مَا والاكفهرار وَقلة الانبساط ستائر جعلهَا الْجُهَّال الَّذين مكنتهم الدُّنْيَا أَمَام جهلهم لَا يغتر الْعَاقِل بصداقة حَادِثَة لَهُ أَيَّام دولته فَكل أحد صديقه يَوْمئِذٍ إجهد فِي أَن تستعين فِي أمورك بِمن يُرِيد مِنْهَا لنَفسِهِ مثل مَا تُرِيدُ لنَفسك وَلَا تستعن فِيهَا بِمن حَظه من غَيْرك كحظه مِنْك لَا تجب عَن كَلَام نقل إِلَيْك عَن قَائِل حَتَّى توقن أَنه قَالَه فَإِن من نقل إِلَيْك كذبا رَجَعَ من عنْدك بِحَق ثق بالمتدين وَإِن كَانَ على غير دينك وَلَا تثق بالمستخف وَإِن أظهر أَنه على دينك
1 / 29
من استخف بحرمات الله تَعَالَى فَلَا تأمنه على شَيْء مِمَّا تشفق عَلَيْهِ وجدت المشاركين بأرواحهم أَكثر من المشاركين بِأَمْوَالِهِمْ هَذَا شَيْء طَال إختباري إِيَّاه وَلم أجد قطّ على طول التجربة سواهُ فأعيتني معرفَة الْعلَّة فِي ذَلِك حَتَّى قدرت أَنه طبيعة فِي الْبشر من قَبِيح الظُّلم الْإِنْكَار على من أَكثر الْإِسَاءَة إِذا أحسن فِي الندرة من استراح من عَدو وَاحِد حدث لَهُ أَعدَاء كَثِيرَة أشبه مَا رَأَيْت بالدنيا خيال الظل وَهِي تماثيل مركبة على مطحنة خشب تدار بِسُرْعَة فتغيب طَائِفَة وتبدو أُخْرَى طَال تعجبي فِي الْمَوْت وَذَلِكَ أَنِّي صَحِبت أَقْوَامًا صُحْبَة الرّوح للجسد من صدق الْمَوَدَّة فَلَمَّا مَاتُوا رَأَيْت بَعضهم فِي النّوم وَلم أر بَعضهم وَقد كنت عَاهَدت بَعضهم فِي الْحَيَاة على التزوار فِي الْمَنَام بعد الْمَوْت إِن أمكن ذَلِك فَلم أره فِي النّوم بعد أَن تقدمني إِلَى دَار الْآخِرَة فَلَا أَدْرِي أنسي أَن شغل غَفلَة النَّفس ونسيانها مَا كَانَت فِيهِ فِي دَار الِابْتِلَاء قبل حلولها فِي الْجَسَد كغفلة من وَقع فِي طين غمر عَن كل مَا عهد وَعرف قبل ذَلِك ثمَّ أطلت الْفِكر أَيْضا فِي ذَلِك فلاح لي شعب زَائِد من الْبَيَان وَهُوَ أَنِّي رَأَيْت النَّائِم إِذْ هَمت نَفسه بالتخلي من جسده وَقَوي
1 / 30