ولم ينتبه الغزالي لخطر هذا المثال. فإن الكلام عن الأسفار والرحلات من الأمور ذوات البال، والتحدث عن طبائع البلاد وأخلاق الناس من المستحسنات. ونحن مدينون بما نعلم من عادات الأمم وأخلاقها إلى هؤلاء الذين يتحدثون بما لا يعنيهم فيقصون علينا ما رأوا في أسفارهم من الجبال، والأنهار، والأطعمة والثياب، وإن عد الغزالي حديثهم ولو احترزوا تضييعا للزمان.
ومما أصاب في عده مما لا يعني أن ترى إنسانا في الطريق فتقول من أين؟ فربما يمنعه مانع من ذكره، فإن ذكر تأذى به واستحيا، وإن لم يصدق وقع في الكذب وكنت السبب فيه. وكذلك سؤالك أمرءا عن المعاصي، وعن كل ما يخفيه ويستحي منه، وسؤالك عما حدث به غيرك.
والباعث على هذه الآفة - فيما يرى - هو الحرص على معرفة ما لا حاجة به إليه، أو المباسطة بالكلام على سبيل التودد، أو تزجية الأوقات بحكايات أحوال لا فائدة فيها.
وأما علاج ذلك فهو أن يعلم أن الموت بين يديه، وأنه مسؤول عن كل كلمة، وأن أنفاسه رأس ماله، وأن لسانه شبكة يقدر على أن يقتنص بها الحور العين، فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين.
يقول الغزالي : «هذا علاجه من حيث العلم، وأما من حيث العمل فالعزلة، وأن يضع حصاة في فيه، وأن يلزم نفسه السكوت عن بعض ما يعنيه، حتى يعتاد اللسان ترك ما لا يعنيه»
2 (؟!).
فضول الكلام
أما الآفة الثانية: فهي فضول الكلام. وهو يتناول الخوض فيما لا يعني، والزيادة فيما يعني على قدر الحاجة. فإن من يعنيه أمر يمكنه أن يذكره بكلام مختصر، ويمكنه أن يجسمه ويقرره ويكرره. قال الغزالي: «ومما تأدى مقصوده بكلمة واحدة فذكر كلمتين، فالثانية فضول وهو مذموم وإن لم يكن فيه إثم ولا ضرر».
3
وسبب هذه الآفة وعلاجها مماثلان لسبب وعلاج الكلام فيما لا يعني.
صفحة غير معروفة