إن الفكرة التي يهملها اليوم الفن الحديث تحل المحل الأول في مسيح الجميل الميت، وكذلك في صورة «مسيحه» الشاب، فهو ليس ممن يحولون لك خدهم الأيسر إذا ضربتهم على الأيمن ... والدرس النفسي الذي يتجلى لنا في مسيح الجميل الشاب فما فارقه قط وهو ممدد على الأرض في سفح جبل صهيون، وستزعم زعمي إذا قدر لك ورأيت هذه الصورة الطريفة التي هي بدعة جديدة في الفن، في الأسلوب والتلوين، ألوان خلقها المؤلف من المعادن فلاءم الكساء ذلك الهيكل الخالد، ألوان تبص.
قال الجميل مؤلفها: إنها من «اللاك» فهمهمت كمن فهم ولم أستقص. وما كانت الألوان قط حقيقة لا غبار عليها، بل هي كلمات الفن للتعبير عما في نفوس أصحابه، هي جمال الذكورة والأنوثة، وخلق فتنة وإغراء غايتهما بقاء النوع الذي نعبر عنه في لغة الأرواح بالخلود.
انظر إلى القمم التي تحرس الإله الراقد، تر الجميل أنصف شاعر الجليل الأبدي فخلد إلى جانبه محيطا عز عليه الانفصال عنه، مع أنه عائد إلى أبيه السماوي، فصرخ إذ تذكره: يا أبتاه نجني من هذه الساعة.
ثم لا تنس تلك القمة الخالدة التي خلقها الفنان من كتف ستنا مريم، فكانت متممة لهذه الصورة بل لهذا «الكل» الذي ينطبق بألسنة عديدة كالتلاميذ في العلية. وانظر إلى الصخر المشقق فقد يكون رسمه الجميل تتميما للكتاب ... فما أجمل المصطاف والمتربع في أقاليم حياة يسوع.
قد ينكر أصحاب المقاييس كتف مريم الضخمة، ولكن الكتف التي حملت (حامل خطايا العالم) ... لا تتجاوز المقدار مهما غالى المصور، فالذهن يكذب فيها العين فتبطل المقاييس وتتعطل المصطلحات ... وإذا رأيت ذراع يسوع ضخمة، فلا تنس أنها ذراع الرب ... ناهيك أن مقاييس الجميل هي ما اقتضاه التوازن، والجمال اتزان وملائمة. وإذا أغرتك كما أغرتني هذه اللوحة وتبحرت في معانيها فلا تسأل عن النبات القائم حول الشهيد، فالكتاب قد تم في نيسان ...
وبعد فلا تتعجب إن رأيتني بين نقدة التصاوير فقبلي قد تنبأ شاول، فإن أعجبتك نبوتي فأثن علي بما أنا أهله، وإلا فباستطاعتك أن تقول لي ما قال ذاك المصور للإسكاف: احصر كلامك في الحذاء. أما أنا فأقول لك: كل الدروب تؤدي إلى الطاحون، ونحن نقوم الفن بما يلهمنا إياه الذوق، وإن قال قبلنا تولستوي: ليس الفن متاعا أو لذة أو ألهية، بل الفن عضو حياتي في الإنسانية ينقل إلى حقل العاطفة إدراكات العقل.
ويتوقع الفيلسوف الأكبر أن يخلق الفن بين الناس الوحدة العامة الشاملة ويمحو الجاهلية والعسف والإكراه.
حاشية - إن جولتي في منطقة «أصدقاء الفن» كانت على قدر وقتي في تلك الساعة من عام ألف وتسعماية وأربعين، فلم أتجاوز، غربا، مسيح الجميل، ولم أتعد، شرقا، تصميم الحويك، فللفنانين الآخرين ثنائي العاطر، فبينهم من عرفت فضله وأقدر نبوغه كالأستاذ مصطفى فروخ - ولكن ما نفع الثناء والإطراء، أهكذا تستثار همم أصدقاء الفن؟!
إن ما نكتب من تقريظ ونقد هو نقد غير رائج في السوق، ولا يصلح رأس مال للتبضع، لشراء القماش والدهان وجميع حوائج النحت والتصوير، ولكن هناك نقدا آخر مكتوب عليه «تدفع لحاملها شكا على باريس، أو لندن». أما أوراق «عفاريم، برافو كويس كثير»، فلا تمكن صديقنا الفنان من عشا ليلة.
اللهم، لطفا بأقرب عبيدك إليك، يمثلونك لعابد المال فترتاح نفسه المتبرمة، وينفتح صدره وتنبلج أسرته المعبسة كوجه صندوقه، ولكن يده تظل كالدبوس، وشعاره لا يزال إياه، صوب الكيس لا تقرب.
صفحة غير معروفة