37

آخر الدنيا

تصانيف

أصابع لا يمكن أن تكون أصابع ... لا بد أن عظامها من الداخل كانت حديدا، والجلد فوقها قد جف من زمان وتحجز. خيل إلي أن جسدي كله يحمر للقرصة، ومع هذا فقد كنت أحس بالأصابع الكماشة لا تقصد بها الجد والأذى بقدر ما تريد التنبيه المغلف بهزل ... وصوت يأتيني من وراء البرقع الذي أعيد كقناع الديك الرومي إلى مكانه: وبتشرب سجاير ليه؟ ... مش عيب؟

ولم أتأوه ... خوفا، وربما حسبها جدعنة، ولكنها كانت والله خوفا، وحتى سكوني بعد هذا وهو يسألني، هل أصلي مثل أبي المشهور بصلاحه ... ثم نطقي حين ازدادت الضغطة وقولي: لاه.

وتزداد القرصة، ويجيئني السؤال كلفحة النار الهادئة: ليه؟

فأقول: حاصلي ... حاصلي.

وحينئذ أحس بجسدي يبرد وينتعش ويعود إلى الحياة؛ إذ الكماشة كانت قد تركت أذني، ولكني ما كدت أتنفس، حتى دوت خبطة أو خبطتان على ظهري كدق الساطور على جسد الذبيحة المنفوخ، والغريب لعنة الله عليه، يقول: لا والله ... أنت واد جدع ... يحميك لأبوك ... لولا أنك جدع لغرزتك زرع بصل في القيد ده ... قف.

ماذا أفعل؟ وقفت ... قرب هنا ... قربت ... هات ودانك ... أذني التي كنت لا أزال أحس بها حمراء كالجمر المضيء في ظلمة الليل هي نفسها التي قربتها، وهي نفسها التي سمعته ... سمعت قحة الغريب أبو محمد وهو يقول: آني جعان يا ولد.

أقسم أن صدري لم ينشرح لكلمة سمعتها من إنسان بمثل ما شرحت صدري تلك الكلمة، وأزالت كل ما تراكم فيه ليلتها من اضطراب ورعب وارتجاف وهوس ... واستقرت في أعمق أعماقه وراحت تدوي دويا غريبا حبيبا، نداء ... النداء الذي تتجمع له النخوة والحب والرغبة العارمة في التضحية، وأسهلها التضحية بالنفس. وبكل هذا، وبكل ما حدث في وما انداح من صدري قلت في شبه هتاف: تحب تاكل إيه؟ - أي حاجة ... وإن كنت تقدر هات لي صندوق دخان وحجر بطارية وقلة ميه.

واستدرت لأجري، ولكنني لم أتحرك، فيده المهولة كانت قد أمسكت بذيل جلبابي ... وعدت أواجهه فوجدته يرفع البرقع ويقول: كلام رجالة؟!

وجمت ... فقد أحسست أنه يهينني، وربما القمر الساقط على وجهي الشاحب اللاهث قد أنبأه هو الآخر أني أكاد أبكي تأثرا، فترك الذيل، ولكنني لم أتحرك ... ظللت واقفا، وأيضا لا أستطيع أن أتكلم ... كنت أريد أن أقول له أشياء كثيرة جدا، ولكني لم أكن أعرف كيف أقولها؛ ربما لأني لم أكن أعرف بالضبط هذه الأشياء الكثيرة التي أريد قولها؛ وربما لأني لدى كلمته هذه بدأت أفقد الحماس الدافق الذي أشاعه طلبه في صدري، وبدأت أفكر في أن أذهب وأوقظ أبي والخفراء والعمدة ونمسكه.

وقفت حتى قال: روح ... يلا.

صفحة غير معروفة