وأسبابها عظيمة وأحوالها جسيمة، فمن جملة ذلك ارتكابهم للمعاصى في السر والنجوى، وعدم التقاص في الأمر بالمعروف والتقوى ولم يزل الحال بينهم في طول وعرض، إلى أن كاد يملأ ما بين السماء والأرض ولما عظم الكرب، وكاد أن يشب بينهم نار الحرب، والطعن والضرب، أشار بعض الناصحين على الكتخذا محمد فلبلى بأن يعرف أمير مكة المشرفة سرور بن مساعد وكان أول ولايته، ويشرفه على هذا الأمر قبل أن يطول بينهم الحال، فأرسل إليه يعرض بذلك ويستعطف خاطره في إطفاء نار الفتنة، فأرسل الشريف إلى شيخ الحرم والكتخذا محمد قمقجي يطلب منهم مشبي (1) الفتنة الذين هم من طرفهم كالفلبلى وعيسى الجزار ونحوهم فرأى (*) أن الأمر عظيم وتمت عليه الحيلة، فما وسعه إلا أن توجه بنفسه إلى الشريف وشكى أليه حاله، وتظلم عنده، وقال له: أحضر خصمائي بين يديلك فإن كنت ظالما أنت أولى منى بالإنصاف، وإن كنت مظلوما فأنت خذ بيدى، وكانت حيلة منه، فأرسل الشريف سرور يطلب الفلبلى للمحاكمة بين يديه، وتعاين للفلبلى منه المكروه، حسبما ألقى إليه فيه فتعذر في الحضور، فتيقن الشريف بأن الحق مع القمقمجي ، وكان بالأمر المقدور أن جاءه خبر من قتل من النوبجتية في مدة جلوسه فزاده إيقانه، وذلك أنه لما توجه القمقجي إلى الشريف كما ذكرنا كان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ساكنون في المناخة، وكل ليلة ينزلون صلاة الصبح من باب المصرى وهم أشد طائفة النوبجبتية، وصارت تصدر منهم في أهل القلعة أمور خصوصا لما تيقنوا معاضدة الشريف لهم كما فيهم من أولئك عظائم شرور، 62...ولما كان ليلة من بعض الليالي تحزم جماعة من أهل القلعة واضمروا لأولئك المكروه ودسوا على بواب المصرى بأنه حين دخول أولئك الطائفة يغلق خلفهم الباب، وكان تلك الطائفة يجتمعون عصابة واحدة عند دكة (*) شيخ الحرم وينزلون كما هم، ولما كان ليلة الجمعة لم يجتمع منهم سوى أربعة أنفس ابنا القندقجي الاثنان والبقسماطى وشرف قبانى، ولما دخلوا من باب المصرى أغلق الباب، وكان أهل القلعة رتبوا لهم رتبا وأكمنوا كمنا في غير محل من باب المصرى إلى باب السلام، ولما توسطوا خرج عليهم الكمين، ثم الكمين والآخر؛ حتى أحاطوا بهم من كل جانب، وحملوا عليهم معاتب أثر معاتب من كل الجوانب، وعسروا عليهم المداخل والمخارج، إلى أن أجحفوهم بالضرب، واستولوا عليهم بالطعن والسلب، وضعف منهم الساعد، وخانهم شيطانهم والمساعد، فوقع البقسماطى قتيلا وتلاه أحد أبناء القندقجي جديلا، ونجا أخوه وظن أنه نجا فسمع أنينه، واستنجاده به وحنينه، فرجع له منجدا فوقع بين مخاليب العدا، ولم ينج منهم سوى شرف قباني فإنهم لما أحاطوا به رماهم بجوار قربين فأخرجوا له ودخل بنعله إلى دكة الأربعين، ونادى بأعلا صوته: يا أهل الحارة، ويا أهل النجدة والغارة قد دهمتكم الرجال، وقتلوا من رجالكم الأبطال، فلم يكن له مجيب سوى صدا صوته والنحيب ورجع أولئك وهم صاجون بالصياح، فرحون بما استلبوه فيهم من العدة والسلاح، وبما نالوه من أعدائهم في ذلك البراح، وتشويه وجوههم الملاح، ولما أتى الصباح وأضاء بنوره ولاح، اجتمع العساكر أجتمع من فيما بينهم مع أمرائهم وعظمائهم، وتوجهوا إلى بيت شيخ الحرم وقالوا : إنك دأبت ما صار البارحة وأن القمقمجى الآن عند الشريف ولا يمكن أن يترك ثأر من قتل ونحن ما نسلم له بوجه من الوجوه، الرأى أننا نحرم قبل مجيده ونعقد العهود والمواثيق فيما بيننا ونطلب منك أن تضع لنا كتخذا غيره حتى يتم لنا الأمر ولا يتم له.
صفحة ٦٢