ما رأين أنجب من البرامكة رجالا وأطفالا ولا أشرف منهم أحوالا ما أعلم أني حضرت يحيى والفضل ولا جعفرا إلا انصرفت عنهم لي ولإخواني بالحباء الجزيل ثم قال: طرب الفضل بن يحيى إلى مذاكرتي فأتاني رسوله وكان يوما باردا ذا صر وقر فقال: أجب الوزير فمضيت معه فلما دخلت عليه إذا هو في بهو له قد فرش بالسمور وهو في دست منه وعلى ظهره دواج سمور أشهب مبطن بخز وبين يديه كانون فضة فوقه أثفية ذهب وفي وسطها تمثال أسد رابض في عينيه ياقوتتان تتوقدان وفوق الصينية إبريق زجاج فرعوني وكأس كأنها جوهرة محفورة تسع رطلا، لا أظنها يفي بها مال كثير، وهو على سرير من عاج، وأنا علي ثياب قطن فسلمت عليه فرد السلام وقال لي: يا أصمعي ليس هذا من ثياب هذا اليوم، قلت: أصلح الله الوزير إنما يلبس الرجل ما يجد، فقال: يا غلام ألق عليه شيئا من الوبر، فاتيت بمثل ما عليه، فلبسته حتى الجورب، ثم أتي بخوان لم أدر ما جنسه غير أني تحيرت في جنسه، وبصفحة من الصيني مشمسة فيها لون من مخ الطير فتناولنا منها ثم تتابعت الألوان فأكلت من جميع ما حضر، لا والذي اصطفى محمدا صلى الله عليه وآله بالرسالة نا عرفت منها واحدا إلا أني لم آكل في الدنيا شيئا يدانيها قط لذة وطيبا عند خليفة ولا ملك. ثم رفع الخوان وأتينا بألوان من الطيب فغسلنا أيدينا وكنت كلما استعملت منه لونا ظننته أطيب ما في الدنيا من عطر فاخر حتى إذا استعملت غيره زاد عليه طيبا، فلما فرغنا من ذلك إذا غلام قد أقبل معه جام بلوز فيه غالية قد أودفت بكثرة العنبر فتناولنا بملعقة من الذهب حتى نضحناه فصرت كأني جمرة ثم قال: اسقنا، فسقاه رطلا وسقاني مثله فما تجاوز والله لهاتي حتى كدت أطير فرحا وسرورا وصرت في مسلاخ ابن عشرين طربا، ودبت الشربة فخثرت ما بين الذؤابة والنعل وكأن دبي الجراد يثب ما بين أحشائي وثيا فلم أتمالك أن قلت: قاتل الله أبا نواس حيث يقول:
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل
فقال الفضل: هذا البيت له؟ قلت: نعم يا سيدي، قال وليس إلا هذا البيت الواحد؟ قلت: أعز الله الوزير هي أبيات، قال: هاتها، فأنشدته:
وخيمة ناطور برأس منيفة ... تهم يدا من رامها بزليل
حططنا بها الأثقال فل هجيرة ... عبورية تذكى بغير فتيل
تأيت قليلا ثم فاءت بمزقة ... من الظل في رث الأباء ضئيل
كأن لديها بين عطفي نعامة ... جفا زورها عن مبرك ومقيل
جلبت لأصحابي بها درة الصبا ... بصفراء من ماء الكروم شمول
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل
فلما توفى الليل جنحا من الدجى ... تصابيت واستجملت غير جميل.
وأصبحت ألحي السكر والسكر محسن ... ألا رب إحسان عليك ثقيل
كفى حزنا أن الجواد مقتر ... عليه ولا معروف عند بخيل
سأبغي الغنى إما نديم خليفة ... يقيم سواء أو مخيف سبيل
بكل فتى لا يستطار جنانه ... إذا نوه الزحفان باسم قتيل
ليخمس مال الله في كل فاجر ... وذي بطنة للطيبات أكول
ألم تر أن المال عون على المدى ... وليس جواد معدم كبخيل
قال: قاتله الله ما أشعره، يا غلام أثبتها، ثم قال: أما والله لولا قالة الناس في ما فارقني، ولكن إذا فكرت فيه وجدت الرجل ماجنا خليعا متهتكا ألوفا لحانات الخمارين فأترك نفعه لضره، فقلت: أصلح الله الوزير إنه مع ذلك بمكان من الأدب ولقد جالسته في مجالس كثيرة قد ضمت ذوي فنون من الأدباء والعلماء فما تحاوروا في شيء من فنونهم إلا جاراهم فيه ثم برز عليهم وهو من الشعر بالمحل الذي قد علمته، أليس هو القائل:
ذكرتم من الترحال يوما فغمنا ... فلو قد فعلتم صبح الموت بعضنا
زعمتم بأن البين يحزنكم، نعم ... سيحزنكم حزنا ولا مثل حزننا
تعالوا نقارعكم ليحقق عندكم ... من أشجى قلوبا أم من أسخن أعينا
أطال قصير الليل يا رحم عندكم ... فإن قصير الليل قد طال عندنا
وما يعرف الليل الطويل وهمه ... من الناس إلا من تنجم او أنا
خليون من اوجاعنا يعذلوننا ... يقولون لو لم يعب بالحب لانثنى
يقومون في الأقوام يحكون فعلنا ... سفاهة أحلام وسخرية بنا
1 / 27