لفظ صديقي الكلمات الأخيرة، وظهرت على محياه لوائح الغم والأسف، ثم زاد قائلا: فارس كرامة شيخ شريف القلب كريم الصفات، ولكنه ضعيف الإرادة يقوده رياء الناس كالأعمى وتوقفه مطامعهم كالأخرس. أما ابنته فتخضع ممتثلة لإرادته الواهنة على رغم كل ما في روحها الكبيرة من القوى والمواهب، وهذا هو السر الكامن وراء حياة الوالد وابنته. وقد فهم هذا السر رجل يأتلف في شخصه الطمع بالرياء والخبث بالدهاء، وهذا الرجل هو مطران، تسير قبائحه بظل الإنجيل فتظهر للناس كالفضائل. هو رئيس دين في بلاد الأديان والمذاهب، تخافه الأرواح والأجساد وتخر لديه ساجدة مثلما تنحني رقاب الأنعام أمام الجزار. ولهذا المطران ابن أخ تتصارع في نفسه عناصر المفاسد والمكاره مثلما تتقلب العقارب والأفاعي على جوانب الكهوف والمستنقعات. وليس بعيدا اليوم الذي ينتصب فيه المطران بملابسه الحبرية جاعلا ابن أخيه عن يمينه وابنة فارس كرامة عن شماله، رافعا بيده الأثيمة إكليل الزواج فوق رأسيهما، مقيدا بسلاسل التكهين والتعزيم جسدا طاهرا بجيفة منتنة، جامعا في قبضة الشريعة الفاسدة روحا سماوية بذات ترابية، واضعا قلب النهار في صدر الليل. هذا كل ما أستطيع أن أقوله لك الآن عن فارس كرامة وابنته، فلا تسلني أكثر من ذلك؛ لأن ذكر المصيبة يدنيها مثلما يقرب الموت الخوف من الموت.
وحول صديقي وجهه ونظر من النافذة إلى الفضاء كأنه يبحث عن أسرار الأيام والليالي بين دقائق الأثير.
فقمت إذ ذاك من مكاني، ولما أخذت يده مودعا قلت له: غدا أزور فارس كرامة قياما بوعدي له واحتراما للتذكارات التي أبقتها صداقته لوالدي.
فبهت بي الشاب دقيقة وقد تغيرت ملامحه، كأن كلماتي القليلة البسيطة قد أوحت إليه فكرا جديدا هائلا، ثم نظر في عيني نظرة طويلة غريبة - نظرة محبة وشفقة وخوف - نظرة نبي يرى في أعماق الأرواح ما لا تعرفه الأرواح، ثم ارتعشت شفتاه قليلا ولكنه لم يقل شيئا، فتركته وسرت نحو الباب بأفكار متضعضعة، وقبيل أن يلتفت إلى الوراء رأيت عينيه ما زالتا تتبعانني بتلك النظرة الغريبة؛ تلك النظرة التي لم أفهم معانيها حتى عتقت نفسي من عالم المقاييس والكمية وطارت إلى مسارح الملأ الأعلى حيث تتفاهم القلوب بالنظرات وتنمو الأرواح بالتفاهم.
في باب الهيكل
وبعد أيام وقد مللت الوحدة، وتعبت أجفاني من النظر إلى أوجه الكتب العابسة علوت مركبة طالبا منزل فارس كرامة، حتى إذا ما بلغت بي غابة الصنوبر حيث يذهب القوم للتنزه، حول السائق وجهة فرسيه عن الطريق العمومية، فسار خببا على ممر تظلله أشجار الصفصاف، وتتمايل على جانبيه الأعشاب والدوالي المتعرشة وأزاهر نيسان المبتسمة بثغور حمراء كالياقوت وزرقاء كالزمرد وصفراء كالذهب.
وبعد دقيقة وقفت المركبة أمام منزل منفرد تحيط به حديقة مترامية الأطراف، تتعانق في جوانبها الأغصان، وتعطر فضاءها رائحة الورد والفل والياسمين.
ما سرت بضع خطوات في تلك الحديقة حتى ظهر فارس كرامة في باب المنزل خارجا للقائي، كأن هدير المركبة في تلك البقعة المنفردة قد أعلن له قدومي، فهش متأهلا وقادني مرحبا إلى داخل الدار، ونظير والد مشتاق أجلسني بقربه يحدثني مستفسرا عن ماضي مستطلعا مقاصدي في مستقبلي، فكنت أجيبه بتلك اللهجة المفعمة بنغمة الأحلام والأماني التي يترنم بها الفتيان قبل أن تقذفهم أمواج الخيال إلى شاطئ العمل حيث الجهاد والنزاع ... للشبيبة أجنحة ذات ريش من الشعر وأعصاب من الأوهام، ترتفع بالفتيان إلى ما وراء الغيوم، فيرون الكيان مغمورا بأشعة متلونة بألوان قوس قزح، ويسمعون الحياة مرتلة أغاني المجد والعظمة، ولكن تلك الأجنحة الشعرية لا تلبث أن تمزقها عواصف الاختبار، فيهبطون إلى عالم الحقيقة، وعالم الحقيقة مرآة غريبة يرى فيها المرء نفسه مصغرة مشوهة.
في تلك الدقيقة ظهرت من بين ستائر الباب المخملية صبية ترتدي أثوابا من الحرير الأبيض الناعم، ومشت نحوي ببطء، فوقفت ووقف الشيخ قائلا: هذه ابنتي «سلمى». وبعد أن لفظ اسمي شفعه بقوله: إن ذاك الصديق القديم الذي حجبته عني الأيام قد عادت فأبانته لي بشخص ابنه، فأنا أراه الآن ولا أراه. فتقدمت الصبية إلي وحدقت إلى عيني، كأنها تريد أن تستنطقهما عن حقيقة أمري، وتعلم منهما أسباب مجيئي إلى ذلك المكان، ثم أخذت يدي بيد تضارع زنبقة الحقل بياضا ونعومة، فأحسست عند ملامسة الأكف بعاطفة غريبة جديدة أشبه شيء بالفكر الشعري عند ابتداء تكوينه في مخيلة الكاتب.
جلسنا جميعا ساكتين كأن سلمى قد أدخلت معها إلى تلك الغرفة روحا علوية توعز الصمت والتهيب، وكأنها شعرت بذلك فالتفتت نحوي وقالت مبتسمة: كثيرا ما حدثني والدي عن أبيك معيدا على مسمعي حكايات شبابهما، فإن كان والدك قد أسمعك تلك الوقائع فلا يكون هذا اللقاء هو الأول بيننا.
صفحة غير معروفة