قالت: «طال انتظاره بقدومي؟ وهل يهمه أمري؟ وعنده من السراري والجواري ما يشغله عن هذه اليتيمة المسكينة التي فقدت سعادتها بفقد والدتها - رحمك الله يا أماه.» قال ذلك وحرقت أسنانها ثم قالت: «ما غرض هذا الشاب الجاهل من الزيارة يا ترى؟ أظنه جاء لمعاقرة الخمر مع أبي وليمضيا الوقت في المجون والخلاعة على جاري العادة.»
فتأثر زكريا مما شاهده من المها فأراد تشجيعها فقال: «وما الذي يهمك من ذلك يا مولاتي؟»
قالت: «كيف لا يهمني أمر والدي يا عماه؟ ألا يهمني أن يكون من معاقري الخمر وأهل المجون؟ هل رأيته ذاهبا إلى الكنيسة يوما ما؟ أم هل سمعته يصلي؟ وما الذي أبقاه لآخرته وأنت تراه يقضي أوقاته في الخلاعة والمجون وهو الذي لا يصاحب إلا من كان على شاكلته، وما قولك في رجل يتخذ إسطفانوس هذا صديقا له ينفق أمواله عليه؟»
فأجابها على الفور: «ألا تعلمين لماذا يصاحبه ويكرمه؟ وهل يخفى عليك أن سيدي والدك صاحب ضياع وأموال يلحقها من الخراج الكثير، وهذا الشاب ابن كاتب الخراج وله دالة على المارداني، فيخدم أباك في تخفيف وطأة الخراج وقد مضت عدة أعوام لم يؤد أبوك من الخراج شيئا.»
قالت: «بئس الاقتصاد هذا، أراه ينفق عليه في المآدب والولائم والهدايا فوق ما يقتصده من الخراج، ثم إن الخراج حق للدولة لا ينبغي إمساكه عنها كأننا نسرقها. إن أهل الذمة والضمير لا يقبلون ذلك.»
وكان زكريا يمشي بين يديها وهما يسيران الهويناء لإتمام الحديث قبل الوصول إلى المنزل، فأعجب بتعقلها وصدق نظرها؛ لأنه سمع منها قولا لم يسمعه إلا من كبار الرجال المتفانين في نصرة الحق والعدل، ثم تذكر تقواها وتدينها فأدرك حفظها قول المسيح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وفكر في أمرها وما يهمها من أمر أبيها فاستوقفها وقال:
إن الذي يهمك من هذه الشكوى أمران: الأول أنك تخافين أن يبذر أمواله فيضيع حقك في الإرث و...
فقطعت كلامه قائلة: «إن المال لا يهمني كثيرا ولكن لدي أمرا آخر أهم منه.»
فقال: «لو صبرت لأتمم حديثي لاستغنيت عن هذا البيان. الأمر الثاني أنك تكرهين إسطفانوس وتكرهين عشرته وتخافين أن تئول صداقته لأبيك إلى تمكين عرى القرابة معه، فتعود العائدة عليك، وأنا أعلم أنك تبغضين هذا الشاب كما تبغضين جهنم.»
فسرها أن العم زكريا فهم مرادها، وعرف ما يكنه ضميرها وأحسن التعبير عن مقدار بغضها إسطفانوس. وفي الواقع أن أباها كان قد لمح لها مرة بأنه يحب أن يزوجها منه فلم تجبه على أنها لا ترى كل ذلك شيئا يستحق الذكر بالقياس إلى حرمانها من سعيد، ولاسيما بعد الذي سمعته في تلك الليلة. وهمت بأن تبوح بذلك لزكريا فمنعها الحياء. وكان زكريا يمشي بجانبها والمصباح بيده، فلما آنس منها الإطراق والسكوت والتفكير رفع المصباح إلى وجهها وتفرس فيه وهو يبتسم وقال: «وقد قرأت في وجهك شيئا آخر.» وتنحنح وسعل وصبر هنيهة ثم قال: «إن سعيدا رجل شهم، وهو وحده أهل لك.»
صفحة غير معروفة