أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه

محمود الخفيف ت. 1380 هجري
92

أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه

تصانيف

وانطلقت الشائعات من هنا ومن هناك، فالبارودي يريد أن يثب إلى العرش، والجيش على أهبة لأن يتحرك إلى عابدين ليرغم توفيقا على قبول مطالب الوطنيين كما أرغمه على مثل ذلك في اليوم التاسع من شهر سبتمبر من العام الماضي، والخديو يعد العدة للمقاومة، إلى غير ذلك من الأراجيف التي كان من طبيعة ذلك الموقف أن يخلقها.

ولو كانت الروح العسكرية هي المسيطرة على الحكم يومئذ كما أرجف المرجفون لما وقف دون الجيش حائل إلى القصر، وليكن بعد ذلك النصر أو الطوفان، ولكن الوزارة رأت أن تحتكم إلى نواب البلاد، ولما كانت واثقة أن الخديو لن يدعو المجلس دعته هي ليفصل في الأمر، ولا عبرة بالشكل في سبيل تحقيق الجوهر ...

وسئل رئيس الوزراء عن وجهة نظره في دعوة المجلس دون الرجوع إلى الخديو، فكان جوابه أن الخديو قد نشأ الخلاف بينه وبين وزرائه بحيث لا يمكن الاتفاق بينه وبينهم، ولذلك فقد دعى المجلس دون مراعاة سلطته في هذا، ثم قال: «إن شكوانا من سموه هي أنه سلك مسلكا يقضي على استقلال مصر، وكثيرا ما فعل ذلك دون مشاورة وزرائه.»

6

والحق أن توفيقا كان يود التخلص من هذه الوزارة بأي ثمن، وكان فيها البارودي الطامع في عرشه، وعرابي زعيم مصر وقائد حركتها القومية، الذي يسير بطبيعة حركته في طريق تعد عند الخديو طريق الضلال والعصيان، وتعد كل خطوة فيها ثورة وتكبرا، وأي شيء هو آلم لنفسه من أن يرى فلاحا من أبناء هؤلاء الذين ما خلقوا في رأيه إلا للفأس والطاعة يتربع على كرسي الوزارة، ويتكلم إذ يتكلم باسم الأمة، ويقبل ما يقبل أو يرفض ما يرفض باسم الأمة؟ ...

ولقد عاب كثير من الناس على البارودي وعرابي مسلكهما تجاه الخديو في الأزمة، وحجتهم أن الواجب كان يقضي على البارودي أن يترك الحكم ما دام الخلاف قد استحكم بينه وبين الخديو، ولقد يبدو هذا الكلام وجيها لمن ينظرون في النتائج دون تمحيص المقدمات، أما الذين لا يصدرون حكما إلا عن تقص وفهم، فهم لا يذهبون مذهب هؤلاء، ولا يقيسون قياسهم.

وليست المسألة دقيقة على الأفهام حتى تتشعب فيها وجوه الرأي، فحسب هؤلاء العائبين على الوزارة مسلكها أن يذكروا أن الخديو كان يعمل بوحي من الإنجليز، وعلى ذلك فإجابته لن تكون إلا تسليما لأعداء البلاد، الأمر الذي لن يقبله وطني ...

ولو أن الأمر كان خلافا بين الخديو ووزرائه، وكان الخديو يريد وجه الوطن، فالسبيل واضحة أمامه، وذلك أن يحتكم إلى الأمة ممثلة في مجلسها النيابي، ويجعل للمجلس عن طيب خاطر القول الفصل في الخلاف.

وهل كان يحمد من الوزارة أن يكون قصارى جهدها الاستقالة من الحكم، وإنها لفي موقف جهاد ومقاومة لدسائس الدساسين ومطامع الطامعين، وإن الخلاف بينها وبين الخديو في جوهره لخلاف على السلطة لمن تكون؟ ... كلا، بل إنا لنرى استقالتها في مثل تلك الظروف ضربا من الفرار ومثلا من أبلغ أمثلة الضعف، وبخاصة إذا سلمنا بموقف الخديو من القضية كلها على النحو الذي نذكره والذي لن نجد دليلا على صحته أبلغ مما ذكره كرومر في كتابه حيث يقول عن الخديو: «إنه بين للسير إدوارد مالت في يوم 6 مايو أنه يؤثر أن تفقد مصر بعض امتيازاتها على يد الباب العالي وتعود إليها السلطة المنظمة على أن تبقى في مثل تلك الفوضى.»، ومعنى ذلك أنه كان يريد أن تطلق يده في مصر فيحكمها كما يشاء ولا عبرة في سبيل الوصول إلى هذا الغرض بما تفقد مصر مما حصلت عليه من امتيازات خطت بها خطوات واسعة نحو الاستقلال ...

لم يكن أمام الوزارة إلا أن تحتكم إلى نواب الأمة، وقد لجأت إلى ذلك بدعوة المجلس إلى الاجتماع ما دام الخديو لم يدعه ...

صفحة غير معروفة