ولقد بدأت المؤامرة بتذمر الضباط الشراكسة في الجيش مما اتخذه وزير الحربية الجديد أحمد عرابي باشا من إجراءات الترقية، زاعمين أنها إجراءات ظالمة تنطوي على الكيد لهم والانتقام منهم، لا عن جريرة ارتكبوها ولكن لأنهم ليسوا مصريين، ومما غاظهم كما زعموا إلحاق بعضهم بالمناصب الخالية بالجيش المصري في السودان ...
والذي يقف على أساليب السياسة الإنجليزية الماكرة في تعكير كل جو ترى مصلحتها في تعكيره لا يستبعد أن يكون لمن كان يقيم بمصر من الإنجليز يومئذ أثر كبير في الإيحاء إلى هؤلاء الشراكسة بهذه الآراء لكي تشيع فيهم الفتنة، ثم تجاوزهم إلى المصريين فلا تصيب الذين ظلموا منهم خاصة ...
ومما يميل بنا إلى الاعتقاد في صحة هذا القول الذي نقول - فضلا عما أسلفنا بيانه من سوابق السياسة الإنجليزية - ما رمى به الإنجليز الوزارة الوطنية من التهم على ألسنة صحفهم ومندوبيهم في مصر، وبخاصة ما ذكروه من الإفك حول الجيش وسيطرته على كل شيء.
والواقع أنه لم يكن فيما فعل عرابي إلا ما يقتضيه تطبيق القوانين العسكرية الجديدة التي وافقت الحكومة السالفة عليها، فإن تلك القوانين تنص على وجوب إحالة المرضى والذين بلغوا سنا معينة على الاستيداع، ولقد دافعت الوزارة بهذا، ولكن الخراصين المناوئين لم يحملوا هذا العمل إلا على الرغبة في الانتقام ...
ولقد كان ممن نقلوا إلى السودان ستة وثمانون من المصريين وتسعة من الشراكسة فحسب وستة من الأتراك، فأي معنى للكيد والانتقام في هذا؟
ونحن إذا جارينا هؤلاء الكائدين لمصر وحركتها فيما زعموه من أن الوزارة متهمة فلا تصدق فيما تورده دفاعا عن عملها، فإن فيما كتبه الشيخ محمد عبده إلى صديقه مستر بلنت في كتابه المشار إليه أقوى دليل على براءة عرابي والوزارة السامية مما اتهمت به؛ قال: «أما عن ترقية الضباط التي لا تزال تلغط بها الصحف الأوربية فاسمح لي أن أشرح لك الحقائق، فأول كل شيء إن هذه الترقيات ليست من عمل عرابي باشا وحده ولا كانت رشوة يقصد بها اجتذاب الضباط نحو عرابي، فإنها كانت نتيجة للقوانين العسكرية الجديدة التي تقضي بأن يحال على المعاش من يبلغون سنا معينة ومن يصابون بالمرض أو التقاعد أو العجز، وقد بدأ تنفيذ هذا القانون من عهد شريف باشا ووضع في قائمة الإحالة على المعاش ثمانية وخمسون وخمسمائة ضابط، ثم أرسل ستة وتسعون إلى حدود الحبشة وإلى زيلع وأماكن أخرى، وأخرج من الجيش نحو مائة ضابط ألحقوا بالوظائف المدنية، ويبلغ عدد هؤلاء جميعا أربعة وخمسين وسبعمائة ضابط، فكان من الطبيعي إذن أن تجرى ترقيات لملء المناصب الخالية، ولا يزال في الجيش خمسون منصبا يحتفظ بها لخريجي المدرسة الحربية.»
هذا ما ذكره الشيخ محمد عبده ومنه يتبين الحق في هذه المسألة. على أننا لو فرضنا أن عرابيا قد آثر المصريين بالرقيات وتخطى بذلك نفرا من الشراكسة، فلن يكون في رأينا مخطئا حتى في هذا العمل. فحسب هؤلاء الشراكسة ما نالوه من حظوة طوال العهود السابقة، وبخاصة في عهد رفقي، وذلك على ما كانوا يضمرونه وما كانوا يبدونه من حقد واحتقار لمصر والمصريين، وحسب المصريين وهم أبناء البلاد الذين تجبى منهم الضرائب ما ذاقوا من هوان ومذلة على أيدي هؤلاء السادة الذين استنزفوا دماءهم، واتخذوا منهم عبيدا وإماء ...
وماذا كان ينتظر من عرابي غير أن يطبق القانون، وهذا أقل ما يفعله رجل هو زعيم ثورة كان هذا القانون ثمرة من ثمارها؟ ماذا كان ينتظر من ذلك الذي ظل طول عمره ناقما على حرمان المصريين في الجيش واستئثار الشراكسة فيه بالخير، فلم يكف عن الشغب على هؤلاء الشراكسة الباغين منذ أن كان جاويشا ليس له من الأمر شيء ولم يفتر عن مقاومتهم ومصاولتهم في كل خطوة خطاها في سلك الجيش حتى انتهت إليه زعامته؟
أجل، ماذا كان ينتظر من هذا الرجل، وما كان حقده على هؤلاء في يوم ما صادرا عن صغار أو أنانية، وإنما كان مبعثه ما يحس في أعماق نفسه من حماسة وطنية وغيرة قومية هما في مقدمة ما كان يتصف به من صفات؟!
ومهما يكن من الأمر فما كان عمل عرابي في أية صورة له، مما يقابل بالقتل! ولا كان تقديم المتآمرين إلى المجلس العسكري مما يستأهل كل ذلك السباب الذي راحت تنبح به جوقات الاستعمار، وهل نسي هؤلاء أن عرابيا وصاحبيه قد قبض عليهم في صورة مخزية غادرة تبعث على الاشمئزاز والسخرية، لمجرد أنهم تقدموا ليرفعوا شكواهم إلى أولي الأمر مما كانوا يحسونه من إجحاف بحقوقهم دون أن يفكروا في قتل أحد أو العدوان على أحد؟
صفحة غير معروفة