وكان بين من ألحق بالجيش من أبناء الأعيان هذا الفتى الأزهري القروي، وكان يومئذ في الرابعة عشرة من عمره، وبالتحاقه بالجيش تبدأ مرحلة جديدة في حياته، ثم تنتهي من ناحية أخرى مرحلة تعليمه، ومن ذلك ترى أن كل ما ناله هذا الفتى من المعرفة لم يعد ما تلقاه في المكتب ثم في الأزهر حتى سن اليفاعة، اللهم إلا ما كان من مطالعاته فيما بعد، وهي أمر لا نستطيع تحديده ...
انتظم عرابي في سلك الجيش جنديا صغيرا، ولكن حظه من القراءة والكتابة على قلته، وإلمامه بشيء من علم الحساب قد أجدى عليه من أول الأمر؛ فعين في عمل من أعمال الكتابة بالأورطة الرابعة من آلاي المشاة الأول.
1
وما لبث أن رقي عرابي بعد سنتين إلى رتبة ملازم ثان، ثم إلى رتبة ملازم أول، فيوزباشي في نفس السنة، وكان يومئذ في السابعة عشرة، ولم يمر عامان بعد ذلك حتى وصل إلى رتبة قائمقام، وكان عرابي أول مصري وصل إلى هذه الرتبة كما يقول في مذكراته.
وصل هذا الجندي من رتبة الجاويش إلى رتبة قائمقام في أقل من أربع سنوات، وما كان ذلك عن حظوة له عند أحد، وإنما كان سلاحه ذلك القدر من العلم الذي أشرنا إليه، فبه تمكن عرابي أن يدرس القوانين العسكرية ويجتاز بها الامتحان متفوقا، ويدلنا ذلك على ندرة المتعلمين في ذلك الجيش، ولا شك في أن هذا الترقي السريع قد بث في نفس الفتى القروي كثيرا من الطموح والإقدام ...
على أنه كان طموحا بطبعه، جريئا في عصر كثيرا ما كانت تعد الجرأة فيه ضربا من العصيان والتمرد كما سيأتي بيانه، ولسوف نرى من مواقفه في ذلك العصر ما يزيد معنى بسالته وضوحا، ويظهرها مضاعفة.
وأول ما عرف عنه في الجندية كراهته للعنصر الشركسي، فكان لا يفتأ يقارن بين نصيب هذا العنصر ونصيب المصريين من المناصب، فلا تزيده المقارنة إلا غضبا وكراهية لهؤلاء الأجانب ...
أليست هذه النزعة فيه هي نزعته الوطنية في الجيش يوم تبدأ الحركة العسكرية؟ ثم ألسنا نجد فيها جانبا من الوطنية ونحس معنى من معانيها؟
ولكن بعض المؤرخين لا يفهم هذا من جانب عرابي إلا على أنه ضرب من الأنانية والجشع، بل لقد يسرف بعضهم فيرمونه بالتبجح قائلين: ما لهذا الفلاح وعليا المراتب في غير جدارة؟ وإنهم في الحق ليمتدحونه بذلك من حيث لا يشعرون، ولئن كان الطموح بالنفس والشعور بالقومية تبجحا، فماذا نسمي التقاعد والتخاذل والاستخذاء أمام الأجنبي؟ ألا ليت كل تبجح يكون كتبجح عرابي هذا، فما أجدره بالإعجاب والثناء !
وكيف يستطيع رجل في مثل موقفه أن يقنع المكابرين أن نزعته كانت قومية يقصد بها بني قومه جميعا؟ وأي عيب في أن يبدأ بنفسه فيرقى بها؟ أليس مصريا؟ وهل كان يعتز إلا بمصريته إذ اعتز بنفسه؟ على أنه لو أراد بالرقي نفسه فحسب دون أي اعتبار قومي فما وجه العيب في ذلك؟ أيكون من العيب أن يتطلع الإنسان إلى المعالي، ولا يكون من العيب أن يرضى بتقدم غيره عليه في غير حق، حتى ولو كان ذلك الغير أجنبيا؟
صفحة غير معروفة