وبعد فهذا كتابي أقدمه للقراء، فإن كنت وفقت إلى ما أحببت فحسبي جزاء على ما بذلت من جهد أني أنصفت مظلوما قضى نحبه ولم ينصفه أحد، وأني بسطت سيرة الحركة القومية ولعل في هذا البسط عبرة وذكرى لهذا الجيل الذي يتوثب ويتطلع إلى المجد، وإن كنت قصرت عما أردت فعذري أن هذا جهد ما استطعت، ولتكن هذه خطوة متواضعة يسرني أن أشهد بعدها خطوات يخطوها غيري من الكرام الكاتبين في سبيل هذا الوطن الذي نخلص له الحب والولاء.
وفقنا الله للعمل لمصر، وهيأ لمصر المكان المرجو من العزة والسؤدد والحرية.
محمود الخفيف
الصبي القروي
يجد كتاب التراجم الذين يتناولون سير العظماء، طائفة من الأنباء التي تجلو حياة هؤلاء إبان طفولتهم فيستعرضونها مستخرجين منها ما يعدونه من أمارات النجابة ومن بشائر النبوغ والتبريز، أو ما يرون أنه من الشواهد على قوة الشخصية وبعد الهمة ومضاء العزيمة وما إليها مما تقوم عليه العظمة.
ونحن إذ نتكلم عن أحمد عرابي تعوزنا المصادر التي يمكن أن نعلم منها الكثير عن سيرته وخلاله في طفولته، وقصارانا أن نقول إنه ولد في شهر مارس سنة 1841 في هرية رزنة، وهي قرية بالشرقية تقع غير بعيد من مدينة الزقازيق ...
ونشأ الصبي القروي كما ينشأ الآلاف مثله في قرى مصر على نمط من العيش لا نحسبه يختلف كثيرا أو قليلا في قرية عنه في أخرى من هاتيك القرى التي نبتت منذ الأزل على ماء النيل.
نشأ في هذه القرية الصغيرة ذلك الصبي الذي قدر له أن يجري اسمه يوما ما على كل لسان في مصر، والذي صارت حياته فيما بعد فصلا من تاريخ وطنه، والذي تداولت اسمه ألسن الساسة في إنجلترا وفرنسا دهرا طويلا، والذي أجبر الخديو على النزول إليه حيث وقف على رأس الجيش يوم عابدين ليسمعه كلمة الأمة، والذي يحتل جهاده أبرز مكان في كل كتاب تناول ما تعارف المؤرخون على تسميته المسألة المصرية ...
ودرج الصبي القروي بين لداته في هرية رزنة عرضة للأوبئة المختلفة، يحيط به في قريته الجهل والفقر والمرض أينما اتجه، ولا يجد حوله من مظاهر الحياة والعمران مثل ما يجده من ينشأ في مدينة كبيرة أو يتلقى العلم في مدرسة منظمة.
وكان أبوه محمد عرابي شيخ هرية رزنة، أو على الأصح أحد «مشايخها» على حد الاصطلاح الإداري، فكانت تقسم القرى في تلك الأيام أقساما يسمى الواحد منها «حصة»، ويعين على كل حصة شيخ يختار لبروز شخصيته إما بالثراء أو بالقوة أو بالاستنارة بشيء من التعليم أو بها جميعا، ولم تكن وظيفة العمدة على النحو القائم في القرى الآن قد عرفت بعد.
صفحة غير معروفة