وهم الملك أن يتكلم، ولكن فاتنة لم تمهله، وإنما قالت: «هون عليك، فلن أعلن على أحد حربا، بل لن أسوء أحدا منهم، ولكني معلنة إليهم جميعا أني قد أزمعت أن أتخذ لي من بينهم زوجا، وأني مختارة من بينهم من استطاع أن يقهر هذه المدينة بما عنده من عدة وعدد، فستراهم يومئذ وقد جمعوا جموعهم وحشدوا قواهم وأقبلوا يريدون أن يدكوا هذا الملك دكا، منهم من لا يريد إلا النصر الذي يتيح له الظفر بي، ومنهم من يريد أبعد من ذلك وأنأى مراما، يريد التدمير الذي لا تدمير بعده ليخلص من قوة طالما فكر في أن يخلص منها.» قال الملك: «وإنك لفاعلة هذا؟» قالت: «ما أريد أن تفارقني وفي نفسك ظل من خوف علي أو إشفاق مما قد يدبر هؤلاء الملوك لي من كيد.»
ثم أشارت بيدها إشارة خفيفة، فما أسرع ما فتحت الأبواب، وأقبل الوزراء ورجال القصر، فأعلنت إلى أبيها بين أيديهم أنها قد غيرت من رأيها، وعدلت عن سيرتها الأولى، وفكرت في أن تتخذ لنفسها زوجا، ولكنها لا تريد أن يكون زوجها ضعيفا أو متسلطا على دولة ضعيفة؛ إنما تريد أن تقترن بأقوى ملوك الجن قوة، وأشدهم أيدا، وأعظمهم بأسا، وأبعدهم صوتا، وتريد أن تختبر ذلك بنفسها، وأي ملوك الجن استطاع أن يقهر مدينتنا هذه ويدخلها عنوة، فأنا له زوج وملكي لملكه تبع.
وقد اضطربت نفوس الوزراء ورجال القصر لهذا الحديث حين سمعوه؛ فقد رأوا أهوال الحرب تصب على بلادهم صبا، وأشفقوا مما تجره الحرب عليهم وعلى الرعية من مكروه، وهم غير واحد منهم أن يراجع الأميرة فيما قالت، ولكنها أشارت إشارة خفيفة فانعقدت الألسنة وغضت الأبصار، وانحنت الرءوس، وخرج رجال القصر وقد أذعنوا للأمر، وقال وزير الملك: إنه مبلغ تحدي الأميرة لملوك الجن جميعا من فوره، وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.
وعاد شهريار إلى غرفته ناعم البال بما سمع، ولكنه كان مضطرب النفس أشد الاضطراب، فلم يكن شهريار كعهد الناس به حين كانت تقص عليه أحاديث «ألف ليلة وليلة» ثائر النفس، جامح الشهوة، سيئ الظن بالمرأة، مستجيبا لغرائزه حين تدعوه إلى ما تدعوه إليه من الخير والشر، إلا أن يلهى عنها بفنون الحديث، وإنما كان رجلا آخر قد خلقته شهرزاد خلقا جديدا.
كان كثير التفكير متصل التروية، لا يرى شيئا إلا اجتهد في أن يعرف مصدره وغايته، ولا يسمع شيئا إلا جد في أن يفهم ظاهره وتأويله، وكان هذا الجهد العقلي الطارئ عليه يعنيه أول الأمر، ولكنه اتصل حتى أصبح عادة لشهريار، وإذا هو مفكر دائما، مقدر دائما، منفق وقته وجهده في التحليل والتعليل، لا ينصرف عن ذلك إلا حين تشغله شهرزاد بجدها قليلا وبدعابتها كثيرا، وفي الحق أن شهرزاد لم تكن تشغله عن التفكير، وإنما كانت تريحه منه وقتا ما، حتى إذا انصرفت عنه ردته إلى التفكير، وإلى التفكير الذي يزداد شدة وعنفا كلما لقي شهرزاد وانصرف، وقد تركت في نفسه وأمام عقله من الألغاز والأسرار ما يكلفه الجهد المضني دون أن ينفذ إلى أعماقه.
وكان أمر شهريار قد شق على الناس جميعا؛ فوزراؤه ورجال حاشيته قد أنكروا منه هذا الهدوء الذي لا عهد لهم به، وهذه الدقة في القول والعمل جميعا، وهذه الدقة فيما كان يوجه إليهم من حديث، وقلة الرضا بما كانوا يقدمون إليه من رد؛ لأنه كان يريدهم على أن يصطنعوا الدقة كما يصطنعها، ويمعنوا في التفكير كما يمعن فيه.
وإنما كانت شهرزاد وحدها هي التي لم تنكر من الملك شيئا، ولم ينكر منها الملك شيئا. كانت تلقى هدوءه بهدوء مثله وتفكيره بتفكير أشد منه تعمقا، وكانت تسمع أحاديثه الدقيقة فترد عليه بأحاديث أشد منها دقة، حتى استعجمت أحاديثهما أو كادت تستعجم على الذين كانوا يحضرون مجالسهما من أهل القصر ورجال الدولة، وقد شاع بين أولئك وهؤلاء أن طائفا غريبا قد ألم بالقصر فأفسد على هذين العاشقين أمرهما، فهما يقولان ما لا يفهم، ويتناجيان بما لا يدرك، والغريب أن الملكة تفهم عن زوجها كل ما يقول، وأن الملك لا يفهم عنها إلا قليلا! تلك كانت حال شهريار، فليس غريبا إذا أن يعود إلى غرفته بعد أن أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح، هادئا مضطربا معا، تجيش في رأسه خواطر غريبة عن حديث فاتنة هذا الذي استأنفته شهرزاد منذ ليلتين.
وقد كان شهريار فيما مضى يسمع قصص شهرزاد فيفهمه ويرضى عنه ويلهو بظاهره، لا يتكلف له تأويلا ولا تعليلا، ولا يلتمس لألفاظه الواضحة السهلة معاني ملتوية معقدة، ولكنه الآن يسأل عن فاتنة هذه من تكون وما تكون؟ وهل هناك سبب بينها وبين شهرزاد؟ وهل هناك صلة بين قوتها الجامحة الثائرة وبين هذه القوة الهائلة التي تتسلط بها شهرزاد على كل من دنا منها أو نأى عنها؟ وهل هناك صلة بين ازدراء فاتنة لملوك الجن وازدراء شهرزاد لملوك الإنس، فما من شك في أن شهرزاد لا تزدري ملوك الإنس وحدهم، ولكنها تزدري الملوك والرعية جميعا، وما من شك في أن شهرزاد تزدري شهريار نفسه، وإلا لتلقته بنفس مشرقة مسفرة، ولجنبته هذه السيرة الغامضة وهذه الأحاديث الملتوية.
وهنا كان الدم يغلي في عروق شهريار، وتعود إليه غريزته الأولى عنيفة طاغية، فينهض واقفا وقد جاشت في نفسه عواطفه الثائرة، واضطربت في رأسه خواطره الحمراء، ولكنه لا يلبث أن تتمثل له ابتسامة حلوة أهدتها إليه شهرزاد في بعض الحديث، أو دعابة ظريفة ساقتها إليه شهرزاد في ساعة من ساعات اللهو، أو نظرة رحيمة نظرتها إليه شهرزاد في لحظة من لحظات الحنان، وإذا هو يثوب إلى نفسه هادئا وادعا كأنه الطفل، نادما على ما قدم من سوء الظن بهذه التي لا ينبغي أن تساء بها الظنون.
وكذلك أنفق الملك السعيد بقية ليله شقيا محزونا مضطرب النفس مختلط الأمر، لا يستقر في مجلسه إلا لينهض منه ويمضي في غرفته ذاهبا آئبا، وربما أشرف من النافذة فملأ صدره من نسيم الليل بما يحمل من عطر رطب لذيذ، وملأ عينيه من ظلمة الليل بما يضطرب فيها من ضوء ضئيل نحيل، ولكن الشيء المحقق أنه لم يأو إلى سريره ولم يفكر في أن يأوي إليه، إنما قضى بقية ليله سائرا حائرا، وكان خليقا أن يقضيها هادئا راضيا بعد ما سمع من قصص شهرزاد، وقد كان يسأل نفسه عن مصدر هذه الحيرة وعن علة هذا السهاد، وكان يقدر أنه يجد في قصص شهرزاد ما كان في حاجة إليه من نسيان نفسه ونسيان الناس والتجرد من هذا العالم الثقيل عليه البغيض إليه، كما كان ذلك شأنه حين كانت شهرزاد تمتعه بقصصها اليقظان، فأما هذا القصص النائم فإنه لا ينقع له غلة ولا يشفي له صدى، وإنما يزيده ظمأ إلى ظمأ وتحرقا إلى تحرق؛ فهو أشبه شيء بهذه الأشربة الحادة التي يظمأ إليها الراغبون في السكر، يظنون أنها ستبرد أكبادهم وتطفئ ما في أحشائهم من لهب، ولكنهم لا يتجرعون كئوسها حتى تزداد أكبادهم احتراقا ويزداد اللهب في أجوافهم تلظيا واضطراما، فهم يتداوون منها بها؛ كما يقول الأعشى، ويتخذون داءها دواء؛ كما يقول أبو نواس، ولو قد استطاع شهريار أن يجعل ليل شهرزاد كله حلما ينطق بهذا الحديث العذب والقصص الجميل لفعل، ولكن من له بذلك وقد قدرت له أحلام صاحبته تقديرا، وقطرت له أحاديثها تقطيرا؛ فهي تبدأ في موعد موقوت لا تستطيع أن تسبقه، وتنتهي عند أجل محدود لا تستطيع أن تتجاوزه، وقد كان قادرا على أن يستزيد شهرزاد حين كانت تحدثه مستيقظة، وكان قادرا أن يستوضحها إن أشكل عليه بعض الحديث، فأما الآن فهو لا يستطيع أن يستزيدها ولا أن يستوضحها؛ لأنها لا تعرف أنها تقص عليه شيئا، ولا تعقل مما تقص عليه شيئا. بل هو لا يستطيع أن يشير إلى هذه الأحاديث التي تلقيها إليه أحلام شهرزاد، فقد قال له طائفه فيما قال: «احذر أن تنبهها من قريب أو بعيد إلى هذا القصص؛ فإنك إن تفعل لم تزد على أن ترد عنها الأحلام وتحرم نفسك ما بقي لها من هذه اللذة المختلسة.»
صفحة غير معروفة