ثم أوى إلى سريره فاستمتع بنوم لذيذ طويل، لا تروعه فيه الأحلام، ولا تزعجه عنه أحاديث تلك الأرواح الهائمة التي تنطلق في الفضاء، وهي تجمجم ببعض الألفاظ، فيفهم عنها الناس أحيانا ولا يفهمون عنها في أكثر الأحيان، وكان الملك خليقا أن يمضي في نومه هذا الهادئ اللذيذ، لولا أن أحس على جبهته شيئا يشبه ما تعود أن يجد حين يستقبل نسيم الصباح حين تدبر النجوم ويبتسم الليل عن كوكب النهار، فلما أحس هذا الروح أفاق من نومه هادئا موفورا، وفتح عينيه فرأى شهرزاد قائمة إزاءه وقد وضعت يدها الرخصة على جبهته وهي تمد إليه نظرة غامضة أحبها ولم يفهم منها شيئا.
قالت شهرزاد: «أفق أيها الملك السعيد غير مأمور! فقد ارتفع النهار، وأوشكت الشمس أن تزول، وإن وزراءك لينتظرون مقدمك الميمون عليهم. ألم تتأذن فيهم أمس بأنك ستستقبلهم متى أشرقت الأرض بنور ربها!»
قال الملك: «هو ذاك يا أحب الناس إلي وآثرهم عندي، ولكني أرقت منذ الليلة أرقا طويلا، ولم أطعم النوم إلا حين كادت ظلمة الليل أن تنجلي.» قالت شهرزاد: «أرقت يا مولاي؟! وما أرقك؟» قال الملك: «تسألين ما أرقني؟!» ثم سكت لحظة هم في أثنائها أن ينبئ شهرزاد ببعض الأمر، ولكنه ذكر شيئا فرد نفسه إلى رشدها وقال مبتسما: «أرقني الشوق إلى قصصك العذب الجميل.»
وكان الواقع من شهريار أن نفسه لم تسل عن قصص شهرزاد منذ انتهى في الليلة الواحدة بعد الألف، وإنما كانت تتحرق شوقا إليه إذا أقبل ميعاده المعهود من الليل، وتتحرق شوقا إليه إذا أقبل النهار، وكانت تشتغل بما تشتغل به من شئون الملك والقصر، ولكنها كانت تحس دائما كأنها فقدت شيئا، وكأنها لا تستطيع عنه صبرا، وكأن الأمور لن تستقيم لها إلا أن تجد هذا الشيء الذي فقدته، وكان هذا الشعور الغامض يصحب الملك في جميع لحظاته، وحين كان يأتي ما يأتي من الأمر، وحين يدع ما كان يدع منه، وكان الملك من أجل ذلك منغص الحياة دائما، ولكنه كان يجاهد نفسه ويخفي أمره ويتكلف الرضا ويتكلف الابتسام، وربما تكلف الضحك أحيانا، وربما أقبل على اللهو فأسرف على نفسه وعلى حاشيته فيه يريد أن ينسى، ولكنه لا يبلغ من ذلك شيئا، فيمضي في اللهو ليخيل إلى من حوله أنه سعيد موفور.
وقد بلغ الملك من ذلك ما أراد، فخدع حاشيته كلها، خدع أهل دولته جميعا، وخيل إلى الذين يقربون منه أو يبعدون عنه أنه أرضى الناس عن الحياة وأسعدهم بها، إلا اثنين لم يستطع أن يخدعهما ولا أن يغرهما؛ وهما شهريار نفسه، وشهرزاد تلك الساحرة الماهرة الماكرة التي كانت تعلم حق العلم بما يضرب في نفس الملك من قلق وما يملأ قلبه من حزن، فترثي له حينا وتشمت به أحيانا، وتختلس إليه بين وقت ووقت نظرات كأنها السهام فيها كثير من العطف، وفيها كثير من القسوة، وفيها كثير من الإغراء الذي يثير الطمع، وفيها كثير من الإباء الذي يملأ النفس يأسا وقنوطا، ولكنها على ذلك كله لم تبادل الملك بشيء مما كانت تعلم، وإنما عاشت معه حفية به متلطفة له غامضة مع ذلك أشد الغموض.
فلما كان من تلك الليلة أقبل الملك على غرفته، كئيب النفس، مريض القلب، قد امتلأ رأسه بخواطر أقل ما توصف به أنها كانت قاتمة شديدة القتمة، ولكنها كانت ربما احمرت لحظة قصيرة ثم عادت إلى ظلمتها المظلمة وسوادها المشتق من سواد الليل، فقد كان الملك يائسا أشد اليأس من شهرزاد، قد عجز عن فهمها، وكان ضيقا أشد الضيق بشهرزاد، قد كل عن احتمال عشرتها، فكان عليها ساخطا أشد السخط، وكان لها محبا أشد الحب، وكان يهم أحيانا بأن يتقاضاها شيئا من الوضوح والجلاء في سيرتها وفي لفظها ولحظها، ويهم أحيانا أخرى أن يتقدم إليها في أن تستأنف ذلك القصص الذي لا يستطيع عنه صبرا، ولكنه كان واثقا بأنه يستطيع أن يتقاضاها ما شاء فلن يظفر منها إلا بما تشاء هي، ولن تشاء هي إلا هذا الغموض الذي أصبح لا يطيق له احتمالا.
هنالك كانت خواطر نفسه تصطبغ بحمرة الدم، فقد كان يرى نفسه مقبلا على شهرزاد يضمها إليه ضما شديدا عنيفا، ويهدي إليها قبلات محرقة ملتهبة، حتى إذا بلغ به الحب والهيام أقصاه أغمد خنجره هذا الدقيق في صدرها هذا الناصع الجميل، وتلقى ما يفيض به هذا الينبوع من دمها الحار، فلعله أن يشفي ما كان يجد من هذا الظمأ الذي لا شفاء له. على أنه كان لا يكاد يلم بهذا الخاطر الأحمر، أو كان هذا الخاطر الأحمر لا يكاد يلم به، حتى تأخذه رعدة عنيفة؛ فقد كان ضيقا بشهرزاد أشد الضيق، ولكنه كان يجد سعادته في هذا الضيق، ولذته في هذا الألم، وراحة نفسه في تعبها من هذا الغموض، ومن يدري! لعله لو انجلت له نفس شهرزاد وألغيت بينه وبينها الحجب، فرآها واضحة ناصعة كأنها فلق الصبح، لامتلأت نفسه حزنا وحسرة؛ فإن العشاق لا يكرهون شيئا كما يكرهون الراحة المطردة، ولا يضيقون بشيء كما يضيقون بهذا الوضوح الجلي، هم في حاجة دائما إلى أن يشكوا، فهم في حاجة دائما إلى أن يجدوا مصدرا للشكوى، هم كطلاب المثل العليا، لا يقربون منها إلا لتبعد عنهم، ولو قد بلغوها وانتهوا منها إلى ما يرضيهم لكانوا أشقى الناس بذلك وأشدهم عليه سخطا؛ فسعادتهم في الطموح المستمر والجهاد المتصل، لا في بلوغ الغاية والانتهاء إلى الأمد.
بهذا كله وبأكثر من هذا كله كانت نفس شهريار تضطرب حين أوى إلى سريره من تلك الليلة، وقد أرقته هذه الخواطر شيئا، ولكن النوم لم يلبث أن أسرع إليه واشتمل عليه، ثم سمع فيما يسمع النائمون حين يلم بهم طائف الحلم كأن قائلا يقول له: «إنك لضعيف مغرور، تعني نفسك في غير عناء، وتشق عليها في غير مصدر للمشقة. أنت مشوق إلى قصص شهرزاد لا تستطيع عنه صبرا، فهل علمت أنها هي أيضا مشوقة إلى هذا القصص لا تستطيع عنه إعراضا؟ أنت ضيق بغموض شهرزاد لا تستطيع له احتمالا، فهل علمت أنها هي أيضا ضيقة بوضوحك لا تستطيع له استقبالا؟ أنت تريد أن تلهو عن غموض شهرزاد بما تقص عليك من حديث، وهي أيضا تريد أن تلهو عن وضوحك بما تقص عليك من أخبار. أنت ترى فيها المرأة الماكرة التي لا تؤتمن والتي لا تحتمل عشرتها إلا أن يستعان عليها بما يلهي عنها، وهي ترى فيك الرجل القاتل الغادر الذي يلتمس لذته حتى إذا ظفر بها ألغى مصدرها إلغاء، فلا سبيل إلى اتقاء شره إلا بتلهيته والتلهي عنه. أنت مشوق إلى أن تسمع منها وإلا قتلتها، وهي مشوقة إلى أن تتحدث إليك وإلا قتلتك، وقد انتهت أحاديثها إليك في اليقظة، ولتبدأن أحاديثها إليك في النوم، وستجد أنت لذة في هذه الأحاديث، وستجد هي راحة في هذه الأحلام. أفق إذا من نومك واذهب إلى غرفتها متلطفا مترفقا، فإذا بلغتها فاجلس من سريرها غير بعيد وانتظر، فستسمع منها ما يرضيك.»
وقد خيل إلى شهريار أن طائفه ذاك قد ألقى إليه حديثه هذا الطويل في وقت يعد له طولا كما تعود الناس أن يتحدث بعضهم إلى بعض، ولكنه لو اطلع لرأى أن طائفه ذاك لم يلم به إلا لحظة قصيرة جدا ألقى إليه حديثه فيها جملة، وآية ذلك أنه أفاق فأنكر هذا الطائف مرة ومرة. ولكنه كان كلما عاد إلى النوم وعاد النوم إليه، سمع هذا الحديث كله من طائفه فأفاق منكرا لما سمع. يرى أنه لم ينم وإنما أغفى إغفاءة قصيرة أقصر من أن تطول لهذا الحديث، فلما ألح عليه الطائف بحديثه لم ير إلا أن يجرب الأمر ويعبر الرؤيا ويختبر صدق هذا الحلم، فسعى إلى غرفة شهرزاد فرأى فيها ما رأى وسمع فيها ما سمع، وأمر أحراسه وأحراس الملكة بما أمر، ثم أسلم نفسه إلى النوم واطمأن إلى صدره الوثير حتى استلته منه شهرزاد بيدها الرخصة الناعمة وصوتها العذب الجميل، ووجهها المشرق الوضاء، ونظرتها تلك الغامضة أشد الغموض.
ومع ذلك فقد أنفق شهريار نهاره هادئا مطمئن النفس رضي البال متصرفا في أموره، كما تعود أن يفعل قبل أن يعتريه هذا القلق، لا يحس خوفا ولا إشفاقا، ولا يشعر أنه فقد شيئا ولا يجد في التماس هذا الشيء، ولا يضيق بعشرة شهرزاد، ولا يكره ما كان يحس فيها من هذه الكبرياء البغيضة التي هي مزاج من الرثاء له والقسوة عليه.
صفحة غير معروفة