إنني لم أقابل أوما - وهي أختي غير الشقيقة - من قبل على الإطلاق؛ فقد كنا نتراسل من حين لآخر فقط. وقد علمت أنها غادرت كينيا لتدرس في ألمانيا، وفي خطاباتنا ذكرنا احتمالية ذهابي لزيارتها أو حضورها هي إلى الولايات المتحدة لتزورني. لكن هذه الخطط كانت تترك دائما هكذا دون تحديد وقت لتنفيذها، ولأن كلينا لم يكن يملك المال كنا نقول إننا قد نتقابل في العام المقبل. واحتفظت مراسلاتنا بعلاقات ود متحفظة.
والآن فجأة سمعت صوتها لأول مرة. كان رقيقا وبدا أنه لامرأة سوداء اصطبغت لهجتها بنبرة استعمارية. ولبضع لحظات لم أستطع فهم ما تقوله، فلم أكن أسمع إلا صوتا بدا لي مألوفا للغاية، كنت قد فقدته لكنني لم أنسه. ذكرت لي في هذه المكالمة أنها ستحضر إلى أمريكا في رحلة مع بعض الأصدقاء، وسألتني: «هل يمكنني زيارتك في نيويورك؟»
ودون تردد قلت لها: «بالطبع.» وتابعت: «كما أنك ستقيمين معي؛ إنني متلهف لرؤيتك.» ضحكت عندما قلت لها ذلك وأنا أيضا ضحكت، وبعد ذلك ساد الصمت بيننا ولم نعد نسمع إلا صوت أنفاسنا وصوت التشويش على الإرسال التليفوني. وقالت لي: «حسنا، لا أستطيع أن أتحدث طويلا لأن المكالمات تكلفني الكثير. وها هي ذي بيانات رحلتي الجوية»؛ لذا أغلقنا الخط سريعا بعد ذلك كما لو كنا سندفع تكلفة هذا الاتصال مناصفة بيني وبينها.
قضيت الأسابيع القليلة التالية وأنا أستعد بسرعة بالغة لحضور أوما، حيث اشتريت ملاءات جديدة للأريكة التي ستنام عليها، وأطباقا ومناشف إضافية، إلى جانب فرشاة تنظيف لحوض الاستحمام. لكن قبل موعد حضورها المقرر بيومين، اتصلت مرة أخرى وكان صوتها غير واضح أكثر من المرة السابقة، ولم أسمع منها إلا همسا.
قالت لي في هذه المكالمة: «لن أستطيع الحضور.» وتابعت: «أحد إخوتنا، ديفيد ... قتل في حادث دراجة بخارية. إنني لا أعرف أكثر من ذلك.» وبدأت تبكي. قالت: «أوه، باراك. لماذا يحدث لنا كل هذا؟»
حاولت أن أهدئ من روعها قدر استطاعتي. وسألتها عما يمكن أن أفعله لأجلها. كما أخبرتها أننا دون شك ستتاح لنا الفرصة لنلتقي. وأخيرا هدأ صوتها، وقالت إنها يجب أن تذهب الآن لتحجز تذكرة الطيران للعودة إلى بلدها. «حسنا باراك . أراك من جديد. صحبتك السلامة.»
بعد أن أغلقت الخط أخبرت السكرتيرة أنني سأقضي بقية اليوم خارج المكتب ثم خرجت. وأخذت أتجول ساعات في شوارع مانهاتن، وصوت أوما يتردد في ذهني مرارا وتكرارا. ففي قارة أخرى هناك امرأة تصرخ. فقد سقط في طريق مظلم ومغطى بالتراب طفل صغير بعد أن انزلقت دراجته البخارية وفشل في السيطرة عليها ليسقط مرتطما بالأرض الصلبة، وأخذت العجلات تدور حتى أصابها الصمت. سألت نفسي من هؤلاء الغرباء الذين تجري في عروقهم نفس الدماء التي تجري في عروقي؟ وما الذي يمكن أن يشفي هذه السيدة من حزنها؟ وأي أحلام مثيرة وغير معلنة كانت تراود هذا الولد المسكين؟
من أنا، وكيف لا أذرف دمعة واحدة على فقدان أخي؟ •••
لا أزال أتساءل في بعض الأحيان كيف تغيرت حياتي بعد أول مكالمة هاتفية لي مع أوما. وفي الواقع لم تكن المكالمة ذاتها هي التي غيرتني بصفة أساسية (هذا الاتصال الذي شعرت في البداية أنه غيرني وتغيرت في النهاية بسببه) أو خبر وفاة ديفيد (فمن الصحيح أنني لم أكن أعرفه وهذا كاف)، إن ما غيرني بالفعل هو وقت اتصالها، والتسلسل العجيب للأحداث، والتوقعات التي يملؤها الأمل، ثم انهيار الآمال وتحطمها، وهي أمور جميعها حدثت في وقت كانت فيه فكرة أن أكون منظما مجرد فكرة في مخيلتي وصراع غامض في قلبي.
ربما لم يكن لكل ما سبق أدنى تأثير. وربما كنت قد التزمت بالفعل آنذاك بالعمل التنظيمي، وساعدني صوت أوما فقط في أن أتذكر أنني لا أزال أعاني جروحا لم تلتئم بعد وأنني لم أستطع مداواتها بنفسي. وإن لم يكن ديفيد قد مات، وأتت أوما إلى نيويورك كما اتفقنا في البداية، وعرفت منها حينئذ عن كينيا وعن والدنا ما عرفته بعد ذلك، ربما خفت بعض الضغوط التي تراكمت بداخلي لتقدم لي فكرة مختلفة عن المجتمع، وتسمح لطموحاتي أن تسير في طريق أكثر خصوصية وضيقا، حتى ينتهي بي الأمر متقبلا نصيحة صديقي آيك ، ومكرسا نفسي للسندات والأسهم والرغبة في اكتساب احترام الآخرين.
صفحة غير معروفة