ولم تكن «راديوم» - والحق يقال - تشذ عن بني جنسها في سوء العاطفة الغرامية؛ فإنهم كانوا جميعا جامدين باردين، ينظرون بعقولهم أكثر مما كانوا يحسون بعواطفهم، ولا أذكر أني رأيت أحدا منهم يغضب إلى الاحتداد أو يفرح إلى الطرب؛ فأقصى غضبهم امتعاض، وأقصى فرحهم ابتسام أو ضحك لطيف، ولم يكن الزواج لديهم قائما على اعتبارات العشق، بل على اعتبارات المعيشة والغاية والنسل، فإذا سمع أحدهم عن فتاة تبحث أبحاثه وتدرس ما يدرسه تخابرا، وينتهي تخابرهما إلى ألفة؛ بحيث يعيشان معا في مسكن واحد، ولكنهما مع ذلك لا يجوز لهما النسل إلا بعد شهادة من الحكومة بأنهما جديران بالنسل.
وكان النسل أخطر ما تعنى له حكومة «خيمي»، والحق أنني عندما أتأمل في أحوالهم أجد أنها كلها تدور حول العناية بالنسل، فقد استقر في هؤلاء الناس أن الإنسان كان في الزمن البعيد يشبه القرد، وأنه بالعناية والانتخاب يمكن أن يرقى إلى أن يكون حيوانا راقيا جدا من حيث العواطف والعقل، ومما ساعدهم وشجعهم على هذا النظر أن الأشرطة السينماتوفرافية التي حفظت لهم تاريخ ألف ومائتي عام قد وقفتهم على أحوال آبائهم ودرجة رقيهم المنحطة، وكيف تدرجوا في الرقي إلى أن وصلوا إلى حالتهم؛ فلم يكن فيهم من يستطيع التنطع بمجد الآباء؛ لأن هذا المجد كان يرى على لوحة السينماتوغراف فترى عندئذ الوجوه الدميمة والغبار المتطاير والشوارع القذرة والرءوس الصغيرة، وأذكر أني تصببت عرقا من الخجل عندما رأيت شريطا خاصا بأحد الموالد، كانت إحدى الشركات قد أخذت صوره سنة 1924 من القاهرة، وتعجبت! كيف كنا نعيش في ذلك الوسط القذر؟
وكان عندما يولد غلام جديد تحضر للمنزل لجنة من العلماء، فتفحص جسمه، فإن ألفته يليق للحياة، وإلا قتلته في المكان، ولم يكن الأبوان يغضبان من ذلك، وكنت أسمع منهم أن أكبر ما يقتل لأجله الأطفال هو «الردة» أي: أنهم يرتدون إلى أصلهم فيخرجون برءوس صغيرة.
وقد تحادثت مع «راديوم» كثيرا عن هذا الموضوع، فوجدتها لا تستفظع قتل الأطفال، وأجابتني بلهجة باردة جدا بأنهم لا يحسون بالموت أكثر من أي حيوان آخر، وأن مصلحة الأمة والأجيال القادمة تقتضي ذلك، أما طريقتهم في التربية فكانت في نظري أفضل ما عندهم، فقد كان الطفل يبقى مع أبويه نحو ست سنوات، ثم يؤخذ بعدها إلى المدارس حيث يعلم تعليما عمليا لذيذا، فكانت الجغرافيا والتاريخ، وأيضا التاريخ الطبيعي، تعلم بالسينماتوغراف، فكان الصبي الذي لم يتجاوز العاشرة يعرف هذه الأشياء من المعارف الصحيحة أكثر مما يعرفه طالب قد بلغ الثلاثين في مدارسنا القديمة. وكانت المدرسة عبارة عن ورشة ومكتبة يتنقل بينهما الطالب، وكان يمتحن امتحانين: أحدهما امتحان حضارة خاص بنظام الحكومة وتركيب الآلات المختلفة والزراعة والكيمياء ونحو ذلك مما تقوم به الحضارة، والآخر امتحان ثقافة حيث يدرس تاريخ الأمم والإنسان القديم والفلسفات المختلفة التي نبتت من أذهان الناس من العصور البعيدة والأديان والآداب ونحو ذلك. وكان الطالب لا يترك المدرسة عادة قبل الأربعين، ولم تكن هذه المدة طويلة إذا اعتبرت أن أهل خيمي كانوا يعمرون إلى نحو مائة وخمسين سنة، وكانت السياحات البعيدة إلى ثلوج القطب الجنوبي، أو إلى بوادي الصحراء، أو إلى الجبال الشامخة - من ضروب التربية التي يترباها الشاب، فكان الشاب لا يخرج من المدرسة إلا وقد رأى العالم كله تقريبا.
أما نظام الأعمال والتكسب، فإنه يشبه ما كنا نسمع عنه من الداعين للاشتراكية في زماننا، فقد كانت خيمي مقسمة إلى ضياع بها دساكر، يتبع كل دسكرة نحو ألف فدان، وبها مصنع، وكانت الزراعة كما نفهمها الآن قليلة؛ لأنه لم يكن يحرث من هذه الألف سوى نحو خمسين أو ستين فدانا لزراعة النباتات الغريبة السنوية، أما سائر الأرض فكانت مغطاة بالأشجار المعمرة، يؤخذ منها الطعام واللباس والوقود. ولم يكن الري من النيل كما كان في عهدنا؛ لأن هذا النهر كان قد جف تقريبا؛ لأن أهل خيمي صاروا يزمون السحاب بأزمة علمهم، يرتفعون فوقه بالطيارات ويطلقون عليه من المواد الكيميائية ما يجعله يتكاثف ويقع مطرا في أي جهة أرادوا وفي أي وقت شاءوا، أما مصانع الدسكرة فكانت تصنع كل شيء تقريبا بحيث إن كل دسكرة كانت مستقلة في معاشها عن الأخرى، إلا في أشياء قليلة تبادلها وغيرها، وكان أهل النقابة أشبه شيء بشركة تعاون، ولم يكن يحتاج أحدهم إلى العمل لمعايشه أكثر من ساعة في اليوم، وسائر نهاره وليله يقضيه في المتع الذهنية المختلفة وفي متابعة أبحاثه العلمية؛ إذ قلما كان يخلو فرد من أبحاث علمية يملأ بها فراغة سواء في ذلك الرجال أو النساء.
وكانت حكومة «خيمي» مؤلفة من خمس هيئات: الهيئة التشريعية، والهيئة القضائية، والهيئة الصحافية، والهيئة الدينية، ثم أخيرا الهيئة التنفيذية، فأما الهيئة التشريعية فلم تكن منتدبة من أفراد ينتخبونها كما كنا نعهد في زماننا، بل كانت تنتخبها النقابات المختلفة، فلنقابة الأطباء مثلا 10 أعضاء ولنقابة البيولوجيين، أي: علماء الحياة 10 آخرون، ولنقابة علماء الزراعة 10، ولنقابة التجاريين 10 وهلم جرا ... حتى يتألف من ذلك مجلس به نحو 500 عضو؛ هو السلطة العليا للتشريع.
وأما الهيئة القضائية فكانت أقل الهيئات ظهورا في الأمة، لقلة عدد المتقاضين، وكان القضاة ينتخبون عادة من طبقة رجال العمران والبيولوجية للفصل في من يجب قتله من الناس أو منعه من التناسل، ولم يكن ثم عقاب آخر.
أما الهيئة الصحافية فكانت مؤلفة في الحقيقة من عدة هيئات. فإحداها مثلا تشتغل بإصدار صحيفة يومية، إما لاسلكية وإما مطبوعة عن الكيمياء، وأخرى تصدر صحيفة أخرى عن الأدب، وأخرى عن الطب، وهلم جرا، وكانت الجامعات من الهيئات الخاصة بإصدار الصحف، ولم يكن نظام الجامعات عندهم يختلف عما كان عندنا.
أما الهيئات الدينية فكانت مؤلفة من نقابة عامة من الفلاسفة، ولم يكن يقبل فيها أحد دون السبعين، وكان رأيها هو الأعلى في تقرير ما يؤثر في ذوق الأمة ومزاجها وقصدها؛ فكانت تعين طريقة تدريس التاريخ وتقرر بناء التماثيل لبعض مشاهير التاريخ أو هدمها، وتقيم التماثيل الخاصة بالجمال أو بالكفايات الإنسانية الأخرى في الميادين.
وكذلك الحال في الموسيقى والتصوير والرقص، تأمر وتنهى فيها كلها؛ لأن أهل «خيمي» يعتقدون أن ديانة الإنسان أحرى بأن تتكون من هذه الأشياء، من أن تتكون من العقائد المحفوظة عن ظهر قلب كما كنا نفعل في أيامنا، ولأهل «خيمي» معابد يتعبدون فيها على انفراد، وعلى عكس ما كنا نفعل. والمعبد عبارة عن بناء مستطيل كبير، على كل جدار من جدرانه الأربعة صور تمثل بزوغ الحي الأول وتطوره إلى الإنسان، ثم ما تخيله هؤلاء الفلاسفة وتنبئوا به عن مستقبل الإنسان في صور أخرى تمثله ضخم الرأس كبير العينين شريف الطلعة دقيق الأطراف والأنامل، وفي جدار آخر صور أخرى تمثل ارتقاء الصناعة من عهد الإنسان الحجري إلى زمن أهل «خيمي» وفي جدران أخرى صورة عجيبة لمركز الأرض في هذا الكون ونسبته إليه وفوق الأرض إنسان يتأمل مركزه في هذا الفضاء الواسع. وفي الجدار الرابع صور الفلاسفة والأنبياء العظام، وعلى شفتي كل منهم كلمة بارعة أثرت عنه وصار لها أثر في التاريخ، والخيمي إنما يذهب إلى المعبد ليتبين قصده في الحياة، إذا أحس بسأم أو ضلال، فيقعد هناك منفردا يحاول أن يتصل بالكون وأن يعرف مركزه ومهمته فيه، فيرتاح قلبه ويهدأ ضميره، وإذا استمر به السأم قصد إلى أحد رجال الهيئة الدينية فيدرسه ويعنى به، ويفتح له أبوابا ينشط بها نفسه.
صفحة غير معروفة