الأحكام الشرعية الصغرى «الصحيحة»
تأليف
الإمام الحافظ أبي محمد عبد الحق الإشبيلي المتوفى سنة ٥٨١ هـ
أشرف عليه وراجعه وقدم له
خالد بن علي بن محمد العنبري
تحقيق
أم محمد بنت أحمد الهليس
مكتبة ابن تيمية - مكتبة العلم
صفحة غير معروفة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
الأحكام الشرعية الصغرى «الصحيحة»
1 / 3
حقوق الطبع محفوظة
الطعبة الأولى
١٤١٣ هـ - ١٩٩٣ م
مطابع ابن تيميية بالقاهرة
هاتف: ٨٦٢٧٩٢ - ٨٦٤٢٤٠
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذا كتابٌ سارتْ به الرُّكبان في سالف الزمان، وتعلقت به أنفس العلماء، فانكبوا عليه مطالعة وحفظًا ودرسًا، فقنعوا به ولم يبتغوا سواه، وذلك لجودة تصنيفه، وبراعة تأليفه، وجودة اختياره، وصحة أحاديثه وحسنها، وجمال سياقها، وقوة أسانيدها.
فلا غرابة -بعد ذلك- أن ينتظره على شوق الباحثون، كيف لا، وتِيك الكثرة الكاثرة من النقولات، والتي تسطّر في كثير من الأحايين على سبيل الرضا والتسليم، في الإحتجاج، تقابلهم -كالدُّر المنثور- في كتب التخرج والأحكام، ككتاب "نصب الراية" للزيعلي، و"التلخيص الحبير" لابن حجر العسقلاني، وغيرهما، عندما يقرأون مثلًا هذه الكلمة المتداولة: "صححه عبد الحق".
ومن أجل قيمة الكتاب العلمية أوصى شيخ المحدثين العلّامة الألباني بتحقيق الكتاب ونشره، وسعِد عندما أنبأته بخبر العمل فيه، عندما أمتعنا الله بالحج في صحبته سنة عشر وأربع مئة وألف.
والحق أن الكتاب قد بلغ الغاية في النفع والفائدة، ودلَّ من مصنفه (الحافظ عبد الحق) على سعة علم واطلاع، ودقة فهم، وشدة ذكاء، فلا عجب أن يذيع الكتاب وينتشر، ويتلقى بالقبول والثناء.
1 / 5
موضوع الكتاب
المتبادر إلى الذهن عند قراءة عنوان كتاب عبد الحق أنه اقتصر على ذكر أحاديث الأحكام الشرعية، وما يلبث أن يذهب هذا الظن عند قراءة خطبة كتابه، إذ يقول عبد الحق مبينًا ما جمعه، مرغبًا في حفظه، والعمل بما فيه:
"أما بعد، وفقنا الله أجمعين لطاعته، وأمدنا بمعونته، وتوفانا على شريعته، فإني جمعت في هذا الكتاب مفترقًا من حديث رسول الله ﷺ في لوازم الشرع، وأحكامه وحلاله وحرامه، وفي ضروب من الترغيب والترهيب، وذكر الثواب والعقاب، إلى غير ذلك مما تُميز حافظها، وتُسعد العامل بها، وتخيرتها صحيحة الِإسناد معروفة عند النُّقَّاد، قد نقلها الإثبات، وتداولها الثقات ... ".
ظاهر حكاية عبد الحقّ عن موضوع كتابه أنه يختلف قليلًا عن تلك الكتب التي تعني نجمع أحاديث الأحكام والحلال والحرام، وانتقائها دون غيرها، وترتيبها على الأبواب الفقهية، والتي منها على سبيل المثال:
"عُمدة الأحكام عن سيد الآنام" للحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة (٦٠٠) هـ، اقتصر فيه على ما اتفق عليه الشيخان من أحاديث الأحكام.
"منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار" لأبي البركات مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن تيمية الحراني المتوفى سنة (٦٥٢) هـ، انتقى أحاديثه من الكتب الستة ومسند الِإمام أحمد في الأعم الأغلب، وهو من أوسع الكتب في هذا الباب، وشرحه الشوكاني في كتابه "نيل الأوطار".
"الِإلمام بأحاديث الأحكام" للحافظ تقي الدين دقيق العيد المتوفى سنة (٧٠٢) هـ، وهو مختصر إلا أنه اشترط فيه الصحة، وقد شرحه غير واحد.
"بلوغ المرام من أدلة الأحكام" الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة
1 / 6
(٨٥٢) هـ جمع فيه مختصرًا يشتمل على أصول الأدلة الحديثية، للأحكام الشرعية، من الكتب الستة ومسند أحمد وغيرها كصحيح ابن خزيمة وسنن البيهقي والدارقطني، وهو جيد في بابه، إذ تكلّم على الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا على وجه الدقة والإِيجاز، ومن شروحه النافعة "سبل السلام" لمحمد ابن إسماعيل الصنعاني المتوفى سنة (١١٨٢) هـ.
غير أن كتاب أيى محمد ينفرد عن هذه الكتب -أو عن بعضها- ببعض الميزات كانت سببًا في اشتهاره في سالف الزمان، وحِمْلًا تسير به الركبان، منها:
١ - سهولة حفظه، وقرب تناوله، إذ جعله مختصر الإِسناد، مقتصرًا في تخرج الحديث على مصدر واحد.
٢ - جودة تصنيفه، وبراعة تأليفه، وحسن عرضه للأحاديث.
٣ - دقة اختياره للأحاديث، وانتقائه لرواياته، وتتبعه لزياداته، فقد كان يختار من روايات الحديت، أحسنها مساقًا، وأبينها مقصودًا، مع قوة الرجال، وعلو الإِسناد.
٤ - حكمه على عامة الأحاديث، والكلام على رواتها جرحًا وتعديلًا.
٥ - عدم اكتفائه بأحاديث الأحكام والحلال والحرام.
٦ - شموله لأدلة المذاهب جميعها، وعدم اقتصاره على أدلة مذهب بعينه.
٧ - كل هذا مع التجرد والإِنصاف، ولزوم العدل وعدم الإِجحاف.
وليس معنى أن كتاب عبد الحق لم يقتصر على أحاديث الأحكام، شموله لكل أبواب السُّنة وإحاطته بها، مثل كتير من الجوامع والمصنفات، المتضمنة من الحديث جميع الأنواع المحتاج إليها من العقائد والأحكام والرقائق والآداب والسير والمناقب وغير ذلك كان وجدنا إشارات إلى ذلك.
شروطه في اختيار الأحاديث
الباحث في كتاب عبد الحق يرى واضحًا اهتمامًا كبيرًا، باختيار
1 / 7
الأحاديث، وانتقاء الروايات، ويستطع أن يخرج بأسس اعتمدها في اختياره، وشروطا ارتكز عليها في انتقائه، وإن كان أشار إليها في المقدمة كما سيأتي:
هذه الشروط هى:
١ - حسن السياق وتمامه:
يُعنى عبد الحق عناية فائقة بحسن سياق ألفاظ أحاديثه، وكمالها وبيانها لما تدل عليه من أحكام، فيختار أحسن روايات الحديث مساقًا، وأتمها كلامًا، وأبينها للمقصود، والأمثلة على هذا من الكثرة بمكان:
١ - فهو يختار من روايات الحديث المتفق عليه رواية مسلم في الأعم الغالب، لأن مسلمًا ﵀ كان يتحرز في الألفاظ، ويتحرى في السياف، ويسوف المتون تامة محررة، لأن مسلمًا صنف كتابه في بلده بحضوره أصوله، في حياته كثير من مشايخه، بخلاف البخاري فإنه صنف كتابه في طول رحلته، فروي عنه أنه قال:
"رب حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام، ورب حديث سمعته بالشام كتبته في مصر" (١).
فكان لأجل هذا ربما كتب الحديث من حفظه فلا يسوق ألفاظه برمتها، بل يتصرف فيه، ويسوقه بمعناه (٢).
والحق أن هذا صنيع كثير ممن صنف في الأحكام بحذف الأسانيد من المغاربة، فإنهم يعتمدون على كتاب مسلم في نقل المتون (٢). دون البخاري، من أجل هذا السبب، وسبب آخر هو: أن مسلمًا يسوق أحاديث الباب كلها سردًا عاطفًا بعضها على بعض في موضع واحد، ولو كان المتن مشتملا على عدة أحكام، فإنه يذكره في أمس المواضع وأكثرها دخلًا فيه، فيسهل
_________
(١) تاريخ بغداد: (٢/ ١١).
(٢) النكت على كتاب ابن الصلاح: (١/ ٢٨٣)
1 / 8
ذلك على الباحث، بخلاف البخاري فإنه استنبط فقه كتابه من أحاديثه فاحتاج أن يقطع المتن الواحد إذا اشتمل على عدة أحكام، ليورد كل قطعة منه في الباب الذي يستدل به على ذلك الحكم الذي استنبطه منه، ولو ساقه في المواضع كلها برمته لطال الكتاب (١).
ومن أجل هذا فضل طائفة من المغاربة صحيح مسلم على صحيح البخاري، وليس هذا التفضيل راجعًا إلى الأصحية، بل إلى ما تقدم ذكره.
يقول أبو محمد القاسم بن يوسف التجيبي في برنامجه (٢): "وقد فضل طائفة من أهل المغرب صحيح مسلم على صحيح البخاري، منهم أبو محمد بن حزم الحافظ لأنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسرودًا غير ممزوج بمثل ما في كتاب البخاري في تراجم أبوابه من الأشياء التي لم يسندها أهل الوصف المشروط في الصحيح وأيضا فإن مسلمًا قد اختص بجمع طرق الحديث في مكان واحد، وبالله التوفيق".
وأما ما قاله الحافظ أبو علي النيسابوري أستاذ الحاكم أبي عبد الله الحافظ: "ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج" ففي هذا الِإطلاق نظر، ردَّه غير واحد (٣)
٢ - على أن البخاري ومسلمًا إذا اتفقا على لفظ حديث، فإن عبد الحق حينئذ يكتفي بعزو الحديث إلى البخاري، مثال ذلك:
حديث أبي قتادة "أن رسول الله ﷺ مُرَّ عليه بجنازة، فقال مستريح ومستراح منه" (٤).
_________
(١) المصدر السابق: (١/ ٢٨٣).
(٢) انظر: (ص:٩٣).
(٣) انظر: هدي السارى: (ص ١٢ وما بعدها) والنكت: (١/ ٢٨٤).
(٤) البخاري: (١١/ ٣٦٩) (٨١) كتاب الرقائق (٤٢) باب سكرات الموت- رقم (٦٥١٢)، ومسلم: (٢/ ٦٥٦) (١١) كتاب الجنائز (٢١) باب ما جاء في مستَريحَ ومستراح منه - رقم (٦١) (٩٥).
1 / 9
فهذا الحديث اتفق على إخراجه الشيخان، وعزاه عبد الحق للبخاري وحده.
٣ - ومن باب أولى أن يعزو الحديث إلى البخاري دون مسلم إذا كان الحديث عند البخاري أتمّ مساقًا، أو أكمل بيانًا، أو فيه زيادة،. مثال ذلك: حديث عقبة بن عامر "صلى رسول الله ﷺ على قتلى أُحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات".
فكلمة "بعد ثماني سنين". ليست عند مسلم.
٤ - أخرج أحاديث من كتاب، وتركها في كتاب أشهر من الكتاب الذي أخرجها منه، ونبه -أحيانًا- على كونها في ذلك الكتاب الأشهر، وإنما صنع ذلك- كما يقول هو في المقدمة- "لزيادة في حديث أو لبيانه، أو لكماله وحسن سياقه، أو لقوَّة سند في ذلك الحديث على غيره".
مثال ذلك مما جاء في أول باب "ما جاء في النجو والبول والدم ... ": الطحاوي، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ، قال: "لا تدافعوا الأخبثين: الغائط والبول في الصلاة" خرَّجه مسلم بن الحجاج (١). ولم يفسر الأخبثين ..
ونأخذ هنا على عبد الحق أنه أوهم أن مسلمًا أخرج الحديث من مسند أبي هريرة، وليس كذلك عنده، وإنما هو من مسند عائشة، ﵂. وذكر من طريق الترمذي (٢)، عن عثمان بن عفان، قال: قال رسول الله ﷺ: "من شهد العشاء في جماعة كان له كقيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة" ثم قال: خرَّجه مسلم (٣) وهذا أليق. اهـ.
_________
(١) مسلم: (١/ ٣٩٣) (٥) كتاب المساجد (١٦) باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام، رقم (٥٦٠). من حديث عائشة.
(٢) الترمذى: (١/ ٤٣٣) (٢) أبواب الصلاة (١٦٥) باب ما جاء فى فضل العشاء والفجر فى جماعة، رقم (٢٢١).
(٣) مسلم: (١/ ٤٥٤) (٥) كتاب المساجد (٤٦) باب فضل صلاة العشاء والصبح جماعة، رقم (٦٥٦).
1 / 10
ولفظ الحديث في مسلم: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كلّه".
٥ - ما قاله عبد الحق في مقدمة الأحكام الوسطى "وقد يكون حديثًا بإسناد
صحيح، وله إسناد آخر أنزل منه في الصحة، لكن يكون لفظ الإِسناد النازل أحسن مساقًا، أو أبين، فآخذه لما فيه من البيان، وحسن المساق، إذ المعنى واحد، إذ هو صحيح صت أجل الإِسناد الآخر".
وقد يصلح مثلًا على هذا ما ذكره عبد الحق من طريق أبي داود (١)، عن أبي سعيد الخدري "أن النبى ﷺ كان يحب العراجين، ولا يزال في يده منها، فدخل المسجد فرأى نخامة في قبلة المسجد، فحكها، ثم أقبل على الناس مغْضبًا، فقال: "أيسُرُّ أحدكم أن يُبصق في وجهه؟! إن أحدكم إذا استقبل القبلة فإنما يستقبل ربه ﷿ والملك عن يمينه، فلا يتفل عن يمينه، ولا في قبلته، وليبصق عن يساره أو تحت قدمه، فإن عجل به أمر فليقل هكذا" ووصف ابن عجلان ذلك "أن يتفل في ثوبه، ثم يرد بعضه على بعض".
ثم قال خرجه مسلم والبخاري إلا ذكر العرجون. اهـ.
ولفظ الحديث في صحيح البخاري (٢): "أن النبي ﷺ أبصر نخامة في قبلة المسجد فحكها بحصاة، في ضى أن يبزق الرجلُ بين يديه أو عن يمينه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه اليسرى". ونحوه لفظ مسلم (٣). أخرجاه من طريق سفيان، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، عن أي سعيد، وأخرجه أبو داود من طريق خالد بن الحارث، عن محمد ابن عجلان، عن عياض بن عبد الله، عن أبي سعيد، ورجاله ثقات، غير
_________
(١) أبو داود (١/ ٣٢٣) (٢) كتاب الصلاة (٢٢) باب كراهة البزاق في المسجد، رقم (٤٨٠).
(٢) البخاري: (١/ ٦٠٩) (٨) كتاب الصلاة (٣٦) باب ليبزق عن يساره أو تحت قدمه اليسرى، رقم (٤١٣).
(٣) مسلم: (١/ ٣٨٩) (٥) كتاب المساجد (١٣)، باب النهي عن البصاق: في المسجد في الصلاة وغيرها، رقم (٥٤٨).
1 / 11
محمد بن عجلان، لخص ابن حجر أمره، فقال: صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة (١)، وقال في تهذيب التهذيب: أخرج له مسلم في المتابعات ولم يحتج به، وذكره الذهبى في رسالته (٢) "ذكر أسماء من تكلم فيه وهو موثق. وقال: صدوق، قال الحاكم وغيره: سيئ الحفظ وخرج له مسلم في الشواهد".
فظهر أن طريق الشيخين أعلى رتبة، وأشد صحة. ولكن عبد الحق اختار رواية أبي داود لأنها أكمل من حيث المعنى، ولا تخرج في متنها عن رواية الصحيحين.
وقد يؤخذ هذا على عبد الحق، ولكن هذا هو منهجه الذي بينه وطبقه
(ب) قوة الإِسناد:
وفيما عدا ما رأيناه من ترك رواية الصحيحين إلى ما عداها فإنه في الأعم الأغلب يختار من روايات الحديث أقواها رجالًا، وأشدها اتصالًا، وأصحها إسنادا، وهذه أمثلة:
١ - حديث "من لم يأخذ من شاربه فليس منا" رواه الترمذي والنسائي، واختار عبد الحق ذكره من طريق النسائي لاتقان بعض رجاله.
إسناد الترمذي: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا عبيدة بن حميد، عن يوسف ابن صهيب عن حبيب بن يسار، عن زيد بن أرقم به.
أما النسائي فقد رواه من طريق:
إسناد النسائي: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر، قال: سمعت يوسف بن صهيب به.
فإن معتمر بن سليمان أوثق وأحفظ من عبيدة بن حميد، فإن معتمرًا
_________
(١) تقريب التهذيب: (ص: ٤٩٦)، رقم (٦١٣٦).
(٢) انظر: (ص: ١٦٥)، رقم (٣٠٦).
1 / 12
قال فيه ابن حجر: ثقة، ورمز له بأن روى عنه الجماعة (١)، وقال في عبيدة: صدوق نحوي ربما أخطأ (٢)، ونقل في تهذيبه (٣) أقوال أهل الجرح والتعديل فيه، فوثقه قومٌ، ولم يوثقه آخرون، منهم يعقوب بن شيبة قال فيه: كتب الناس عنه ولم يكن من الحفاظ المتقنين، ومنهم الساجي قال فيه: ليس بالقوي وهو من أهل الصدق.
٢ - حديث " لعن رسول الله ﷺ المحلل والمحلل له"رواه سمع من أشهر المصنفين الذين أخرج عنهم عبد الحق، عن حديث جماعة من الصحابة منهم:
١ - ابن مسعود (٤): أخرجه من حديثه: الترمذي، والنسائي، وعبد الرزاق.
٢ - أبو هريرة (٥): أخرجه من حديثه: ابن أيى شيبة، والترمذي في علله، وابن الجارود، والبزار.
٣ - على بن أبي طالب (٦): أخرجه من حديثه: أبو داود، والترمذي، وابن عدي.
٤ - جابر بن عبد الله (٧): أخرجه من حديثه: الترمذي، وابن أبي شيبة.
واختار عبد الحق أن يخرجه من حديث أبن مسعود، من طريق الترمذي، وقال فيه: حسن صحيح، وقال ابن حجر: صححه ابن القطان وابن دقيق
_________
(١) تقريب التهذيب: (٥٣٩)، رقم (٦٧٨٥).
(٢) المصدر السابق: (٣٧٩)، رقم (٤٤٠٨).
(٣) انظر: (٧/ ٨١).
(٤) الترمذي (٣/ ٤٢٨) (٩) كتاب النكاح (٢٧) باب ماجاء فى المحلل والمحلل له، رقم (١١٢٠). والنسائي: (٢٧) كتاب الطلاق (١٣) باب إحلال الطلقة ثلاثًا وما فيه ص التغليظ وابن أبي شيبة: (١٩٠)، رقم (١٨٠٣٦).
(٥) ابن أبي شيبة في المصنف: (١٤/ ١٩٥).
(٦) أبو داود: (٢/ ٥٦٢) (٦) كتاب النكاح (١٦) باب في التحليل، رقم (٢٠٧٦)، (٢٠٧٧). والترمذي: نفس الكتاب والبابين السابقين، رقم (١١١٩).
(٧) الترمذي، وابن أبي شيبة نفس الموضع السابق.
1 / 13
العيد على شرط البخاري (١). اهـ.
يرويه أبو قيس عبد الرحمن بن ثروان، عن هزيل بن شرحبيل، عنه به، وهزيل: ثقة، وأبو قيس، صدوق ربما خالف، قاله ابن حجر (٢).
وأما حديث أبي هريرة، فيرويه عبد الله بن جعفر الخرمي، عن عثمان ابن محمد الأخنسي، عن المقبري به، وابن جعفر، ليس به بأس، وعثمان صدوق له أوهام، قالهما ابن حجر (٣)، وحسنه البخاري (٤).
وأما حديث علي وجابر، فقال الترمذي: حديث علي وجابر حديث معلول ... وهذا حديث ليس إسناده بقائم، لأن مجالد بن سعيد قد ضعفه بعض أهل العلم (٥).
فتبين أن عبد الحق كان موفقًا في اختياره من حديث ابن مسعود لأنه أقوى أحاديث الباب جميعًا.
طريقته في عرض الأحاديث
بين أبو محمد في مقدمة أحكامه طريقته في عرض الأحاديث، وهي طريقة فريدة ساهمت في اختصار الكتاب، وجودة تصنيفه، وتحتاج إلى شدة انتباه، ودقة مراعاة، ومن ثم أدت أيضا إلي قليل من الأوهام، تعقبها ابن القطان وردها إلى صوابها. وهاك تفصيل هذه الطريقة:
١ - يعمد عبد الحق إلي الحديث، فيخرجه من الكتاب الأشهر غالبًا، ويذكره بلفظ واحد، وهو يكتب أولًا صاحب الكتاب الذي أخرج من طريقه
_________
(١) التلخيص الحبير: (٣/ ١٧٠).
(٢) تقريب التهذيب: (ص: ٥٧٢)، رقم (٧٢٨٣)، (ص: ٢٣٧)، رقم (٣٨٢٣).
(٣) تقريب التهذيب: (ص: ٢٩٨)، رقم (٣٢٥٢)، (ص: ٣٨٦)، رقم (٤٥١٥).
(٤) التلخيص الحبير: (٣/ ١٧٠).
(٥) سنن الترمذي: (٣/ ٤٢٨).
1 / 14
الحديث، مع ذكر صحابيه، ثم يسرد المتن، فيقول مثلًا: مسلم، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ، قال ....
٢ - فإذا أراد أن يذكر بعده حديثًا آخر لمسلم، عن أبي هريرة، قال: وعنه، عن النبي ﷺ، قال: ...
٣ - وإذا كان الحديث لمسلم، من رواية صحابي آخر، قال مثلًا: وعن أيى سعيد الخدري، عن النبي ﷺ.
٤ - وإذا قال. في رواية أخرى، أو في طريق آخر، ولم يذكر الصاحب، فإنه من ذلك الكتاب الذي ذكره قبله، وعن نفس الصاحب.
٥ - وإذا أردف الحديث بزيادة من نفس الكتاب، لكن عن صاحب آخر، ذكر ذلك الصاحب، وذكر النبي ﷺ.
٦ - وإذا كانت الزيادة عن نفس الصحابي، لكن من كتاب آخر، ذكر مصنفَ ذلك الكتاب فقط، كأن يقول مثلا: وقال أبو داود: ثم يسوق الزيادة، أو زاد أبو داود، أو عند أبي داود، ونحو ذلك.
٧ - وأحيانًا يذكر الزيادة ثم يقول: خرَّجها من حديث فلان، ولا يذكر النبي ﷺ، ولكنها مرفوعة إليه ﷺ، ومن نفس الكتاب السابق.
كأن يسوق حديثا لمسلم عن أبي هريرة، ثم يردفه بقوله: قال أبو داود في هذا الحديث فيسوق الزيادة، ويقول بعدها خرَّجها من حديث ابن عباس مثلًا.
٨ - وفي أحايين قليلة جدًا يذكر الرواية التي فيا الزيادة كاملة، فيذكر صاحب الكتاب، والصحابي، والنبي ﷺ.
٩ - وربما تخال ذلك كلامٌ في رجل، أو شرح غريب، أو نحو ذلك، وراعى مع ذلك أسلوبه في العطف السابق.
١٠ - وفي أحايين نادرة جدًا، يذكر الحديث بإسناده المتصل إلى
1 / 15
رسول الله ﷺ، وأحيانًا أخرى لا يذكره ويحيل إلى ذكر الإِسناد في أحكامه الكبرى.
١١ - وفي أحايين أخرى نادرة أيضا يذكرا الحديث بإسناد المصنف -الذي أخرج الحديث من طريقه- إلى رسول الله ﷺ.
١٢ - وكثيرًا ما يذكر الأحاديث بقطع من أسانيدها ليبين الراوي المتكلم فيه، أو ليتبرأ من عهدته بإبراز إسناده، أو غير ذلك، والأغلب الكثير أن يذكر الإِسناد قبل المتن، وقد يعكس قليلًا.
١٣ - وقد أكثر عبد الحق من النقل من صحيح مسلم، وأشار إلى ذلك فى مقدمة أحكامه الوسطى بقوله: "وعلى كتاب مسلم فى الصحيح عولت، ومنه اكثر ما نقلت".
طريقته في التبويب
طريقة عرض الأحاديث وتبويبها لها أثر كبير في ارتفاع قيمة الكتاب العلمية، وتيسير الِإفادة منه، وطريقة التبويب تدل على مدى فقه المصنف وعميق فهمه.
وقد قسم أبو محمد أحكامه إلى كتب، والكتب إلى أبواب: صُنعّ كثير من مصنفي كتب الحديث، غير أن هناك ملاحظات على هذا التقسيم والتبويب:
أن بعض الموضوعات التي جعلها غيرُهُ كُتبًا وقمسها إلي أبواب، جعلها هو أبوابًا، إما مفردة، وإما مدرجة تحت كتب.
فمن الأبواب المفردة:
باب في السلام والإستئذان.
باب في الطب.
باب في الأدب.
باب في ذكر الحشر والجنة والنار.
باب في الرؤيا.
1 / 16
باب في الفتن والشروط.
ولعل عبد الحق سماها أبوابًا لعدم توسعه في إيراد المادة الحديثية.
ومن الأبواب التي أدرجهما تحت كتب، وجعلها غيره كتبًا وقسمها إلى أبواب:
باب في المساجد.
باب فِى العيدين.
باب في الجمعة.
هذه الأبواب مدرجة تحت كتاب الصلاة.
وباب الاعتكاف جعله مدرجًا تحت كتاب الصيام.
وباب الِإمارة يتعلق بها جعله مدرجًا تحت كتاب الجهاد.
الملاحظة الثانية: أن بعض الكتب لم يقسمها إلى أبواب، وذلك مثل كتاب الجنائز، وكتاب الصيد والذبائح، وكتاب الأشربة.
الملاحظة الثالثة: أن كثيرًا من الموضوعات لم يُفرد لها أبوابًا خاصة، بل جمع تحت ترجمة الباب الواحد عدة موضوعات، فمن ذلك:
باب ما يوجب الغسل على الرجل والمرأة، ونوم الجنب إذا توضأ، وأكله ومشيه، ومجالسته، وكم يكفي من الماء، واغتسال الرجل والمرأة في إناء واحد، وما نهي أن يغتسل فيه الجنب، وتأخير الغسل تعجيله، وصفته، والتستر.
باب في صلاة الجماعة، وما يبيح التخلف عبها، وما يمنع من حضورها، وفضلها، وفضل المشي إليها، وانتظارها، وكيف يمشي إليها، ومن خرج إلى الصلاة فوجد أن الناس قد صلوا، أوصلى فى بيته ثم وجد صلاة جماعة، وفي خروج النساء إلى المسجد، وما يفعلن.
باب في التعوذ من الجبن وذمه ووجوب الجهاد مع البر والفاجر، وفضل الجهاد والرباط والحراسة في سبيل الله، والنفقة فيه: وفيمن مات في الغزو،
1 / 17
وفيمن لم يغزُ، وفيمن منعه العذر، وفي عدد الشهداء.
الملاحظة الرابعة: أنه اقتفى عادةَ كثير من المصنفين في ذكر كثير من الأبواب بغير عنوان أو ترجمة، والتي يكتفي فيها بلفظ "باب" دون إشارة إلي المضمون.
الملاحظة الخامسة: أن عبد الحق أجاد التبويب أول الكتاب، وقصر في بقيته، فنرى في أوله كثرة الأبواب في الكتاب الواحد، ونرى كثيرًا تحت كل باب موضوعًا واحدًا، ونرى في وسط الكتاب وآخره، قلة الأبواب في الكتاب الواحد، وكثرة الموضوعات تحت الباب الواحد، وغزارة الأبواب غير المترجمة.
الملاحظة السادسة: أن عبد الحق تأثر في تراجم أبواب ببعض من سبقه من أئمة المحدّثين المصنفين في الحديث، كالبخاري في صحيحه، بل يكاد يكون ليس إلا ناقلًا لكثير من تراجم أبوابه.
مثال ذلك من كتاب العلم:
- باب من رفع صوته بالعلم، ومن استحيا فأمر غيره بالسؤال، ومن أجاب بأكثر مما سئل، ومن سئل وهو في حديث فأتم حديثه ثم أجاب السائل، ومن أجاب بالإِشارة.
- باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، ومن برك على ركبته عند الإِمام أو العالم.
- باب من خصَّ بالعلم قومًا دون آخرين، ومن سمع شيئًا فراجع وفيه، وطرح الإِمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم.
- باب القراءة والعرض على المحدث، وروي عن الحسن والثوري ومالك القراءة جائزة.
فهذه الأبواب الأربعة تجدها بألفاظها في تراجم أبواب كتاب العلم من صحيح البخاري، وها هي بأرقامها، بترتيب ورودها في أحكام عبد الحق.
1 / 18
٣ - باب من رفع صوته بالعلم.
٥١ - باب من استحيا فأمر غيره بالسؤال.
٥٣ - باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله.
٢ - باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم حديثه، ثم أجاب السائل.
٢٤ - باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس.
٢٨ - باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره.
٢٩ - باب من برك على ركبتيه عند الإِمام أو المحدث.
٤٩ - باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لايفهموا.
٣٥ - باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه.
٥ - باب طرح الإِمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم.
٦ - باب القراءة والعرض على المحدث، ورأى الحسن والثوري ومالك القراءة جائزة.
طريقته في شرح غريب الحديث وبيان معانيه
لأبي محمد طريقان في شرح غريب الحديث، وبيان معانيه، ومقاصده.
الأولى: تفسير روايات الحديث بعضها ببعض، وتلك أفضل طريقة لشرح الأحاديث وبيان مقاصدها، فما أجمل فى رواية، بُسط في رواية أخرى.
والأمثلة على هذه كثيرة:
ذكر من طريق مسلم عن ثوبان، عن رسول الله ﷺ "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم، لم يزل في خُرْفة الجنة، حتى يرجع".
ثم ذكر عبد الحق طريقًا آخر ليفسر "خرفة الجنة"، فقال وفي آخر:
1 / 19
قيل: يا رسول الله، وما خرفة الجنة؟ "قال جناها".
وكان يمكن لعبد الحق أن يذكر الرواية المفسِّرة ابتداء، ولكنه اختار الرواية التي ذكرها لأنها أحسن الروايات مساقًا فِى هذا الباب من صحيح مسلم.
الثانية: التفسير اللغوي، ويعتمد عبد الحق في هذا التفسير على عدة مصادر:
١ - كتب غريب الحديث، واعتمد عبد الحق منها كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي المتوفى سنة (٢٢٤) هـ. وكتاب أبى سليمان الخطابي المتوفى سنة: (٣٨٨) هـ.
٢ - كتب اللغة، واعتمد منها كتاب "الجامع في اللغة" لأبي عبد الله محمد بن جعفر القزاز المتوفى سنة (٤١٢) هـ.
٣ - كتب الحديث، وينقل عبد الحق منها ما ورد فيها من شرح غريب، أو بيان لمعنى، سواء كان هذا التفسير لصاحب الكتاب، أو لغيره من رواة الأحاديث ونحوهم.
من هذه الكتب:
جامع الترمذي، سنن أبي داود، ومصنفات أبى عمر بن عبد البر وغيرها.
مثال ذلك ما ذكره أبو محمد من طريق مسلم، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ، قال: " نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف ووقفت ها هنا وجمع كلها
موقف". ثم قال أبو محمد: جمع والمعشر والحرام والمزدلفة أسماء لموضع واحد، قاله أبو عمر.
رواة الأحاديث:
1 / 20