قلت: ولكن يا جدي هذا مطران، فقاطعني بنبرة قائلا: ما هذا مطران، هذا يا جدي، شهيد مثل مار عبدا.
قلت: ولماذا خاصم المطران المير حتى أصابه هكذا، فالمطارين اليوم بألف خير.
فقال بعد ما حملق بي: هذه إرادة الله وستنا مريم العضرا، ومتى اتفقنا نحن والحكام يا ويل الشعب في لبنان. فمرقصنا - مرقص الكفاعي - الله يرحمه نهى مير جبيل كثيرا عن ظلم الشعب فما سمع له. ولما حبسه باشا صيدا في البير. قلت: في البير! قال: نعم في البير. طلب الأب مرقص فذهب إلى صيدا فقال له: صل لأجلي يا محترم، بلغ صراخ الشعب مسامع الرب الصباووت، كما قلت لي مرات. ومتى رجعت خذ من زيتون الحكومة في وطا عين كفاع، ما يعجبك؛ ملكا لديرك - دير معاد - وهكذا صار. وغدا في ذهابنا إلى (النعوة) أدلك على الصلبان التي رسمها الأب مرقص في بدن الزيتون الذي تملكه.
قلت: وماذا أصاب المير؟ فأجاب خلصته صلاة القس مرقص، ووقف فجأة وقال: مارون أتعرف تعمل (مرثاية)؟ المرأة التي جاءنا خبرها من أقاربنا، هذه امرأة فاضلة، وحدق إلي كمن يترقب الجواب. ولما ابطأت عليه قال لي: أحب أن أسمعك قبل أن أموت.
فقلت: العمر الطويل يا جدي، فأجابني بفرح كالبكاء: ولك يا عيوني.
أولى معاركي الأدبية
كان جدي لوالدي - رحمهما الله - من علماء زمانه. وكان يخشى أن يرفع العلم من بيته حين يخفض أو يرفع هو من هذه الدنيا، ولما رأى في قبسا من ذكاء توهم أنه سيصير نارا آكلة، فجعل وكده في بعد خيبته في بنيه. وأخذ يناقشني في أمور فوق عقلي فكنت أجاريه في شوطه فيتفاءل ويتشاءم مع رياح الأجوبة والأسئلة التي تهب عليه من ناحيتي. فالكلام بيننا أخذ ورد، وكما يكون الحوار بين رجل خنق التسعين وابن أربعة عشر.
كدت أصير ظلا لشيخي الزهيري الذي لم يسأم الحياة، فهو يجري معها في المضمار وإن قطع الجري أنفاسه، وأسطع صورة له وأوضحها في ذهني هي لحيته المندلقة على صدره. وكنت إذا أبديت إعجابي بها، وقايست بينها وبين لحى زملائه الآخرين همهم أبي وقال لي: هذا ربعها يا صبي! يا ليتك نظرتها في عزها. حظك قليل، يا سلام، يا سلام عليها.
وقال جدي لوالدي في إحدى ليالي الصيف: أفتكر بمدرسة كبيرة. هذه المديرسات صارت صغيرة على الصبي، ربما طلع منه شيء، من يعلم.
ثم عقدت جلسات عديدة شاركت فيها الوالدة، وأخيرا أقروا بالإجماع أن يدخلوني أكبر مدرسة في المقاطعة. وكان العهد بالعلم في ذلك الزمان غير العهد به اليوم. ندخل المدرسة في أول تشرين الأول، ثم لا نرى وجه الضيعة قبل منتصف تموز. لا أعياد، ولا مرافع، ولا فرص، ولا ولا. كنا نودع أهلنا جادين غير هازلين، في غيبة لا هوادة فيها.
صفحة غير معروفة