فأقول متشهدا: «صدقت يا امرأة.. أما والله إنك لمنصفة.. جزاك الله خيرا وقواك على احتمالي».
وأعترف أني كثيرا ما أنتفع بالمعروف المشهور من نسياني فإذا سألتني عما لا أريد أن أبوح لها به أو أذكر الحقيقة فيه تظاهرت بالبلاهة وقلت: «وهل أنا أعرف.. وأين العقل الذي يتذكر..».
وما قرأت كتابا إلا نسيت ما فيه - نسيته جملة وتفصيلا. حتى اسمه واسم كاتبه وقد أعود إليه فكأني ما قرأته ولا سمعت به فهو في كل مرة أعود فيها إليه جديد ولو كنت قرأته عشر مرات وهذا نافع لأن فيه اقتصاد. وكم من كتاب اشتريته ثم نسيت أين وضعته ثم يتفق أن أعثر عليه فأقف مستغربا متسائلا أتراني قرأت هذا الكتاب من قبل.. أم لم أفتحه.. على كل حال.. الأمران سيان.. توكلنا على الله».
وأحسب هذا يجعل العلم والجهل سيين ولولا أني أعرف أن ما أقرأ لا يضيع وإنما يختفي لأغراني ذلك بالانقطاع عن القراءة لقلة ما يبدو لي من فائدتها المحسوسة.
الفصل العشرون
الحظ المعاكس
الذين يعتقدون أنهم مضطهدون في الحياة وأن كل من في الدنيا وما فيها من ناس وأشياء يناوؤهم ويكيد لهم ويناصبهم معذورون وإن كان الأطباء يقولون أن هذا مرض فقد تتوالى المصادفة على وتيرة واحدة لا تختلف أو تتنوع حتى يكبر في وهم المرء أن هناك عمدا. فيروح بعذر ابن الرومي الذي حكوا أنه كان إذا رأى النوى مبعثرا أمام البيت يرتد داخلا ويقعد عن التصرف في يومه ذاك إيثارا لطلب السلامة مما يتوهم أنه لا محالة ملاقيه من السوء والشر.
حدث يوما أني بكرت في القيام من النوم وليتيسر لي أن أكتب ما ينبغي أن أكتب في ذلك اليوم ثم أخرج لقضاء عدة حاجات لا سبيل إلى إرجاء واحدة منها. فأما الكتابة فاستحالت لأن الآلة الكاتبة تعطلت لعلة لم أستطع أن أهتدي إليها ولأني لم أجد في البيت كله لا حبرا ولا قلما ولا شيئا مما يستطيع المرء أن يكتب به فابتسمت - فما بقيت لي حيلة - وقلت «صدق المثل. باب النجار مخلع» وحدثت نفسي أن هذا يفسح الوقت لقضاء الحاجات الأخرى فارتديت ثيابي وخرجت من الشقة متوكلا على الله فلم أكد أضع رجلي على الدرج حتى زلت قدمي ونهضت متوجعا على يدي ورجلي فقد هاضني الاصطدام بالدرجات وحدثت نفسي أن ساقي على الأقل لا ينقصها هذا الرض الجديد ثم نفضت التراب عن ثيابي - بحكم العادة فإن السلم نظيف - ومضيت متحاملا على نفسي إلى « الجراج» ولكن السيارة أبت كل الإباء أن يدور محركها ولست حديث عهد بالسيارات ولا أعرفني عجزت عن علاج حرانها إذا كان لأسباب عارضة ولكن الأمر استعصى علي في ذلك الصباح حتى كدت أجن فتركتها واستأجرت سيارة وفي ظني أنها أسرع من الترام وما إليه فلم نكد نقطع كيلو واحدا من الطريق حتى عرض للسائق راكب دراجة خرج فجأة من زقاق فأراد السائق أن يتقي أن يدوسه ويزهق روحه فاصطدم بحافة الرصيف وكاد يقتلني أنا أو يحطمني على الأقل. فأنقدت الرجل ما استحق من الأجر وقلت الترام أسلم وكنا عند محطته فوقفت ثلث ساعة أنتظره وهو لا يجيء لسبب لا أدريه، وأنا أحتمل المشي مهما طال ولكني لا أحتمل الوقوف خمس دقائق فأحسست أن بدني قد تضعضع وأن ساقيي أصبحتا لا تقويان على حملي وإن كنت دقيقا خفيفا - وزنا لا دما - ورأيت مركبة خيل مقبلة فأسرعت إليها وركبتها والقارئ أعرف بمركبات الخيل وأكبر الظن أنه رأى كيف ينام الجواد وهو يوهمك إنه يجر المركبة.. ما علينا.. سرنا دقائق بسرعة كيلو وربع في الساعة وإذا بالترام الذي نفذ صبري وتهدم جسدي وأنا أنتظره يدركنا ويمر بنا كالبرق الخاطف ويتركني أتحسر على العجلة التي صدق من قال إنها من الشيطان لعنه الله..
وأوجز فأقول إن كل باب طرقته في ذلك اليوم الأسود ألفيته مسدودا وإن أي رجل أردت أن ألقاه وجدته مسافرا أو مريضا فأقصرت خوفا على الباقين الذين كنت أريد أن أقابلهم أني يدركهم الموت.
ولا شك أن ابن الرومي كثرة تجربته لأمثال هذه المصادفات فصار يؤثر اختصار الأمر والنكوص من البداية اتقاءا لمعاناة الخيبة التي مل تكرارها ولم يكن يجد فيها لذة وله العذر.
صفحة غير معروفة