الفصل الثاني عشر
السيد جمال الدين الأفغاني
لم أدرك السيد جمال الدين الأفغاني في حياته، ولكن الله أكرمني بأن يسر لي الوجود في بغداد يوم ممر رفاته بها إلى مسقط رأسه في بلاد الأفغان. وما له في الحقيقة موطن خاص فإنه رجل الشرق كله، وابن الإسلام والعروبة أجمع، فلكل بلد عربي وإسلامي حق فيه لا ينازع ولا ينكر.
وليس من عادتي الأسف على ما يفوتني بالغا ما بلغ، ولكن ما عرض ذكر السيد جمال الدين إلا أدركني الأسف وشاع في نفسي لن الزمن لم يتقدم بي بضع عشرات من السنين فأصل أسبابي بأسباب هذا الرجل النادر، وأقتبس من روحه الساحرة التي كانت كأنها مولد كهربائي ضخم يبعث الحرارة والقوة والحيوية في حيثما حل.
فما كان السيد جمال الدين أوحد أهل زمان في العلم أو الفلسفة أو الذكاء وحدة الفؤاد، ولكنه كان على التحقيق، وبلا أدنى مراء، أوحد رجال عصره في قوة الشخصية وسحرها، وفي إيمانه بنفسه وبقدرته على إدراك ما يسعى له وتحقيق ما يدعو إليه، وتنزه عن كل غاية شخصية أو مأرب ذاتي.
فما كان يسعى لمجد يفيده، أو مال يصيبه، أو حكم يتولاه، وما جنى هو من مساعيه إلا الأخطار والتشريد، وإنما كان همه ومنى نفسه جميعا أن يوقظ هذا الشرق من رقاده الطويل، وأن يبتعث همته الدانية، ويصدع عنه أغلال الظلم والاستبداد والاستعباد التي كان يرسف فيها، وينشله من وهدة الجهالة التي أخمدت روحه، ويجمع كلمته، ويدفعه إلى التماس القوة والعزة؛ ولا سبيل إليهما بغير الحرية والعلم.
ولم تكن دعوته مقصورة على العرب وإن كان منهم فقد كان أبعد من ذلك مطارح همة؛وكانت دعوته إسلامية عامة شاملة تنتظم البلدان والأمم الإسلامية من حدود الصين إلى شاطئ المحيط الأطلسي.
ولم يكن هذا منه طموحا نظريا؛ أو مجرد أمل يحلم به؛ فقد كان يجوب الأرض ويركب البحر، ويزور بلاد العرب والإسلام واحدا واحدا.
وما دخل بد إلا ترك فيه حركة قوية، وكان له فيه أثر عظيم باق إلى يومنا هذا. فإذا قلنا أنه عظيم «يعي الزمان مكان نده» كما يقول البحتري، لم نكن مبالغين.
وقد جاء إلى مصر قبل الثورة العرابية بزمن غير وجيز، وكان هو الذي هيأ النفوس وأعد الأذهان لها ولما تلاهما إلى يومنا الحاضر .
صفحة غير معروفة