وقد دارت في نفسي هذه المقالة، فذهبت بها إلى صديقنا الفارسي، فقد كان عالما واسع الاطلاع، غزير المعرفة وترجمتها له، وسألته عن رأيه فيها، فلم يتردد في الموافقة عليها، وقد فكرت بعد ذلك في أمر الحسين وفي مغامرته العجيبة، فلم يزدني ذلك إلا اقتناعا برأي هذا المستشرق الألماني، وبغير ذلك لا أدري كيف يستطيع المرء أن يفسر إقدامه على طلب الخلافة وسعيه لانتزاعها من بني أمية، فقد عرض نفسه على كثير من القبائل فما وجد منها إلا إعراضا وانصرافا، أو على الأقل فتورا شديدا عن نصرته، من حقه أن يثبط، وليس من شأنه أن يشجع؛ ولم يكن حوله من الرجال من يطمع أن يديل بهم من بني أمية، وحمل معه النساء حتى لكن أكثر من الرجال، ولم تصده عن السير خيبة مساعيه عند القبائل، ووضوح خذلانها له؛ والتقى برجال بني أمية فعرضوا عليه ما لم يحلم بالفوز به بمجهوده، فأباه وأصر على المغامرة، فوقعت الواقعة، وكانت هذه المجزرة الخالدة التي لا يزال أثرها باقيا إلى اليوم.
ولم يكن الحسين مجنونا، ولا طياشا، ولا عرف عنه ما يحمل على سوء الظن بعقله ونظره، فكيف هم بأمر كان من استحالته على يقين جازم؟؟ وهبه كان مخدوعا في أول الأمر فقد رأى من الإعراض عنه والخذلان له، والزهد في الانتفاض على بني أمية، والخوف من بطشهم وانتقامهم، ما يدفع إلى اليأس ويغري بالقعود؛ ولا يمكن أن يقال إنه كان يرجو فلاحا فما كان معه في زحفه إلا النساء وإلا عشرات لا تغني، ولا يعقل أن تصبر على قتال دولة ذات بأس وصولة، وما رأى أحدا استجاب لدعوته، أو أبدى استعدادا للحاق به حتى يقال إنه كان ينتظر نجدة ومددا، وهؤلاء النسوة من آل بيته لم أصر على حملهن معه وزحفه بهن؟ وقد كان خليقا بعد أن رأى كيف خذلته القبائل أن يشفق عليهن ويردهن ليقيهن أن يصرن إلى ما هو صائر إليه لا محالة. ألا يعذر من يذهب إلى أن استصحابه لهن إلى المذبحة، إنما هو مقصودا به أن يحف المصرع الذي مضى إليه عامدا بكل عوامل الاستفزاز وعناصر الإيلام المثير؟؟
لقد ألقى بهن معه على القتل أو الإذلال والتحقير والهوان، وهن آل بيت الرسول صاحب هذا الدين، فلولا أنه تعمد أن يضحي بهن معه ليقيم القيامة على بني أمية، لكان أيسر التفكير كافيا لحمله على إقصائهن عما سعى إليه ووطن نفسه عليه، ولكنه نظر فرأى أن استرداد الدولة من بني أمية مطلب لا سبيل إليه ولا مطمع فيه، فيئس من إمكان ذلك بالوسائل المألوفة، فقال أنسف الدولة الأموية من قواعدها، وأكون أنا اللغم الذي ينفجر تحتها، فيزلزلها ويدك بنيانها، ويطير أنقاضها، ويجعل عاليها سافلها؛ ولابد لذلك من أن تكون التضحية تامة.
وعلى أبشع صورة من الصور، وأرغم بني أمية على أن يقتلوني أقبح القتل، وأن يمثلوا وينكلوا بي وبأهلى أشنع التمثيل والتنكيل، فيستفظع المسلمون منهم ذلك - على قرب العهد بالرسول - وتضطرم نفوسهم بالموجدة والنقمة عليهم، وينقلب العالم الإسلامي بركانا يظل يفور ويغلي في جوفه الحقد والبغض، ثم ينفجر فلا يبقي ولا يزر؛ وإني لميت ميت، طال الأجل أم قصر، ولخير من أن أموت حتف أنفي، أن أجعل ميتتي تكلف بني أمية ملكهم كله ودولتهم أجمعها؛ ولقد خرج الأمر من أيدينا وصرنا رعية لبني أمية، فإذا رضينا وقنعنا من الحياة بالطعام والشراب. وقعدنا ننتظر الأجل في أوانه، ثبتت الدولة ورسخت قواعدها وإني لأعلم أنه ليس لي حول ولا قوة، ولكن في وسعي أن أملأ نفوس المسلمين قيحا وصديدا من كره بني أمية، إذا بذلت دمي، وما دمي؟ وهو سيجمد في عروقي يوما ما، فأولى لي أن يخضب الأرض فلا تلبث أن تنقلب جحيما عليهم؛ وما خير أن اكون سبط الرسول إذا أنا لم أرج الدنيا بذلك؟ وإن الأمر لراجع إلينا لا محالة إذا أنا جعلت من نفسي ومن أهلي ضحايا لبني أمية، ويجب أن يكون قتلنا استشهادا مروعا لتكون الدية هذه الدولة كلها.
لهذا أصر على المغامرة، وهو على يقين من نهايتها، وأعرض عن ذكر العواقب التي كان يعرفها معرفتها، ولم يكترث بخذلان من دعاهم إلى نصرته، بل اغتبط بذلك، وحمل أهل بيته ليحيق بهن كل مكروه من الأذى والهوان، وليكون ما يصيبهن أبلغ في إشعار العرب هول الفجيعة، وأبى أن يجعل أذنه إلى الذين أشفقوا عليه أو سعوا عنده ليترضوه ويحملوه على العدول، أو وعدوه ما شاء غير الخلافة، ولم يكن يخفى عليه انه يعاند ويكابر ويتحدى الأقدار، ولكنه كان يدرك أن هول المصرع الذي يسير إليه مصمما عليه سيطوي كل ذكر لما عداه، فلا يبقى إلا أن بني أمية قتلوا سبط الرسول وآله، ومثلوا بهم أقبح التمثيل.
وكان يعرف أن بني أمية لابد أن يعدلوا عن محاسنته إلى المخاشنة لشدة ما يرون من عناده وصلابته، إذ كان لا يسعهم أن يتركوه يحرض الناس على الخروج عليهم، بلا كابح، وقد عرضوا عليه كل ما دون الخلافة فازدراه، فلم يبق مفر من رده بالقوة، كما شاء هو، وكان هو يعول في سياسته هذه على إحراجهم وإكراههم على البطش به، ويتعمد على ما تدفعهم إليه لجاجته في استفزازه لهم، فتطيش حلومهم، فتكون الطامة عليهم بعد أن تدور الدائرة عليه.
وقد جرى كل شيء على ما قدر ورسم، وحدث ما كان ينشد، فأسرف الأمويون في القتل والتمثيل والتنكيل، كما كان يتوقع، وصدقت فراسته القوية في رجال الدولة على عهده، ولم يخب له ظن أو رأي فيهم فريعت الدنيا، وهالها الأمر على ما كان قدر، وصارت كل قطرة من دمه ، وحرف من اسمه، وهاتف من ذكراه، لغما في أساس الدولة الأموية.
وقد ذهبت الدولة الأموية في سبيل من غبر، وجاءت بعدها دول أخرى لحقت بها.
مضى أربع وخمسون وثلاثمائة وألف سنة، ولا تزال لذكرى مصرع الحسين هزتها الأولى في كثير من البلاد الإسلامية، ومأتمه يقام كل عام في كربلاء كأنما هو لم يقتل إلا الساعة، ويموت الشيعي في بغداد أو سواها فيحمل منها إلى النجف ليدفن هناك.
وأحب آل البيت إلى النفوس وأعزهم عليها هو الحسين، ولا تزال العيون تغرورق بالدمع، والقلوب تخفق، والصدور تعلو وتهبط لحكاية هذا المصرع فمن كان يصدق أن الحسين فعلها عن طيش أو سوء تقدير، أو تورط فإني لا أصدق إلا أنه أقدم عليها متعمدا لها.
صفحة غير معروفة