وبعد فقد كنت في القاهرة قبل أيام وإني لهنا الآن إلى أيام ومررت في طريقي بدمشق عاصمة الأمويين فمن هم الأمويون والعباسيون والفاطميون؟ أحسب أني لا أخطأ جدا إذا أنا أغضيت عما كان بينهم من تفاوت ورددتهم إلى أرومة واحدة وأصل لا يتعدد أو يتجزأ هو العروبة التي نمتنا جميعا وامتددنا منها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا فتفرعنا عليها في كل اتجاه ولست مبالغا أو مؤثرا للمجاملة حين أقول أني لأشعر وأنا في بغداد إلا كأني في القاهرة وبين أهلي وقومي وليت أهلي يترفقون بي ويحتفون كما أراكم تفعلون إذا لعادت الحياة أطيب وأمتع.
وكان أول ما جرى في الخاطر أن أتحدث إليكم في الأدب المصري الحديث فإنه موضوع كنت أحسبني أدري به من سوانا وكان أكبر ظني أني سأعرفكم ما تجهلون غير أني عدلت وآثرت السلامة فما كدت أجالس بعض رجالكم وشبابكم حتى أدركت أني جاهل بهذا الذي كنت أتوهم أني به عالم.
فقد كانوا يذكرون لي كتابا وشعراء وكتبا حديثة من شتى الموضوعات ما سمعت بهم ولا بها حتى ليخيل إلى أني من أهل الكهف الذين لبثوا في كهفهم سنين لا يعلم عدتها إلا الله ثم فتحوا عيونهم على دنيا غير التي شبوا وشابوا بها فكنت أتلجلج وأتلعثم وأهرب من الجواب الصريح وأحاول أن أعدل بالكلام إلى موضوع آخر غير هذا الذي لا يقبل مني الاعتذار بجهله.
وسمعت فيما سمعت أن أهل العراق يعرفون أدباء مصر من أصواتهم فقلت لنفسي (قاتل الله هذا الراديو) وذهبت أفكر في الراديو وأثره في الآداب والفنون أو بعضها على الأقل مثل الموسيقى والتمثيل. واستطردت من هذا التقريب بين الأمم المبعثرة على رقعة الأرض إلى ما هو أبعد أثرا وأمس بالأصول والجوهر ورحت أتساءل.
أترى الأدب والموسيقى قد اختلفا - أو يوشك أن يختلفا - في عصر الراديو عما كانا من قبل؟ يبدو لي أن الجواب يستوجب تصور الحالين فماذا كانت الحال قبل عصر الراديو؟ كان الموسيقي يعزف للجمهور أو يغنيه؟ وهو يسمع ويرى فكان عليه أن يجعل باله إلى ما يتبين من وقع الأصوات في نفوس السامعين وكان من السهل أن يعرف ذلك من تصفيقهم أو آهات الاستحسان التي تند عنهم، أو طلب الإعادة، أو غير ذلك من مظاهر الطرب مرئية ومسموعة فكان بينه وبين السامعين تفاعل وتجاوب هو يؤثر فيهم بأصواته وهم يؤثرون فيه بما يأخذهم من هزة الطرب أو ما يعروهم من فتور الاستهجان فيضطر إلى مسايرتهم، ويروح يدور من ورائهم طالبا رضاهم، محاولا أن يستولي على هواهم فهو يبدو حرا فيما يصنع من أصوات ويصوغ من ألحان ويصور من أنغام ولكن الجمهور يكرهه - إذا لم يطب له السماع - عل التغيير والتبديل والتصرف حتى يبلغ من ذلك مناه إذا كان هذا مما يدخل في وسعه.
ومن هنا كان أهل الموسيقى يتوسعون في الاستعداد ويتوفرون على اتخاذ الأهبة لمواجهة الجمهور على سبيل الاحتياط أو يروضون أنفسهم على الارتجال وهو صعب ولكنه ليس بالمستحيل إذا كان الموسيقي ذا ملكة مواتية وسجية مسعفة أو طبع ملهم، أما الآن فالموسيقى المذاعة ينقصها عنصر الجمهور المشهود المحشود. وصحيح أن العازف أو المغني يتخيل الجمهور ولكن الخيال غير الحقيقة ووقعهما متفاوت، ولا سبيل على كل حال إلى تبين ما يجده السامعون لأنهم ليسوا هناك. الوقت أيضا محدود فلا معدى عن جعل الصوت أو اللحن على قدر الزمن المضروب - فالموسيقي إذن يستعرض أمورا أولها مسافة الزمن وثانيها أن صوغ اللحن بحيث يجيء مع مطابقته لمقتضيات الفن، موافقا في تقديره هو لهوى الجمهور وثالثها أن أعفى عند العزف أو الغناء من المفاجآت فلا حاجة به إلى غير ما صور من نغم ولا موجب للاستعداد بشيء آخر يدخر لوقت الحاجة ولا اضطرار إلى تكلف الارتجال. وفي وسع الموسيقي إذن أن يحرص على وحدة الموضوع ومطالب الفن وأحكامه، ولكنه من جهة أخرى غير ذي صلة مباشرة بالجمهور فمن السهل جدا أن تنأى الموسيقى من جراء ذلك عن المزاج أو الذوق العام ولاسيما إذا اقترن احتجاب الموسيقي عن جمهوره بالرغبة في التنويع الذي هو مطلب كل إذاعة لاسلكية اتقاء للملل ونفيا للضجر، إغراء للجمهور بالإقبال على الاستماع. والتنويع مطلب الموسيقي أيضا حتى لا يظل فنه على غرار واحد لا يختلف إلا قليلا، فإذا لم يكن متمكنا من فنه غاية التمكن ومعتزا به وحريصا على صبغته وذا ثقة بنفسه أيضا، وكانت غايته إرضاء الجمهور ليس إلا فإنه خليق في هذه الحالة أن يجنح إلى التقليد والاقتباس من موسيقى الأمم الأخرى فتجيء موسيقاه خليطا أو رقعا شتى كثياب المتسولين، وليست لها صبغة خاصة، أو طابع معروف أو سمة تتميز بها أو لون معهود أو طعم مألوف - إذا جاز استعمال لفظ الطعم في هذا المقام - وتعود لا هي شرقية ولا هي غربية وإنما هي أشبه بقول ابن الرومي في شاعر كثير الغلط يجعل قوافيه شتى في القصيدة الواحدة:
يحشد القافات واللامات
والميمات حشدا
مثل ما ضمت سبيل
من صنوف الناس وفدا
صفحة غير معروفة