وصاحبنا الذي تدور القصة عليه والذي سماه الكاتب أشيل بروسكا قد اتخذ الجنسية الفرنسية وقاء من قوانين مصر، ثم عمل كما يعمل أمثاله في حرف مختلفة ومهن لا يبلغها الإحصاء، حتى أثرى وظفر بالغنى، فهاجر إلى فرنسا وأقام فيها، واشتغل بالصحافة، ثم بالأعمال المالية، ثم بالسياسة، ثم أدركته القصة، وهو رجل عظيم من أرفع الناس شأنا، وأوسعهم سلطانا، وأعظمهم خطرا، وأبعدهم أثرا في الحياة السياسية والمالية والصحفية بباريس. له قسط في كل مصرف، وسهم في كل عمل، وكلمة في كل قانون، ورأي في كل تدبير. يعين الوزراء ويعزلهم، ويرفع الكبراء ويخفضهم، ويغني الفقراء، ويفقر الأغنياء، ويعبث بثروة ضخمة لا تقل عن أربعمائة من الملايين.
ونحن إذا ابتدأت القصة نراه حين يرفع الستار متكاسلا يشهد امرأته الجميلة موريسيا وهي تتخذ زينتها للعشاء، وقد علمنا أن العشاء سيكون فخما هذه الليلة، فقد دعي إليه أربعون من أرقى الطبقات الباريسية، فيهم رجال السياسة والمال، ورجال الأدب والعلم، ورجال الأعمال والحرب، وصاحب الدار كسلان لا ينشط لزينته، ولا يريد أن يستقبل الحلاق الذي أقبل يهيئه لهذه الزينة، وإنما هو يأمر الخادم أن يسقيه شيئا من النبيذ وينقده شيئا من المال، ويصرفه، أما هو فيؤثر أن يكسل وأن يشهد امرأته الجميلة وهي تأخذ زينتها، وليس عليه بأس من أن يلقى ضيفه ويرأس مائدة الطعام مهمل اللحية والزي أيضا، فهو لا يحفل بهؤلاء الناس الذين دعاهم لطعامه، ولا يعنيه أن يرضوا عنه أو يسخطوا عليه، بل هو واثق بأنهم سيرضون عنه ما بقيت له ثروته وقوته، وسيزدرونه إن صفرت يده من هذه الثروة، أو انحلت عنه هذه القوة. هو يزدريهم أشد الازدراء، ويحتقرهم أعظم الاحتقار، ويتحدث عنهم أقبح الحديث، هو لا يقدر من خلق الله جميعا إلا رجلا واحدا عاش كريما شريفا، نقي اليد والقلب والضمير، فلم يلق من الناس إلا شرا. خانته امرأته، وأنكره بنوه، وألح عليه الفقر والبؤس حتى ماد معدما مريضا، وهو أبوه. وصاحبنا من أجل هذا يحتقر الناس كأنه يرد عليهم ما قدموا لهذا الرجل الكريم وكأنه ينتقم منهم له، وهو لا يرى أن الانتقام يتهيأ له إلا إذا اطرح الفضيلة والشرف اطراحا، وسعى إلى المال والجاه من كل طريق، ثم اتخذهما وسيلة إلى غاية في غير تحفظ ولا احتياط ولا حياء، وإنما الحياء خلق الضعيف، والاحتشام خلق الرجل الذي لا يريد أن ينجح .
وانظر إليه وقد قصد إلى التليفون وأخذ يتحدث إلى أحد الوزراء بنفس اللهجة التي يتحدث بها إلى خادمه، وما له لا يفعل ذلك وهو الذي رفع هذا الرجل إلى الوزارة ويستطيع أن ينزعه منها نزعا متى شاء؟! وانظر إليه والخادم يقبل عليه من حين إلى حين فينبئه بمقدم هذا العظيم أو ذاك فلا يظهر احتفالا ولا احتفاء، وإنما يقول للخادم: دعه ينتظر.
ثم انظر إليه وقد طرق الباب فأذن بالدخول فدخل عليه سكرتيره الخاص، وهمت امرأته أن تستخفي لأنها لم تكن قد تهيأت بعد للقاء الغرباء، فيأبى عليها هذا كل الإباء، لأن سكرتيره كلب لا ينبغي أن يحسب له حساب، وهو يقول ذلك جهرة في وجه سكرتيره، والرجل يحتمل منه ذلك ضيقا به مبتسما له في وقت واحد. ثم اسمع إلى السكرتير وهو ينبئ سيده بأنه قد حاول أن يشتري الصورة فلم يفلح مع أنه قد ارتفع بالثمن إلى مائة ألف من الفرنكات لأن المصور لا يريد أن يبيع هذه الصورة مهما تكن الظروف، فإذا سألت امرأته عن هذه الصورة عرفنا أنها صورة ذات القفاز الأخضر، وأن ذات القفاز الأخضر هذه باريسية حسناء، كانت صديقة لامرأته أيام الصبا، ثم فرقت بينهما الأيام، فلما نشرت هذه الصورة عرفت موريسيا صاحبتها، وبحث زوجها عن هذه المرأة حتى اهتدى إليها، وهي مدعوة للعشاء الذي يقام هذا المساء، وكان صاحب الدار يريد أن يشتري الصورة ليهديها إليها، وهو مغيظ لأنه لم يستطع شراء هذه الصورة، وهو لم يتعود قط أن يفشل عن بعض ما يريد.
ثم انظر إليه يكره سكرتيره على أن يشهد العشاء، فإذا اعتل عليه السكرتير منحه مائة ألف فرنك فرضي، ولكنه بهذا الرضا أصبح ملكا لسيده يعبث به كما يحب، وهو يفرض عليه أن يدخل في ثيابه هو، وإن كانت لا تلائم جسم هذا البائس، وأن يلبس حذاءه هو، وإن كان لا يلائم رجل هذا البائس. ثم انظر إليه وقد انتهى به العبث إلى أقصاه، فهو يريد أن يزوج خادمه من هذا السكرتير المضحك، وأن يمنح الخادم مليونا من الفرنكات إن قبلت هذا الزواج، وأظن أنك قد اتخذت لنفسك من هذا الرجل الغريب صورة واضحة هي صورة الرجل الوصولي الذي وصل إلى كل ما يريد فهو يعبث بالحياة والأحياء جميعا، على أنك لم تعرف من أمره كل شيء، فانتظر قليلا حتى تقبل ذات القفاز الأخضر وتخلو إلى صاحبتها، وتأخذ معها في الحديث، فستعلم من حديث هاتين السيدتين أن لصاحبنا هذا عادة غريبة، فهو مزواج، مطلاق، يرى المرأة فيحبها فيتزوجها، مهما تكن النتائج، يطلق امرأته إن كان متزوجا، ويحمل حبيبته على الطلاق إن كانت متزوجة، يشتري ذلك بالمال من امرأته التي يطلقها، فهو يمنحها ثلاثة ملايين، ومن الرجل الذي يريد أن يأخذ منه امرأته فهو يمنحه ما يشاء من مال ومنصب وجاه، وامرأته هذه موريسيا تحبه أشد الحب، وتخاف منه أعظم الخوف، تنتظر اليوم المحتوم الذي يعرض عليها فيه الطلاق وثلاثة ملايين.
والغريب أن ذات القفاز الأخضر لم تكد تسمع حديث صاحبتها حتى خافت أشد الخوف، فهي تعرف أن رجلا يتبعها في هذه الأيام ويريد أن يتصل بها ويتحدث إليها، وهي تحس أن هذا الرجل هو بروسكا، وهي تشفق بعد أن علمت ما علمت أن يعرض لها ولزوجها بما تعود أن يعرض به للرجال والنساء، وهي على ذلك تعاهد صديقتها على أنها ستقاوم هذا الرجل إن كان هو من تخاف، وستمتنع عليه كل الامتناع.
فإذا كان الفصل الثاني فقد كان ما خافت المرأة أن يكون، ولكن يحسن ألا نتعجل الحوادث وأن نسعى مع الكاتب في شيء من المهل والأناة كما فعل هو في قصته، فنحن حين يرفع الستار عن هذا الفصل الثاني في بيت جيتان ذات القفاز الأخضر، ونحن نرى زوجها واسمه «جي دي لارونسيري» يحاور المصور واسمه «ألمادو» حوارا غريبا حقا، قد أقبل المصور ينبئه بأنه قد أحب امرأته منذ صورها ولم يصل منها إلى شيء، ولم يرد بها مكروها، وهو يائس من حبها، وهو يلتمس عنده العزاء من هذا اليأس ، يطلب إليه مودته ليستطيع أن يزوره من حين إلى حين وأن يرى امرأته دون أن يسوءها أو يتعرض لشيء، والرجل ينكر هذا الحديث أشد الإنكار، ولكنه لا يغضب له ولا يثور؛ لأن المصور يلقيه إليه في شيء من سذاجة الفنان، بريء لا يثير غيظا ولا حفيظة، وهذه امرأته تقبل فتقر بأن المصور يحبها ويكتب إليها بهذا الحب، وبأنه يائس من حبه، وترفض ما يقترح المصور من هذه المودة الغريبة، وتقترح عليه ألا يحاول لقاءها، فيذعن ويزمع أن يعود إلى بلده في أمريكا الجنوبية، ولكنه يريد أن يهدي إلى هذه المرأة صورتها هذه التي فتن بها الناس والتي أبى أن يبيعها بمبلغ ضخم من المال، وقد انصرف ليحضر هذه الصورة، وخلا الزوجان وأخذا في حديثهما، وإذا الزوج محزون لأنه أنذر بصرفه عن العمل بعد أشهر، وهو يقترح على امرأته أن تتحدث إلى صديقتها موريسيا لعلها تحمل زوجها بروسكا على أن يسعى له في البقاء حيث هو، وامرأته تسمع منه محزونة ولا تستطيع أن تجيبه إلى ما يريد، ولكن ماذا؟ إن الجرس يدق، وهذه الخادم تدخل وقد حملت طاقة فخمة من الورد، ومعها بطاقة قد كتب عليها اسم بروسكا.
ولم يكد الزوجان يقضيان عجبهما من هذه المصادفة حتى يدق الجرس مرة أخرى، ويدخل عليهما سكرتير ذلك الرجل الغريب، وهو قد جاء يدعوهما إلى العشاء مع سيده في مطعم فخم من مطاعم باريس، فأما الزوج فسعيد بهذه الدعوة، وأما المرأة فضيقة بها، معتذرة منها، فإذا ألح عليها زوجها في قبول الدعوة طلبت إلى ذلك السكرتير أن ينصرف عنهما لحظة، ثم أنبأت زوجها بأن بروسكا يحبها، ويتبعها، ويلح عليها بالحب والاتباع، هنالك يظهر الزوج غضبا وحفيظة ويقر امرأته على الاعتذار، ولكن السكرتير يلح ويأبى أن يعود خائبا، ثم يعمد إلى التليفون فينبئ سيده باعتذار الزوجين، ويأبى سيده قبول الاعتذار، ثم ينبئ بأنه مقبل بنفسه ليقنعهما بقبول دعوته.
وغضب الزوج يزداد من حين إلى حين وامرأته تهدئه وتنصح له بالاعتدال، ولكن ماذا تسمع؟ إن الجرس يدق، وهذه امرأة تدخل وهي موريسيا قد أقبلت يائسة ذاهلة تنبئ بأن زوجها يتركها، وبأنها دعيت إلى الموثق لتسمع منه نبأ الطلاق ولتقبض منه الملايين، وهذا بروسكا نفسه قد أقبل، ولست أريد أن أطيل عليك بما يكون بينه وبين امرأته من عتاب أو خصام، ولكن انظر إليه واسمع له، إنه لا يتحفظ ولا يتحرج، وإنما ينبئ ذات القفاز الأخضر بأنه يحبها ويخطبها، وينبئ زوجها بأنه سيطلق امرأته ويترك له أن يحتكم فيما يريد من ثمن للطلاق.
والرجل مغضب محنق، يغضب ويثور ولكن هذا لا يغني عنه شيئا، فصاحبنا هادئ مطمئن واثق، وهو يخرج من جيبه وساما يقدمه إلى الزوج، وهو وسام الليجيون دونور، كان هذا الزوج يلتمسه منذ خمس سنين دون أن يبلغه، فظفر به هذا الرجل في ثلاث دقائق، والزوج يتردد في قبول الوسام شيئا ولكن شوقه إليه يغلب آخر الأمر، فيقبل الوسام ويمضي مع ذلك في الإباء لما يطلب منه، والرجل يحاوره هادئا عاقلا، فيبين له أنه كان يستطيع أن يلح على امرأته بالإغراء والترغيب والاتباع حتى يدفعها ويندفع معها في الإثم والخيانة، ولكنه لا يحب ذلك، بل يؤثر عليه الزواج الشرعي بعد الطلاق الذي يبيحه القانون، فإذا لم ينجح في هذا الحوار لجأ إلى الوعيد فبين للزوج أنه هو الذي أخرجه من عمله، وأنه يستطيع أن يرده إليه وإلى أحسن منه، وأنه يعرف مواضع ثروته كلها، وهو قادر على أن يفسد عليه كل شيء، يفسد عليه الأرض التي يملكها في مدينة كذا، والتجارة التي يستغلها في باريس، والمناجم التي يستغلها في إسبانيا، وهو آخر الأمر واثق بأنه قد هز الرجل هزا، وملأ قلبه خوفا ورعبا، وإن كان الزوج لا يزال مع ذلك يظهر إباء وامتناعا، وقد انصرف الرجل عن الزوجين وهو واثق بأنهما سيستجيبان لدعائه إلى العشاء، وقد رد امرأته إلى دارها، وعهد إلى المصور الذي رأيناه في أول الفصل أن يرافقها، ويعنى بها، ولكني لم أحدثك عن هذا المصور بعد أن ذهب ليحضر صورته، فهو قد أقبل أثناء الحديث مرتاعا جزعا لأنه لم يجد الصورة حيث تركها فقد عدا عليها اللصوص، ولا ينتهي الفصل حتى يتم الاتفاق بين الزوجين على إجابة الدعوة مصانعة لهذا الرجل المخوف، فأما المرأة فقد ذهبت تتهيأ للخروج، وأما زوجها فهو معجب بوسامه يتهيأ لاتخاذه إذا ذهب إلى العشاء.
صفحة غير معروفة