إنما أريد أن أتحدث في هذا المقال عن أشياء لا تحتاج إلى فراغ بال، ولا إلى تفكير طويل، لأنها أيسر من ذلك وأقرب منالا، وما أدري أأفرغ من هذه الأشياء في هذا الحديث، أم أضطر إلى الحديث إليها في حديث آخر، ولكني أبدأ وأجري على الله.
وأول هذه الأشياء التي أريد أن أتحدث عنها مدرسة فكرت فيها أثناء الذهاب وأثناء الإياب، وكان تفكيري فيها حلوا مرا، حلوا لأنه اضطرني إلى التفكير في صديقي أحمد أمين، فلا سبيل إلى إنشاء المدارس أو التفكير في إنشائها دون التفكير في صديقي أحمد أمين، وأكبر الظن أنه فكر في هذه المدرسة كما كنت أفكر فيها، فقد ارتحل أثناء العيد كما ارتحلت، واتخذ السيارة كما اتخذتها أداة للسفر ووسيلة إلى الانتقال، ومرا لأني لم أشعر قط بالحاجة إلى مدرسة كما شعرت بالحاجة إلى هذه المدرسة، وهي مدرسة الغضب، الغضب الناطق الذي لا يعرف الصمت ولا يرضاه، والغضب المر الذي لا يحب الأناة ولا يصبر على الانتظار، ولا يحتمل تخير الألفاظ والتأنق في العبارات، الغضب اللاذع الذي لا يحتاط ولا يتحفظ في استعمال الألفاظ القاسية الخشنة، الغضب الذي ينبغي أن يشفق منه السلطان وأن يحسب له حسابا أي حساب، الغضب الذي يقلق النواب والشيوخ أثناء النهار، ويؤرقهم أثناء الليل، ويمنع الوزراء من الراحة والدعة، ويضطرهم جميعا إلى أن يعملوا ما يستطيعون وما لا يستطيعون ليمنعوه من الظهور ومن الانفجار.
مدرسة الغضب هذه التي فكرت فيها يوم الخميس ويوم الثلاثاء أثناء سفري إلى تونة الجبل، وأثناء عودتي منها، هي التي تعلم المصريين كيف يطالبون نوابهم وشيوخهم ووزراءهم مطالبة شديدة ملحة بالتفكير في المصالح العامة التي تمس أفراد الشعب جميعا، وبإنفاق أموال الدولة في تحقيق هذه المصالح، وبإنفاق جهود الدولة في تحقيق هذه المصالح، قبل التفكير في أي شيء آخر، وقبل العناية بأي شيء آخر. إن الفرق عظيم جدا بين السفر في القطار والسفر في السيارة، فأما في أوروبا فالناس يؤثرون السفر في السيارة، لا لأنه أسرع وأحرى أن يوفر على المسافرين ألوانا من الراحة والعزلة والفراغ لأنفسهم، والوقوف متى شاءوا هم، والسفر متى شاءوا هم، لا متى شاء نظام القطار فحسب، ولكنهم يؤثرون السفر في السيارة لهذا كله، ولأنهم يجدون فيه ألوانا أخرى من المتاع لا يجدونها حين يسافرون في القطار، أما في مصر فإن اتخاذ السيارة أداة للسفر لا يوفر على المسافر لذة، وإنما يثير في نفسه ألما أي ألم، ولا يكفل له راحة، وإنما يعرضه لتعب أي تعب، أستغفر الله، بل لخطر أي خطر، أستغفر الله، بل لغضب أي غضب، وضيق أي ضيق.
إن المسافر في القطار يتخذ مكانه مطمئنا ويلقي نظره بين حين وحين على المدن والقرى والمشاهد التي يمر بها أو تمر به، فيرى ما يحب ويرى ما يكره، ولكنه لا يزيد على أن يرى ما يحب وما يكره، فأما المسافر في السيارة فإنه لا يرى فحسب، ولكنه يرى ويشقى بما يرى وينغمس فيما يرى. ماذا أقول؟ بل هو يمتزج بما يرى ولا يجد من هذا الامتزاج إلا شرا ونكرا. تمضي به السيارة في طرق منها الممهد ومنها غير الممهد، والله يعلم أن الممهد منها لشديد الحاجة إلى أن يستأنف تمهيده من جديد، فأما غير الممهد فصوره كما أحببت أو كما استطعت فلن تبلغ من تصويره شيئا، وأيسر ما يمكن أن تقوله في هذا السفر الذي تتخذ السيارة أداة له أنه بديع جدا، يعلمك كيف تذوق التراب وكيف تجد طعمه، أستغفر الله، بل كيف تجد طعومه المختلفة: طعمه حين يمر بالفم، وطعمه حين يمر بالأنف، وطعمه حين يمر بالأذن، وطعمه حين يمر بالعين، وطعمه حين يلتصق بأي جزء من أجزاء الجسم، وحين يخترق إلى أجزاء الجسم ما تحمل من ثياب مهما تكن كثيفة محكمة، ومهما تبذل من الاحتياط في اصطناعها والاتقاء بها فلن تبلغ من ذلك شيئا، إنما أنت في جو من تراب يأخذك من جميع أقطارك فيفسد عليك كل شيء، ويبغض إليك كل شيء، ويملأ قلبك ورأسك، ويطلق لسانك بهذا السؤال أو بهذه الأسئلة: لماذا ندفع الضرائب؟ وفيم تنفق الدولة أموالنا؟ وماذا تصنع الدولة؟ ولماذا ننشئ الدولة؟ ولماذا نبذل لها كل ما تحتاج إليه من الطاعة والخضوع للنظام؟
والسفر في السيارة لا يخوض بك هذا البحر من التراب فحسب ولا يذيقك طعم التراب حيا قبل أن تذوقه بعد عمر طويل إن شاء الله فحسب، ولكنه يعلمك شيئا آخر فيه خير وفيه شر، وربما كان شره أكثر من خيره: يعلمك كيف تحمل الخطر وكيف تتعرض للخطر، يعلمك كيف ترافق الموت على أن تكون له موردا ومصدرا في وقت واحد؛ فسيارتك مصدر خطر متصل على الأحياء من الناس ومن الحيوان على اختلاف أنواعه، حين تمر بالقرى المكتظة بالناس والماشية والدواجن، وحين تمر بالطرق الضيقة المكتظة بهؤلاء جميعا، وسيارتك عرضة للخطر الذي يحمل الموت، ويمثله لك أصدق تمثيل، ويخيله لك أروع تخييل، حين تمر في هذه الطرق المتضايقة المتضائلة التي يكتنفها الموت من يمين ومن شمال، وأنت حين تسافر في السيارة حامل للموت وقابل له كما قلت آنفا، وليس الغريب أن تكثر حوادث الموت التي تلقى المسافرين في السيارات والمتعرضين للسيارات المسافرة، وإنما الغريب كل الغرابة أن تكون هذه الحوادث قليلة نادرة كما هي الآن، وإذا دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الله يرعى مصر والمصريين، ويرد عنهم الخطر ويذود عنهم المكروه، كما يدل على أن المصريين وإن لم يتعلموا، وإن لم يتثقفوا، قد أتيح لهم حظ من المهارة والبراعة وحسن الاحتياط، وليس هذا كل ما يعلمك السفر في السيارات، وإنما هو أيسره وأظهره، ولكن انظر إلى هذه القرى التي تمر بها، وإلى ما يسيطر عليها من الفقر والبؤس والقذارة وفساد الأمر كله، فستسأل نفسك كما سألت نفسي: لماذا ندفع الضرائب؟ ولماذا ننشئ الدولة؟ ولماذا نمنحها ما ينبغي أن نمنحها من الطاعة والإذعان للنظام؟ ولن تكتفي بإلقاء هذه الأسئلة على نفسك، ولكنك ستتحرج من أن تذوق في بعض الطريق ما تحمل من طعام؛ لأنك ستستحي أن تفرغ لطعامك ولذتك ومن حولك هذا البؤس المنكر والفقر المدقع والبلاء العظيم، ومن حولك قوم يمرون بك فينظرون إليك، منهم من يبغضك ومنهم من يحسدك، ومنهم من يتمنى لو انتقل ما في يدك إلى يده، واتخذ طريقه إلى فمه لا إلى فمك، وأكثرهم يمنعه الحياء من أن يزيد على النظر والأماني والإذعان للقضاء، وقليل منهم يدفعه البؤس إلى أن يسألك فضلا مما أنعم الله به عليك أو ينتظر انصرافك عن طعامك ليحتاز بقيته راضيا فرحا.
وهذا كله في أيام العيد التي يوسع الناس فيها على أنفسهم ويوسع فيها بعضهم على بعض، فكيف بالأيام التي لا عيد فيها ولا توسعة، وإنما هو العمل المتصل والضيق المستحكم، منذ تطلع الشمس إلى أن تغرب، ومنذ يظلم الليل إلى أن ينجلي؟
والحمد لله على أن هذه الخواطر المؤذية المؤلمة التي تعترضك أثناء السفر فتنغص عليك لذته وتفسد في نفسك بهجته، ليست كل شيء، ولكن هناك ما يصرفك عنها أو يصرفها عنك، وينقلك إلى طور آخر فيه الراحة والرضا، وفيه الجذل والأمل، وفيه البهجة والنعيم. هناك استقبال مضيفيك حين تنتهي الرحلة بهذا البشر الباسم، وهذه البشاشة الطلقة، وهذا الود الذي يحط عنك الثقل ويرفه عليك من الجهد، ويرد نفسك إلى الأمن وقلبك إلى الطمأنينة، وينسيك ما احتملت من مشقة، وما تعرضت له من خطر، وما رضت نفسك عليه من عناء، وهناك الأحاديث التي تطوف بك في أرجاء الحياة الحاضرة ضاحكة مرة، حزينة مرة أخرى، متأسية مرة ثالثة، والتي تنقلك إلى الحياة الماضية معتبرة متعظة، معجبة مكبرة، راثية محزونة، بين حين وحين، والتي قد تتجاوز بك الماضي والحاضر وما يدعوان إليه من رضا وسخط ، ومن إعجاب وغضب، إلى حياة مستقبلة مجهولة، ولكنها على ذلك ترسم في الآفاق ابتسامات حلوة تثير الأمل وتبعث الرجاء.
ثم هناك هذا المكان الذي قصدت إليه من الصحراء العريضة البعيدة الآفاق، التي ملأها الهدوء حتى اكتظت به، وحتى عجزت أو كادت تعجز عن أن تشتمل شيئا آخر غيره؛ لأنها لا تستطيع أن تشتمل إلا هدوءا ينبو عنه ما يكون فيها من حركة الناس وأصواتهم واضطرابهم فيما يعرضون له من الأعمال، هدوء في الجو إلا حين تعصف العاصفة، وتتناوح الرياح، ويثور رمل الكثبان، وهدوء في هذا الرمل الساكن المستقر الذي يداعب النسيم سطحه، فلا يبلغ منه شيئا، ولا يثير منه شيئا، وإنما يمسه مسا رفيقا رقيقا، كما تجري يدك في خفة ورفق ورقة على خد صبيك الحبيب إليك، وهدوء في أعماق هذا الرمل قد مضت عليه القرون، وتصرمت من دونه الحقب، قد نسي الزمان ونسيه الزمان، لولا هذا الأستاذ الذي أرسلته الجامعة منذ أعوام ليرد إلى أعماق الصحراء ذكر الزمن، وليرد على الزمن بعض ما نسيه من الكائنات. هدوء شامل كامل، كان خليقا أن يتصل شاملا كاملا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لولا أن كلية الآداب أرسلت صديقنا سامي جبرة ومعه طائفة من الأعوان وفريق من العمال فأزعجوا هذا الهدوء، وبعثوا في هذه الصحراء حظا من حياة.
فهذه الحركة المتصلة، وهذه الرمال تنقل من مكان إلى مكان، وهذا الغناء الحلو، غناء الصعيد، يوقظ النوم الذي اتصل في أعماق الصحراء، وهذه الكهرباء تخلف الشمس إذا كان الليل، وهذه أداة الكهرباء تحدث هذا الصوت المتصل المتقطع الذي يتبع بعضه بعضا في سرعة ونشاط، والذي يثير في نفسك خواطر غريبة حين يتقدم الليل، فيسكن كل شيء، ويسكت كل شيء غيره، فإنه يظل متصلا متقطعا يتبع بعضه بعضا في سرعة ونشاط.
ثم هذه الآثار التي انحسر عنها الرمل، وانجلى عنها النسيان، واتصلت بأسباب الحياة، أو اتصلت بها أسباب الحياة، وإذا هي تتحدث إلى الناس وتسمع منهم وتعطيهم ما يريدون من العلم بالتاريخ والفن عن رضا وطواعية أحيانا، وبعد إباء وامتناع أحيانا أخرى، وقد يلح عليها السائلون بالسؤال فتستعجم ولا تجيب، والدار لو كلمتهم ذات أخبار، كما يقول الشاعر القديم.
صفحة غير معروفة