يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا
ولم يحدثهما صوت من هذه الأصوات التي يقول فيها الشاعر القديم أيضا:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وإنما أنشأتهما لطمتان إحداهما فتحت للعاشقين باب النعيم الذي لا يوصف، والأخرى فتحت لهما باب الجحيم الذي لا يطاق، ولو أن قصة هذين العاشقين كانت من هذه القصص التي يبتكرها خيال الكتاب لما تحدثت إليكم بها، ولأعرضت عنها إعراضا، ولرأيتها أثرا من آثار خيال مريض لا يحسن التحليق في أجواء الفن بمقدار ما يحس الإسفاف إلى الحقائق الواقعة، ولكنها قصة لم يخترعها الخيال وإنما اخترعتها ظروف الحياة، وهي إن صورت شيئا فإنما تصور سخف الإنسان وعبث الشيطان وائتلاف الحياة الإنسانية أحيانا من أشياء قليلة الغناء حقا.
كان ذلك في مدينة من مدن فرنسا تعرفونها جميعا حق المعرفة، وفي جنة من جنات هذه المدينة ليس منكم إلا من ألم بها مصبحا أو ممسيا ملتمسا للرياضة أو ساعيا إلى الجامعة، فكلكم قد درس في مونبلييه، وكلكم قد ألم بحديقتها المعروفة ... وأظنكم تذكرون أن كثيرا من الحفلات الشعبية تقام في هذه الحديقة، فقبيل حفلة من هذه الحفلات بدأت هذه القصة التي تضحك من أراد أن يضحك، وتحزن من أراد أن يحزن، وتصور سخف الحياة على كل حال. كل الناس يزدحمون على باب الحديقة ازدحاما شديدا ليشهدوا حفلا موسيقيا عسكريا قد خصص إيراده لإعانة الجرحى من أبناء المدينة في الحرب العالمية الأولى، وكان ذلك في الساعة الثانية بعد الظهر حين فرغ الناس من غدائهم، وكان ذلك في آخر الربيع وأول الصيف حين يشتد في مونبلييه ذلك الحر الرطب الذي يصهر الأجسام والنفوس جميعا، ويخرج الناس عن أطوارهم ويهيئهم للغضب السريع. كان الناس يزدحمون ويتدافعون بالمناكب، وكان صاحبنا يزاحم مع المزاحمين ويدافع مع المدافعين، وإنه لفي ذلك يتقدم خطوة ويتأخر أخرى، وإذا وجهه يتلقى على إحدى صفحتيه لطمة لم يتلق مثلها قط، لطمة لفتته إلى نفسه ولفتت الناس إليه ولفتته إلى المصدر الذي يمكن أن يكون قد ساقها إليه، وملأت قلبه غضبا وحفيظة وموجدة، بل قد ملأت قلبه نخوة ومروءة وثورة للكرامة المهدرة والشرف المهان.
فقد كان صاحبنا عربيا من أهل الريف، فلم تكد اللطمة تبلغ وجهه حتى ثارت نفسه وهاجت عاطفته وغلى الدم في عروقه وصعد إلى وجهه الملطوم، واستيقن أن العروبة كلها قد أهينت في شخصه إهانة لا تردها لطمة كاللطمة التي تلقاها، ولا يغسلها إلا ذلك الدم الذي زعم المتنبي أنه وحده هو الذي يسلم الشرف الرفيع من الأذى حين يراق على جوانبه.
كان هذا كله في لحظة بل في أقصر من لحظة إن أمكن أن يكون هناك ما هو أقصر من اللحظة، وقد رفع صاحبنا رأسه وتهيأ للهجوم الساحق الماحق الذي لا يبقي ولا يذر، ولكنه لم يكد يرفع رأسه ويلتفت به إلى يمين حتى أطرق ولسانه يقول عن غير إرادة وفي صوت متهدج أضحك منه من حوله وأضحكه من نفسه فيما بعد: معذرة يا سيدتي! قالت السيدة التي لطمته: معذرة من ماذا؟ بل أنا التي تعتذر إليك، فقد ظننت أنك آذيتني بهذا الدفع المنكر، ولم تكد يدي تصيب وجهك حتى عرفت أنك بريء وأن الآثم شخص آخر ليس له حظ من أدب ولا من تربية، وكان هذا الشخص الآخر الذي ليس له حظ من أدب ولا تربية قد ذاب في أثناء هذا كله واستخفى، ومن يدري لعله لم يكن إلا شيطانا كاد كيده ثم ابتلعته الأرض أو اختطفته السماء، ولعله لم يكن إلا خيالا لعب برأس السيدة، والشيء المحقق هو أنها أحست أو ظنت أنها أحست دفعا غير كريم فلطمت وجه هذا الفتى، ثم لم تلبث أن عرفت براءته فاعتذرت إليه من لطمتها في نفس الوقت الذي كان هو يعتذر إليها فيه من هذا البطش الذي هم أن يبطشه بها، ومن هذا الغضب الذي هم أن يصبه عليها صبا، والشيء المحقق أيضا هو أن هذه اللطمة التي دعت إلى تبادل الاعتذار قد دعت إلى تبادل الابتسام ثم إلى تبادل الحديث، ثم إلى الاستمتاع بالموسيقى العسكرية التي خصص إيرادها للجرحى من أبناء المدينة في الحرب العالمية الأولى، والشيء المحقق أيضا هو أن الأسباب التي مدتها هذه اللطمة لم تنقطع بانتهاء الحفلة وإنما اتصلت وكانت مصدرا غريبا لحب غريب.
وما أظنكم تنتظرون أن أقص عليكم كيف خرج اللاطم والملطوم من الحديقة وكيف سعيا معا إلى قهوة فرنسا ، هناك قريبا من الاسبلاناد، وكيف تبردا فيها من حر الصيف ومن حر الحفلة بقدحين من أقداح الجعة، وكيف اتصل الحديث بينهما حلوا رائقا للنفوس حينا وحادا ممزقا للقلوب حينا آخر حتى فرق بينهما مقدم الليل فتفرقا ولكن على موعد للقاء ...
صفحة غير معروفة