فأجاب: ذاك سره ... وسنعرفه في حينه.
ولكني أعرف سره، أعرف قلبي، أعرف حظي. عباس انتحر، الشر يعرفه المزمار!
عباس كرم يونس
البيت القديم والوحدة هما رفيقا عمري الأول، أحفظه عن ظهر قلب. بوابته مقوسة الهامة، شباك المنظرة ذو القضبان الحديدية، حجراته في الطابقين ذوات الأسقف العالية، والعروق الخشبية الملونة، وبلاط أرضياتها المعصراني، أثاثه القديم الشاحب من الكنبة والشلت والحصر والأكلمة، وزجاج شراعات أبوابه بقطعه الملونة بالأحمر والأخضر والبني، وأحياؤه من الفئران والصراصير والأبراص، وسطحه المغطى بحبال الغسيل مثل أسلاك الترام والترولي باص، المطل على أسطح تكتظ بالنساء والأطفال في عصاري الصيف. أجول فيه وحدي، وصوتي يتردد بين أركانه، مستذكرا درسا، أو مسمعا شعرا، أو مقلدا مقطوعة مسرحية، أو منشدا أغنية. أطل على الطريق الضيق متابعا تيار الخلق، تواقا إلى رفيق ألاعبه. يناديني غلام قائلا: انزل.
فأجيبه: الباب مغلق، والمفتاح مع أبي.
اعتدت الوحدة بالنهار والليل فلا أخافها، ولا أخاف الشياطين.
يقول أبي ضاحكا: لا شيطان إلا ابن آدم.
فتبادرني أمي: كن ملاكا.
وأتسلى عند الفراغ بمطاردة الفئران والأبراص والصراصير. قالت لي أمي ذات يوم: كنت أحملك معي وأنت وليد في مهد من الجلد، وأضعك على أريكة إلى جانبي في حجرة قطع التذاكر، وطالما أرضعتك في المسرح.
ذلك عهد لا أتذكره، ولكني أتذكر عهدا أحدث نسبيا، وأنا في الرابعة أو حوالي ذلك، فكنت أتجول في صالة المسرح، أو وراء الكواليس، وأستمع فيما بين هذا وذاك إلى ممثلين وهم يحفظون أدوارهم، فتمتلئ أذناي بأناشيد الخير والمواعظ ونذر الشر والجحيم، فأتلقى تربية لم تتح لي على يدي والدي الغائبين عني دوما بالنوم والعمل. وعند العرض الأول لكل مسرحية جديدة، كنت أشهدها مع والدي، وأمضي الوقت بين الانبهار والنعاس. وأيضا تلقيت أول كتاب مصور عن ابن السلطان والساحرة، أهدانيه فؤاد شلبي. هكذا عرفت بطل الخير وشيطان الشر في المسرح، ولم يكن لدى أحد من والدي وقت لتوجيهي، فضلا عن أن والدي لا يكترث بالتربية بتاتا، على حين قنعت أمي بوصية فريدة ترددها لي: كن ملاكا!
صفحة غير معروفة