ولا مراء في أن وعد المسيحي بالخلاص في حياة أخرى للرجل - أو المرأة - الذي يعيش في هذه الدنيا طبقا لتعاليم الكنيسة يساعد على تفسير تأثير المسيحية في نفوس الناس في العصور الوسطى. أما الاعتقاد بأن الدين أفيون فهو من خلق العقل الحديث الذي يرى - أو يأمل - ألا تكون الآلام من طبيعة الأمور. والمسيحية للرجل في العصر الوسيط لم تعد بحياة أفضل في عالم آخر فحسب، إنما أكسبت حياة العنف القلقة هذه، وحياة الجهاد، والنقص، والحاجة في الدنيا، معنى وحدودا وأهدافا، أوشكت أن تسد الفجوة عند أكثر الناس بين ما لديهم وما يحتاجون إليه. كان الرجل في العصر الوسيط أقرب منا إلى «الاستسلام» لعالم لا يستطيع أن يغيره كثيرا. كان يشعر بالطمأنينة وسط ما نعده نحن انعدام الطمأنينة: العنف، والحاجات المادية، والمشقة، بل والمخاوف التي تتولد عن الجهل بما نعده ظواهر طبيعية. وإنما كان يحس هذه الطمأنينة لأنه كان يدرك ضعفه إدراكا قويا. ولم يكن يخجل من ضعفه، ولم يكن هذا الضعف يزعجه. إنه لم يكن خطأه، ولم يكن، من الناحية الإنسانية، خطأ أي فرد آخر - ومن المؤكد أن أحدا لم يستطع أن يخرج على الدين إلى حد أن يعزو إلى الله الخطأ . كان الرجل في العصر الوسيط «يحس» الحق في العبارة التالية التي جرت على لسان أحد الفلاسفة المتأخرين، وأعني به ليبنتز، ولم تعد عنده أن تكون مجرد تعبير فكري لا ينم البتة عن الإخلاص، وتلك العبارة هي أن عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة. إنه ليس بالعالم السعيد، وليس بالعالم القانع؛ لأنه إن كان كذلك لاحتل الناس مكانة الله بغير حق. إنه في بساطة عالم الله.
الفصل الثامن
صنع العالم الحديث: (أولا)
الإنسانية
عاش الناس طويلا في الأزمنة «الحديثة» ولكن عقولهم لم تطبع بهذه الحقيقة انطباعا قويا. ويعد عصرنا - الذي اعتدنا أن نعد بدايته عام 1500 بعد الميلاد - أول عصر يصوغ هذا الاصطلاح صياغة واضحة، ويطبقه تطبيقا لا تناقض فيه. ولفظة «حديث» بالإفرنجية
modern
مشتقة من ظرف لاتيني معناه «في هذه الآونة». وقد ظهرت الكلمة في الإنجليزية بمعناها الشائع، الذي يقابل «القديم» في عهد إليزابث. وهذا الوعي بالمشاركة في الجديد، في طريقة من طرق الحياة تختلف عن طريقة السلف، وقد كان هذا الوعي بطريقة من طرق الحياة كما أحسه الكثيرون عند حلول عام 1700م وعيا بحياة «تفضل» كثيرا طريقة السلف - هذا الوعي في حد ذاته سمة من أوضح سمات ثقافتنا الحديثة.
وهذه الثقافة غاية في التعقيد، ونحن لا نستطيع أن نعرف «الحديث» تعريفا محددا هنا، ولكنا نأمل أن نصوغ شيئا فشيئا في الفصول القادمة تعريفا له. وهنا نجابه مشكلة فصل «الحديث» عن «الوسيط». وهي مشكلة عويصة؛ لأن ملايين المواقف المحسوسة التي نحاول أن نختصرها في هذين المصطلحين العامين لا ترتبط بالطريقة البسيطة التي تتضمنها عاداتنا اللفظية البلاغية في التفكير. إن الوسيط لا يتوقف حيث يبدأ الحديث عند نقطة واحدة في مدار الزمن، وليس الحديث شروقا ينتهي به ظلام الليل الوسيط. وليس الحديث وليد الوسيط، بل إن الوسيط لم يبلغ مرحلة الرجولة.
والواقع أن التفرقة بين الوسيط والحديث قد أهمت المؤرخين المحترفين كثيرا في الخمسين السنة الأخيرة أو ما يقرب منها؛ لأن البحث قد طمس التمييز الواضح بينهما الذي رسم حدوده أسلافنا؛ فقد كان التقسيم الفتري بين حديث ووسيط واضحا في جميع كتب الدراسة في أواخر القرن التاسع عشر: والنهضة، والإصلاح الديني، والإنسانية، والمكتشفات الجغرافية، واختراع الطباعة، وفصم الوحدة الدينية الوسيطة - كل ذلك قد تم حدوثه بصورة واضحة فيما بين عامي 1453م و1517م. وقد حدد الأمريكان خاصة للتاريخ الحديث نقطة بداية يرتاحون إليها كثيرا، وهي عام 1492م. وقد تغير كل ذلك اليوم. وردت النهضة خاصة إلى الوراء حتى بلغت ما كان يعد في وقت ما «عصورا وسطى» غير مشوبة فكاد يختفي التمييز بين الوسيط والحديث. وتقارب الاثنان، كالقطارين حين يصطدمان في لحظة واحدة.
هل معيارك «إحياء المعرفة» وتقدير أصح للثقافة اللاتينية الوثنية؟ إن المرحوم شارلس ه. هاسكنز قد دفع في كتابه «نهضة القرن الثاني عشر» هذا المعيار إلى الوراء حتى توغل في الأزمنة الوسيطة. أم هل معيارك التقدم في العلوم والتكنولوجيا؟ وقد رأينا من قبل أن القرون الأخيرة من العصور الوسطى كانت قرون تقدم علمي ملحوظ. والواقع - كما يحب الأستاذ جورج سارتون أن يشير - أن الإنسانيين الأصليين لعهد النهضة، والأدباء ورجال الدين، والأخلاقيين، كانوا على الأقل من حيث احتقارهم لنبش العلوم الطبيعية ومن حيث «الاستنباط» ومن حيث احترام سلطان الكلمة المكتوبة كما كان المدرسيون. بل ربما كان من الممكن أن ندفع عن الرأي الذي يقول بأن «النهضة» كما نعرفها معناها «تقهقر» في نمو العلم الحديث. أم هل معيارك اقتصادي، أي نمو اقتصاد مالي، ونظام للبنوك، واتساع في التجارة؟ إن البحث الحديث يدفع أكثر ذلك إلى الوراء حتى عصر الصليبيين، وأوج العصور الوسطى أم هل معيارك قيام الدولة التي عمادها الوحدة الأرضية لتحل محل مجموعة الملكيات الإقطاعية؟ إن من المؤكد أن فرنسا وإنجلترا كانتا دولتين أرضيتين عندما التحمتا في حرب المائة عام في القرن الرابع عشر.
صفحة غير معروفة