أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي

كرين برنتن ت. 1450 هجري
82

أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي

تصانيف

انظري أيتها الربة النقية الطاهرة،

هذه دموعي تنحدر حارة على خدي،

أنت عذراء، ونحن في رعايتك،

فاحفظي لي عذرتي وتعهديها،

وما دمت عذراء فأنا في خدمتك.

ويزل حصان أركيت في وثبته، ويموت الرجل من جراحه. ويحظى بالعذراء بالامون.

هذه قصة خيالية معتدلة. ويسخر شوسر في قصة أخرى من «قصص كانتربري» عنوانها «نظم سير توباز»، وهو هنا يتهكم على الخيال الأدبي. وهو حتى في «قصة الفارس» لا يعدو أن يكون ساخرا في شعره من حقيقة الحب الرقيق. وكان غيره أقل منه ارتباطا بهذه الأرض. ومن ثم فإن العشاق في خيال العصور الوسطى كانوا يكابدون كل ما يمكن تصوره من أهوال ومحن، ويسترسلون في صفوف مختلفة مجردة، بل ميتافيزقية، من ضروب الصراع الذي يمكن أن ينشب بين الواجب، والشرف، والحب، ويتمسكون بالفضيلة كما يتمسك الشهيد المسيحي بعقيدته. وفي صورة غامضة باهتة يتوقع المرء أن تكون وراء هذا كله فكرة ما عن الاتصال الجنسي. ولكن ربما يكون الأمر كذلك - وربما لا يقحم هذه الفكرة إلا عصرنا الفرويدي. ومع ذلك فمن الإنصاف أن نقول إن الفروسية بذلت جهدا جادا وناجحا في أغلب الأحيان لتتحكم في ظاهرة من ظواهر النشاط البشرى، تسيل - في الطبقة المتميزة خاصة - إلى ألا تخضع للتحكم، وإلى أن تنتهي إلى نوع من الفوضى التي تقضي على النظام الذي تحتاج إليه مثل هذه الطبقة. كانت الفروسية تتضمن بحكم نظامها تساميا حقا بدوافع غاية في القوة - تساميا يحس الكثيرون ممن لا يكتفون ببث الرعب في النفوس أنه معدوم في الغرب الحديث.

ومهما يكن من أمر فإن تقليد الحب الرقيق قد طبع ثقافة الغرب بطابعه، ووضع المرأة على قاعدة مثالية تجد اليوم مشقة حتى في أن تتظاهر بملاءمتها. وفي النضال الأبدي بين هذا العالم والعالم الآخر المثالي الذي يعد بالتأكيد من حيث قوة أثره خصيصة من الخصائص الفذة في الثقافة الغربية، اتخذ الحب الجنسي - بفضل المسيحية والعصور الوسطى - جانبا يميل إلى العالم الآخر. وأرجو ألا تخطئوا فهم ما أقول؛ فحتى الإغريق القدامى قد عرفوا الحب بين الرجل والمرأة، وكذلك من الواضح أن شعوبا كثيرة حديثة لم تأخذ بعد بالتقاليد الغربية كاملة. وقد عرفته، ولكنهم لم يعرفوا «الحب الخيالي» المستحيل الذي لا يرتبط بهذه الدنيا، الحب المثالي الذي لا يعرف الفراش، الحب الذي يتجاوز المحبة، بل إننا لا نعرف اليوم هذا الحب الخيالي كما عرفه أسلافنا في القرن التاسع عشر، ولكنه ترك أثره اللاواقعي فينا - وبخاصة في هوليوود.

وهناك أمور كثيرة أخرى تتعلق بالفروسية بعدما تدهورت أو زاد نضجها مما يستحق الالتفات إليه - من ذلك الضعف العاطفي الذي تحولت إليه فضيلة الفروسية التي تدعو إلى احترام الأدنى والضعيف ومنكود الحظ، ومن ذلك أن شدة التطلع إلى كل ما هو عجيب قد نمت حتى بدت الوحوش الخيالية أمرا طبيعيا، ومن ذلك أن الفروسية أمست نوعا من الحماية لشخص النبيل ضد نفوذ أصحاب الأموال والتجار وأرباب البنوك الآخذ في النمو. وليس بوسعنا هنا أن نتوسع في أكثر من نقطة إضافية أخرى، ربما كانت بالنسبة إلى الفروسية بأسرها أكثر أهمية من الدين والحب، وهي بالتأكيد أكثر أهمية بالنسبة إلى تدهور الفروسية، وأعني بها فكرة الشرف. فإذا كانت الفروسية الأولى تبدو في أساسها قانونا يحاول أن يخضع الفرد للمجموعة، وإذا بدت كأنها في كثير من النواحي تجعل الرجل المقاتل عضوا في فريق، إلا أنها - بالرغم من ذلك - تؤكد بشدة أهمية الفرد، على تباين في ذلك مع نظام إسبرطة. كان الفارس دائما على وعي شديد بشرفه، وبنفسه كفرد، وهو الحكم النهائي فيما يلائم وما لا يلائم كرامته. وفي السنوات الأخيرة من الفروسية كان كل أمر يتركز حول فكرة الشرف، وبات الفارس شخصا حساسا إلى درجة هستيرية ، منقطع الصلة عن عالم القيم العادية، حتى تأهب في الواقع لذلك الوصف الذي صوره فيه سرفانتيس. وربما لم يكن من المصادفة أن الأمة التي غالت أرستقراطيتها في الشرف، وأعني بها أمة الإسبان، هي التي أخرجت في «دون كيشوت» كتابا يعد في أكثر أنحاء العالم هجوما قاتلا على مثل الفروسية.

الفروسية هي إحدى تلك المركبات الكبرى - أو المجموعات - من الأفكار، والعواطف، والعادات - شأنها في ذلك شأن الرومانسية، أو الديمقراطية، أو الجماعية - التي تتحدى فينا الإدراك. ومن الطرق المفيدة في معالجة مثل هذا التحدي أن نوازن بين مركب من هذه المركبات ومركب آخر، بينهما شيء مشترك. والفروسية من غير شك تشترك مع المسيحية في شيء ما، بل إن الفروسية الأولى هي إلى حد ما محاولة إلى مسح جماعة من المقاتلين الوثنيين البدائيين بمسحة المسيحية. وطقوس رسم الفروسية تكون جانبا من طقوس المسيحية. والفارس كصليبي كثيرا ما يكون الفارس في أحسن صورة له. والواقع أن الصليبيين قلما كانوا من القديسين - وربما بدا جوانفيل - ذلك الصليبي الذي التقينا به منذ حين - الرجل المثالي أقرب إلى الوثني منه إلى المسيحي. ومع ذلك فإن إحساس جوانفيل بالشرف والواجب، وضميره، وإدراكه بأنه قد يكون هناك من الناس قديسون، كل ذلك من مميزات المسيحية - المسيحية العملية، البطولية التي تمارس كل يوم.

صفحة غير معروفة