أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي

كرين برنتن ت. 1450 هجري
56

أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي

تصانيف

وتتنوع الآراء الحديثة عن بولس وأعماله وأفكاره تنوعها عن يسوع. وهناك تطرف ملحوظ يظهر جليا في عنوان الكتاب الذي وضعه بنتام؛ ذلك الكاتب الإنجليزي الثائر في القرن التاسع عشر، وهو «يسوع، لا بولس». وهناك - على وجه العموم - تفسير متطرف يقول بأن الأهداف الإنسانية التي دعا إليها يسوع الرحيم قد تحولت على يدي بولس - الذي كان يسعى إلى السلطة ويدعو إلى التقشف الصارم - إلى ظلم آخر منظم، وهذا رأي شائع بين الراديكاليين العاطفيين خارج الكنيسة المسيحية، من أمثال بنتام. أما الرأي المناقض في الطرف الآخر فهو أن يسوع كان ثائرا شيوعيا خطرا، وإن يكن بغير تأثير. أما بولس فهو الإداري الحكيم، وصاحب النظام الواقعي الذي حد من تطرف تلاميذ يسوع، وجعل الكنيسة المسيحية وسيلة سليمة معقولة تحفظ الجماهير في أماكنها، ويتعذر على المسيحيين الطيبين أن يأخذوا بهذا الرأي كذلك، وإن يكن قريبا من رأي المكيافيليين الذين جاءوا فيما بعد، مثل جماعة «العمل الفرنسي» في الجمهورية الفرنسية الثالثة.

وقد آمن المسيحيون عامة، كما آمن بولس نفسه، أن عمل الرسول ليس إلا تحقيقا لعمل السيد، وهو توسعة لرسالته ولكنه ليس إفسادا لها إطلاقا. ولم يعرف بولس نفسه يسوع قط، بل إن شارل الطرسوسي في الواقع - كيهودي أصيل - قد عاون في وقت من الأوقات على اضطهاد مجموعة المسيحيين اليهود الصغيرة بعد صلب المسيح. وقصة الإنجيل التي تروي تحوله إلى المسيح وهو في طريقه إلى دمشق باتت مثلا كلاسيكيا لتحول القلب تحولا مفاجئا ومعجزا بشكل ظاهر. ويستدل من هذه القصة عن بولس أنه كان في حالة من حالات الذهول، كما يستدل من شذرات الأخبار المبعثرة في المصادر، على أن بولس كان - كما يرى بعضهم - مصابا بالصرع. ومثل هذا التشخيص الطبي البعيد هو، بطبيعة الحال، مستحيل من الناحية العلمية. ومن الجلي أن بولس لم يكن شخصا غبيا متمسكا بالقديم عديم الخيال، وإنما كان عبقريا. ومن خصائص عصرنا الحديث تردد ظهور الفكرة التي تقول بأن عظماء الرجال يمثلون حالات مرضية خاصة. وهذا الرأي يزيدنا علما عن بعض مقتضيات الأفكار الديمقراطية الحديثة أكثر مما يبصرنا بحقيقة عظماء الرجال، وبخاصة ذلك الجانب من الرأي الذي يعتقد أصحابه أن التوسط مقياس خلقي وجمالي.

إن أعظم ما قدمه بولس لنشر المسيحية هو تمهيد الطريق للانتقال من المذهبية اليهودية إلى العالمية. وقد تمت الخطوة الأولى نحو العالمية في ذلك الزمان والمكان - بطبيعة الحال - على أيدي الإغريق. وإنما كان بولس يعبر بالكتابة والكلام عن عالمية الإغريق الهلينستية، وكان على علم بالأفكار الدينية والفلسفية الإغريقية. والظاهر أنه وقف في باكورة حياته كمسيحي في وجه الاتجاه التهويدي في الديانة الجديدة. وقد أكسبه عمله كمنظم لقب «رسول الأمميين» وكانت العقبة الكبرى في وجه الأمميين الذين وجدوا أسلوب الحياة المسيحية جذابا «قانون اليهود»، تلك المجموعة المعقدة من الطقوس التي كان يتعلمها اليهودي الوليد كجزء من النمو. والمشكلة في أبسط صورة يمكن أن توضع في هذا السؤال: هل يمكن للرجل أن يكون مسيحيا بغير ختان؟ وإذا كنت تتوقع من الأممي البالغ أن يتحمل العملية التي كانت قطعا جد أليمة في ذلك الحين، فأنت تتطلب الكثير من الطبيعة البشرية الضعيفة. وقد أجاب بولس عن هذا السؤال بصراحة فقال: إن الإغريق، والمصريين، والرومان، الذين يقبلون المسيحية، في حل من الختان، وفي حل من الامتناع عن لحم الخنزير، وفي حل من التقيد بحرفية القانون؛ «لأن الحرفية تقتل، والروح تهب الحياة».

ولكني أرجو ألا يضلكم هذا النص المشهور؛ فلم يكن بولس فوضويا، ولم تكن هذه دعوة إلى المسيحيين الذين اعتنقوا المسيحية فيما بعد إلى أن يفعلوا ما يشاءون؛ فالروح - طبقا لحياة بولس وأعماله - أمارة، وإن تكن مواسية لصاحبها. وحياة الروح طريقة محددة معينة من طرق العيش. وإن بولس ليبدو في الواقع ل «رجل من الخارج» كأنه استبدل بالشريعة اليهودية شريعة مسيحية. كما يبدو حقا للمتعقل كأنه يحب أن يتلاعب قليلا باللفظ؛ فهو يقول: «كل شيء عندي شرعي، ولكن ليس كل شيء ضروريا، كل شيء عندي شرعي، ولكن كل شيء لا يزيدني علما.»

إننا نلتقي هنا بإحدى المشكلات الكبرى العقلية والعاطفية الإنسانية المتكررة. إن الرجل الذي يريد للناس أن يسلكوا سلوكا جديدا لا بد له أن يصرفهم عن السلوك القديم، لا بد أن يقول لهم إنهم - وينبغي لهم أن يكونوا - «أحرارا» في السير في مسالك جديدة، وإن الشريعة، والمواصفات، والعادات، التي نشئوا على طاعتها لا تقيدهم «في الواقع». إن المصلح ثائر بالضرورة باسم الحرية، ولكنه لا يريد للناس في الواقع أن يؤدوا الأعمال المتنوعة المذهلة التي يؤدونها لو كانوا أحرارا في اتباع دوافعهم وشهواتهم الطبيعية، أحرارا من حساب الضمير والقانون ورجال الدين. إنه يريد لهم أن يؤدوا الأعمال «الصحيحة». ومن الحق أن «الروح يهب الحياة»، وهو يعتقد ذلك فعلا. ولكن كما قال أحد معاوني بولس: «لا تصدق كل روح، وإنما استمع إلى الروح إن كانت من عند الله؛ لأن كثيرا من المتنبئين قد انتشروا في الأرض.» والمصلح يجد أيضا أنه لا مناص له من الرجوع إلى القانون. الناس أحرار، ولكنهم أحرار في عمل الحق فقط. ولا يمكن إلا أن تكون النتيجة في صيغة متناقضة، كتلك العبارة الشهيرة لروسو، وهي «إرغام المرء على أن يكون حرا». وقد صاغ الفكرة يسوع في عبارة أفضل، فقال: «من يريد إنقاذ حياته لا بد أن يفقدها، ومن يفقد حياته من أجلي فسوف يجدها.»

أما بولس - كرجل إداري، كشخصية عظمى من السلسلة الطويلة للقادة الذين عملوا على أن تصبح الكنيسة المسيحية مؤسسة بالغة التأثير كما كانت - فهو ينتمي بشكل واضح إلى جانب أصحاب النفوذ. ويتبين من رسائله أنه كان يمسك في براعة بقبضة قوية على الجماعات الصغيرة المكافحة التي كانت تنتشر في جميع أنحاء العالم الإغريقي، واستقرت بالفعل في إيطاليا. وليس معنى هذا أن بولس كان من أصحاب السلطة الصارمين المتعسفين، أو حتى النظاميين - وذلك أدهى وأمر. كان يعتمد على فصاحته الشديدة، وعلى جاذبيته الشخصية التي كانت قطعا عظيمة جدا، وعلى المعرفة الإنسانية التي يدركها رجل ولد ليشفي الأرواح. ولكن بولس من الناحية العملية لم يكن لينا البتة، ولم يكن قطعا على شاكلة من نعده نحن الأمريكيين المحدثين متحررا أو إنسانيا.

ومع ذلك فقد كان بولس أكثر من رجل إداري، كان عليما بأصول الدين، كرس - كما رأينا - كل قوته لعملية نشر الكنيسة الجديدة في جميع أرجاء العالم، ولأن يجعل رسالتها جذابة للأمميين. وقد عاش بين آباء الكنيسة ثقة كبرى في المذهب الذي يدعو إلى «التبرير بالإيمان» الذي سوف نعود إليه. أما هنا فيجدر بنا أن نركز اهتمامنا في مسيحية بولس العملية، أو نوع الحياة التي أراد للمسيحيين أن يسلكوها.

ولكنا يجب أن نلاحظ أولا أن بولس لم يكد قط ليعتقد أن المسيحيين سوف يعيشون أمدا طويلا فوق هذه الأرض - شأنه في ذلك شأن أكثر أبناء جيله. وقد قال المسيح نفسه - كما جاء في الإنجيل الأول: «سوف يكون هنا نوع من البقاء، الذي لا يعرف طعم الموت، حتى يشهدوا «ابن» الإنسان قادما إلى مملكته.» واعتقد المسيحيون الأوائل أن المسيح سوف يعود في يوم من الأيام ويقضي على هذه الدنيا، دنيا التجربة الحسية. وسوف يكون هناك حساب في النهاية، ونعيم أو جحيم أبدي في عالم آخر. ومن الطبيعي أن أولئك الذين كانوا يؤمنون بهذه العقيدة لم يأبهوا بالمشروعات بعيدة المدى، أو بقياس الميول والاتجاهات، أو بالعمل البطيء الذي يؤديه المرء بتفكيره العام. ولو أن بولس اعتقد أن الكائنات البشرية سوف تبقى في ألفي العام المقبلة على الأقل، لكانت آراؤه - فيما أتصور - أكثر اتفاقا مع الطبيعة البشرية.

ذلك أن كثيرا من تعاليم بولس كانت متزمتة بمعنى الكلمة الأمريكي الحديث الشائع على وجه العموم؛ فقد كانت آراء بولس فيما يتصل بالعلاقات الجنسية - على سبيل المثال - صدمة للكثيرين، حتى قبل جيلنا الذي تأثر بفرويد، والإصحاح السابع من رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، والعبارة الصريحة التي جاءت فيه، وهي «التزوج أصلح من التحرق» هو في الواقع كلام غامض. ليس من شك في أن بولس كان يود لو امتنع الجنس البشري بأسره عن الاتصال الجنسي. ولكن جانب التجربة والخبرة في هذا الرجل العملي جعله يدرك استحالة ذلك، حتى وإن كانت نهاية العالم قريبة منا. ولذا نصح بالزواج المسيحي، وله في الزواج المختلط بين المسيحيين والوثنيين رأي شائق فيه شيء من التسامح.

الحياة الطيبة إذن عند بولس حياة زهد فيما يتعلق بالمتع الحسية، سواء كانت متعة الفراش أو متعة الطعام («لكن اللحم لا يوصلنا إلى الله. وإذا أكلنا لا نتحسن، وإذا لم نأكل لا نسوء»). وهي حياة بسيطة، خالية من الغرور العقلي الذي أسماه الإغريق خاصة بالحكمة: «ألم يجعل الله حكمة الدنيا حماقة؟» وهي حياة خالية من النميمة، والتفاهة، والمنازعات، والغيرة في شئون الحياة اليومية في هذه الدنيا المبتذلة. وهي كذلك حياة خالية من الخطايا البطولية، بل هي فوق هذه الخطايا؛ ذلك لأن بولس - وأقولها مرة أخرى - كان يعمل مع عامة الرجال والنساء، وإليهم كان دائما يوجه الخطاب. أراد لهم أن يخلصوا أنفسهم من حياتهم الفردية الصغيرة الأنانية، إلى ذلك التيار العظيم الذي لا يتلاطم فيه الموج، وهو حياة الروح.

صفحة غير معروفة