ليس العهد القديم كتابا، ولكنه سجل - متقطع وإن لم يكن مضللا - لخبرة شعب له صفاته الخاصة. وهو لا يشبه في شيء ما نسميه العلم إلا في القليل؛ أي إن به في الواقع قليلا من تلك النظرة إلى العلاقة بين الإنسان والكون التي نسميها أحيانا التفكير المنطقي. ليس في العهد القديم ما يشبه ثيوسيديد، أو أبوقراط، أو حتى أرسطو. وحتى تلك المجموعة من الحكم التي تسمى سفر الجامعة، الذي يبدأ بهذه العبارة: «باطل في باطل، الكل باطل»، ليست محاولة لتحليل سلوك الإنسان تحليلا واقعيا، إنما هي شكوى يائسة من إنسان يجد أن التعمق لا يكفي لسبب ما. وإذن فهذا القدر الكبير من الأدب هو في الأغلب أدب يستهدف تلمس النهائي، وتلمس الشعرى، وشيء يتجاوز هذه الحياة. إنه أدب لا يقبل قط عالمنا هذا، عالم الحواس، والأدوات، والآلات - بل ولا يتطلع إلى دراسته.
إن ما يؤديه العهد القديم بصورة رائعة هو متابعة تطور الضمير اليهودي، والنظرة اليهودية إلى العلاقة بين الأفراد كأفراد وربهم المقدس. وهذه العلاقة هي الجانب الرئيسي من الخبرة اليهودية التي انتقلت إلى الخبرة المسيحية. ويهوه - كما ذكرنا - يشبه في أول الأمر نوع الإله الذي شاع في الزمان القديم، وهو ليس البتة إلها رحيما، وعند أول لقاء لنا به نجده - كالإله اليهودي القبلي - عليا، مفردا، وليس مجرد عضو في مجموعة متنازعة من الآلهة، ولكنه إله اليهود وحدهم.
وكانت للقبائل الأخرى آلهة أخرى. وقد كان يهوه إلها غيورا، ولم يشأ أن يعتنق شعبه الإيمان بأي إله من هذه الآلهة القبلية. والواقع أن بعض الفقرات التي لا يرتاح إليها القارئ في الإنجيل - من وجهة نظر الإنساني أو العقلي في العصر الحديث - إنما تروي كفاح يهوه الطويل الظافر في سبيل الدفاع عن نفسه وعن شعبه ضد إغراء الآلهة والإلاهات المتصارعة. ولم يكن يهوه كأولئك الأشخاص الذين تتحدث عنهم في مدارس الأحد. وكانت له - فوق ذلك - صفات أخرى مما يتميز به إله شعب بدائي؛ كان يمشي على الأرض، ويتحدث إلى إبراهيم، ويمتحن رسول الله، ويظهر لماما ولكن بصورة مجسدة في عظته لموسى في سيناء.
وقد يميل خصوم الكهنوت، والمناطقة، والعقليون الدينيون المحدثون من كل الطوائف، إلى المبالغة في صفة الشخصية البدائية القبلية الشبيهة بالإنسان التي كان عليها يهوه هذا الذي ورد ذكره في أسفار موسى الخمسة. وربما أكون قد بالغت عن غير قصد في الفقرة السابقة، ومع ذلك فمن العسير أن يقرأ المرء في شيء من العناية كتابا كسفر التكوين ولا يحس أن الإله الذي يصور فيه يبعد كل البعد عن الإله في أية ديانة حديثة عليا قد نكون على علم بها - كاليهودية، والمسيحية، والإسلام، والبوذية.
ولا يتطرق الشك إلى الأسفار المتأخرة في العهد القديم، في الإصحاحات الستة والعشرين الأخيرة من سفر أشعياء، وفي سفر أرميا وسفر أيوب. لقد شق اليهود طريقهم إلى فكرة ديانة واحدة عالمية، إلى وحدانية خلقية رفيعة، يعتقد أنبياؤها أنها صادقة لجميع البشر. ويقول أشعياء الثاني خاصة: «أنا الرب ... أقدمك عهدا للناس، ونورا للكفار.» وربما بات اليهود حقا - أكثر من أي عهد سبق - الشعب المختار. ولم يخترهم إله الرعاة القديم الصاخب لكي يستمتعوا بالمراعي الخضراء بعد أن يحزوا رقاب عدد كاف من الفلسطينيين، وإنما اختيروا لكي يبينوا للناس بسلوكهم - إن هم استطاعوا ذلك - أن الله يريد للناس أن يعيشوا في سلام وعدل: «أنتم شهودي ... وخادمي الذي اخترت، لكي تعرفوني وتؤمنوا بي، وتفهموا أنني هو. لم يسبقني إله، ولن يأتي بعدي إله، إنما أنا الرب، وليس هناك غيري مخلص.»
وسفر أيوب هو من عمل شاعر وفيلسوف يهودي متأخر (أو من عمل عديدين؛ لأن أكثر الباحثين يعتقدون أن هناك على الأقل جزءا واحدا رئيسيا مدسوسا على الكتاب) يجاهد في حل مشكلة تواجه كل الأديان السامية الأخرى؛ وتلك هي مشكلة الدفاع عن العناية الإلهية مع وجود الشر في الدنيا، أو تبرير تصرف الإله مع الإنسان. الله على كل شيء قدير، عليم بكل شيء، خير من كل وجه من الوجوه. فكيف إذن نفسر وجود الشر؟ إننا لا نستطيع القول بأن الله يريد أن يقضي على الشر، ولكنه عاجز عن أداء ذلك. كما أننا لا نستطيع كذلك أن نقول إنه - إذ يسمح بالشر - يصنع بنفسه الشر، ولكن العقل الحازم الذي يؤمن بعالم آخر يستطيع أن يرى في حاجة كل فرد إلى التغلب على الشر، أو في نقص الفرد، الخطوة النهائية اللازمة نحو الخير، أو الكمال.
ولكن متاعب أيوب - من أحد الوجوه - محسوسة بدرجة أكبر: إنها صورة من صور مشكلة الدفاع عن الإله بالرغم من وجود الشر، وهي المشكلة التي كانت دائما تزعج المسيحيين. وإذا سلمنا بأن الله يسمح بالشر حتى تتاح لنا فرصة التغلب عليه، وحتى نحيا حياة طيبة بالرغم من الإغراء بالحياة السيئة، ترتب على ذلك بالتأكيد أن السلوك الطيب يؤدي إلى النجاح والسعادة، والسلوك السيئ يؤدي إلى الفشل والشقاء. غير أنا نرى في كل ما حولنا أن الشرير يفلح والطيب يعاني، وكان أيوب رجلا طيبا، ثريا، سعيدا ، وسمح الله للشيطان أن يمتحن إيمان أيوب بإصابته بسلسلة من الكوارث، وقد احتمل أيوب فقدان ثروته بهذه العبارة الشهيرة: «الله أعطاني، والله أخذ مني. بارك الله في اسم الرب.» واستطاع أيوب أن يحتمل المصائب البدنية. ولما تراكمت على أيوب الآلام، ولما أظهر أصدقاؤه إيمانهم بأن وراء هذه الآلام البادية لا بد أن يكون هناك شر عظيم، بدأ أيوب - لا أقول يشك في الله - محاولة البحث عن الحق بنفسه من خلال آلامه. وأخيرا ظهر الله بنفسه وذكر أيوب بأن الإنسان تافه جدا، وأن كلمة الله عظيمة جدا، وأن إشفاق الإنسان على نفسه هو في الواقع شر وادعاء. عندئذ يتوب أيوب، ويقول: «أعلم أنك تستطيع أن تفعل كل شيء ... ولذلك قلت إني لست أفهم. كم من أمر يدعو إلى العجب لم أدركه ... ومن ثم فإني أمقت نفسي. وأتوب حتى في التراب والرماد.» عندئذ عادت إلى أيوب صحته وثروته، وعاش بعد ذلك عيشة سعيدة.
هذه خلاصة مجردة - وقد تكون خلاصة عقلية بمعنى الكلمة السيئ - لشيء لا يمكن تلخيصه في يسر. إن معنى سفر أيوب معنى عاطفي، وهو شيء يثيره الشاعر نفسه، حتى وإن كان أكثرنا لا يستطيع معرفته إلا مترجما. ومع ذلك فإننا إن أردنا أن نفيد من سفر أيوب في هذه الحياة الدنيا، فإنما يكون ذلك إن عرفنا أن عقولنا الصغيرة البشرية الحاسبة لا تستطيع أن تبلغ مبلغ علم الله بأية وسيلة من الوسائل، بل ولا تستطيع القرب منه. وليست هناك مشكلة فيما يتعلق بإرادة الله للشر؛ لأننا لو فرضنا وجود هذه المشكلة كان هذا الفرض تصويرا لأعلى حد من تقرير الذات البشرية الشريرة. إن علاقتنا بالله لا يمكن أن تكون قياسا، أو تساؤلا، أو علاقة مفصلة، نفكر فيها كما يفكر المحامي، أو العالم، أو التاجر، في مشكلاته: «أعلم أن الله عظيم، وأننا لا نعرفه.» إننا لا نعرفه، ولا نستطيع أن نعرفه، لأننا لو استطعنا ما كنا بشرا. ولكوننا لا نستطيع معرفته نؤمن به.
ولم يبلغ كل اليهود مستويات الفكر والشعور التي حاولنا التنويه عنها، وهم في ذلك كالأثينيين؛ فإنهم لم يبلغوا جميعا مستويات أفلاطون وأرسطو. غير أن اليهود صاغوا من خبرتهم الطويلة ديانة منظمة، ومجموعة من النظم، وأسلوبا من العيش، وعن هذا الأسلوب نشأت المسيحية. ويجب أن نذكر مرة أخرى أن تاريخ الفكر لا يهتم بالأعمال العظيمة التي قام بها العقل البشري وحدها، كأعمال الأنبياء اليهود، وإنما يهتم كذلك بالطريقة التي طبقت بها هذه الأفكار على السلوك العادي في حياتنا اليومية التقليدية.
إن الشعب اليهودي لم ير كله إله اليهود كما رآه أشعياء. وهم كشعب لم يخسروا قط إلههم يهوه في يهوه العالمي. وليس من شك في أن الدين عند الكثيرين منهم كان معناه مراعاة قواعده؛ أي الاحتفاظ بنقاء الطقوس، وذلك بأداء مجموعة من الأحكام والقوانين بكل دقة. وكثير من هذه الأحكام نواة، من ذلك النوع الذي يألفه الكثيرون منا اليوم، ويعرفونه باسم المحرمات، وكذلك الحكم مثلا الذي يحرم على اليهودي أكل لحم الخنزير. وهناك أحكام أخرى - كالختان - تتطلب أعمالا إيجابية. وكان الأنبياء ثوارا على المعنى الحرفي لأحكام الدين. وكانوا على أقل تقدير مثاليين دينيين يستهدفون تجاوز الشريعة، وقد وسعوا في الواقع وعمقوا الحياة الدينية لشعبهم.
صفحة غير معروفة