وعلى هذا الضوء اقرأ الآية الكريمة:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، ففيها إشارة إلى الوسائل الإقناعية الثلاث، التي تصلح للطبقات الثقافية الثلاث، كل بحسب استعداده وقدرته، وتلك الوسائل الثلاث هي: الحكمة، والجدل، والموعظة.
والحكمة هي طريق البرهان العقلي من المبدأ إلى المنتهى. والجدل هو التسليم بالمبدأ ثم طلب البرهان على المنتهى؛ أي على نتيجة معينة إنما تولدت عن ذلك المبدأ المسلم به، وأما الموعظة فهي تلجأ إلى التأثير بطريقة الخطابة وضرب الأمثلة، دون اللجوء إلى برهان عقلي يقام.
وإن نصيب أمة من التقدم الثقافي، يقاس بالنسبة العددية بين هذه الطبقات الثلاث. فإذا كثرت الفئة التي تصر على تحليل الأفكار الأساسية المتداولة، تحليلا يبين على وجه الدقة مضموناتها، ومصادر تلك المضمونات، كانت الأمة على درجة رفيعة من الوعي الثقافي. وأما إذا كثرت فئة الطرف الأدنى، وأعني أولئك الذين لا يؤرقهم أن يأخذوا المعاني في جملتها، بغير تطلع إلى تحديد محتواها الفكري، ومع ذلك تراهم يشقون حناجرهم بالهتاف لها أو ضدها، بل هم قد يسفكون دماءهم سفكا على معان لا يعرفون من حقائقها كثيرا ولا قليلا؛ أقول إنه إذا كثر في الأمة أمثال هؤلاء، كانت الأمة على درجة متواضعة من الوعي الثقافي. وبين الدرجتين: العليا والدنيا، درجة وسطى.
وإني لأتردد أن أذكر هنا ما يستطيع كل قارئ أن يلحظه في الأمة العربية بصورتها الراهنة، وهو: كم تكون النسبة العددية يا ترى بين هذه الطبقات الثقافية الثلاث؟!
حدود التسامح
منذ نيف وثلاثين عاما (1949م على وجه التحديد) طلبت مني الإدارة الثقافية بالجامعة العربية أن أضع تصوري للثقافة العربية المعاصرة، ما أركانها؟ وكان ذلك التصور مطلوبا بمناسبة مؤتمر ثقافي عربي انعقد عامئذ، وقد أريد له به أن يجمع مع مجموعة من الآراء في مجلد واحد.
وأذكر أنني أدرت فكرتي حول محور التوفيق بين العقل والحرية؛ فمن أبرز ملامح عصرنا أن للعلم الطبيعي المرتكز على أجهزة، مكانة عليا ومكانا فسيحا. والعلم قوامه منهج العقل بمنطقه الملزم، الذي لا يدع أمام الناس حرية في اختيار النتائج. وكيف يكون لنا اختيار والنتائج هي ما تنطق به الطبيعة ذاتها، حين أجبرناها على الإفصاح ببعض سرها؟ فلما شعر إنسان العصر بهذا القيد الملزم يثقل على صدره شيئا فشيئا؛ وذلك لأن تجارب العلم جاوزت ظواهر الطبيعة الجامدة إلى ظاهرة الحياة الإنسانية نفسها؛ أقول إن إنسان العصر حين شعر بقيد الحقائق العلمية تكتم أنفاسه، التمس حريته في مجال آخر، هو مجال الفنون ومجال القيم بصفة عامة، فترك لنفسه عنانها تضع الألوان والخطوط كما شاء له الهوى، وترص ألفاظ القصيدة من الشعر بلا ضوابط إلا ضوابط الشاعر الفرد، وهكذا. فإذا أرادت الثقافة العربية أن تعايش عصرها كان عليها أن تقسم نفسها بين علم يلتزم الحق الموضعي الذي لا اختيار فيه، وفن تطلق فيه الحرية الفردية لتبدع ما وسعها الإبداع، فلا يبقى علينا إلا أن نرسم الحدود الفواصل بين ما يخضع للقيد في مجال العلم، وما لا يخضع له بنفس المعنى في مجال الفنون.
والأمر في هذا التوفيق العصري بين ما يستلزم قيود العقل وما تباح فيه حرية المذهب والمزاج شبيه من حيث الشكل بالأمر في التوفيق الذي لجأ إليه أسلافنا العرب، عندما واجهوا ثقافة قوامها «عقل» جاءتهم من أوروبا أيضا (من اليونان) في صورة فلسفة وعلم، فأخذوا يوفقون بين نتاج العقل كما جاء إليهم، وبين الشريعة الموحى بها، أو هم حاولوا التوفيق بين العقل والنقل كما كانوا يقولون بمعنى أن يحاولوا قراءة كل من شريعة الإسلام وحكمة اليونان الواحدة بلغة الأخرى.
ولكن خطرة جديدة قد ألحت علي منذ حين، عندما وثبت إلى ذاكرتي تلك المشابهة الشكلية بيننا اليوم وبين أسلافنا؛ لأنه وإن كان مبدأ التوفيق بين طرفين، أحدهما «العقل» في الحالتين، هو حكم الموقف الثقافي عندنا اليوم وعند آبائنا في الماضي البعيد، إلا أنني رأيت فارقا جوهريا بيننا وبينهم، في سماحة صدورهم لاختلاف وجهات النظر، وفي ضيق صدورنا حتى لا تسمع إلا وجهة واحدة.
صفحة غير معروفة