ولقد أورد في غضون كلامه اسم «هانز أندرسون»، فلم أشك في أنه يشير بهذا إشارة لا تخفى على العارفين، إذ يشير إلى حكاية الملك الذي أوقعه المحتالون في وهم عجيب أعمى بصره وطمس على بصيرته؛ إذ أوهموه بأنهم نسجوا له قماشة لم تر الدنيا مثيلا لها، وأرادوا أن يلبسوه ثوبا يصنعونه من ذلك النسيج الفريد، وأهم ما يميزه هو أن العقلاء الأسوياء وحدهم هم الذين يستطيعون رؤية ذلك القماش، وأما البلهاء فلا يستطيعون ذلك.
توهم الملك أنه اكتسى بالثوب العجيب، وهو عريان، وأمر فسار في موكب حافل يشق طرقات المدينة، ليراه شعبه وهو في زخارفه، فكان المتفرجون يهمسون بكلمات الإعجاب والدهشة لجمال الثياب الملكية الفريدة، إلى أن صاح غلام صغير إلى أمه: أين هي الثياب؟ إن الملك عريان . وما إن قالها الغلام حتى سرت في الناس سريان البرق الخاطف: إن الملك عريان.
وتلك عجيبة من عجائب الإنسان، وهي أن حقائق وجوده وحياته قد يدركها الصبي الصغير بقلبه البكر وشعوره الصافي، كما قد يدركها الفيلسوف بعقله الجبار. وأما من هم بين ذينك الطرفين، فكثيرا ما تحول شواغل دنياهم دون رؤيتهم لأبسط الحقائق عن طبيعة الإنسان. فالغلام الذي صاح بحقيقة أن الملك عريان، شبيه بالفيلسوف ديكارت حين أعلن أنه موجود بفكره قبل أي شيء آخر، فكان الغلام وكان الفيلسوف، كلاهما، كأنما كشفا للناس عن سر مجهول.
وعودة إلى قصة صديقنا، وإبرازه للشخصية الإنسانية حين تنشطر بين وهم في داخلها وواقع في خارجها؛ فسواء أرادني أنا بقصته، أم أراد من ورائي أن يصور ما هو أهم وأعم، وأعني شخصية «المصري» أو «العربي» في مرحلته التاريخية الراهنة، فلقد استثارت القصة فكري، وهي - لأمر ما - تذكرني بحقيقة شاعت في عصرنا الراهن شيوع واسعا، كلما كان الحديث عن التفكير العلمي ومنهجه، وهي حقيقة لها مصطلحها الخاص في اللغات الأوروبية، حتى إذا ما أراد علماؤنا نقلها إلى العربية تفرقوا في الترجمة التي يختارها لها كل على حدة، ومن تلك الترجمات ما تنفر من سمعه أذني، وكان يمكن أن نتفق على مصطلح فيه الدقة وفيه النغمة المقبولة معا. وأما تلك الحقيقة المنهجية فهي تشير إلى المراجعة التي من شأنها أن تصحح مسار التفكير. فإذا عرض علينا صاحب فكرة فكرته، ثم تركناه بغير مراجعة وتمحيص، فقد تكون تلك الفكرة منطوية على أخطاء، وبرغم أخطائها تسري في الناس وكأنها تنزيل من التنزيل. وإذن فلا بد من مراجعة ناقدة، تحمل صاحب الفكرة على تصحيح فكرته. أقول: إن لهذه العملية في اللغات الأوروبية مصطلحا يكثف محتواها في صورة من يتلقى غذاء من سواه، فيبادله - بدوره - غذاء بغذاء، فالأول يقدم إلى الثاني فكرة، فيرد له الثاني جميلا بجميل، حين يقدم له ما قد يراه في الفكرة من خطأ يستوجب التصحيح. تلك هي العملية المنهجية التي أشرت إليها، والتي اختلف علماؤنا في المصطلح العربي الذي يصطلح للدلالة عليها. ولو كنت صاحب رأي، لاقترحت أن نتخلص من صورة «الغذاء» ورد الغذاء، وهي الصورة الموجودة في المصطلح الأوروبي؛ لأنها - لأمر ما - لا تتفق مع الذوق العربي. ولماذا لا نقول عنها - مثلا - «المراجعة للتصحيح» بكل ما فيها من بساطة ووضوح.
ولقد اكتسبت هذه العملية المنهجية في التفكير العصري أهميتها، من كونها تجاوزت حدود التفكير العلمي الخالص، ونشرت فروعها في ميادين أخرى تمس الحياة والديمقراطية في قلبها وصميمها. فإذا لم يرصد الخبراء - كل في مجال اختصاصه - ما يشاع فيهم من أفكار، رصدا يراجع ويمحص، ليردوا تلك الأفكار إلى أصحابها منقحة مصححة، فسرعان ما تمتلئ حياة الناس بالأباطيل، ثم سرعان ما ينتقل الناس من موقف التهاون في النقد والتصحيح، إلى موقف «الخوف» من نقدها وتصحيحها.
قال المتحدث: معذرة، فلقد استطرد بي الحديث، حتى بعدت عن قصة صديقنا؛ فقد جاءتني بمثابة العملية المنهجية التي حدثتك عنها، والتي توجب مراجعة الأفكار السائدة بيننا ابتغاء التصحيح إذا احتوت على ما يتطلب مثل هذا التصحيح.
ومرة أخرى قطعت على المتحدث حديثه، لأسأل: كأني بك يا صاحبي تفزع إذا قال لك قائل إنك تعيش في أوهام نسجتها لنفسك بخيالك؟ إنه لو كانت الأوهام (والأحلام ضرب منها) تنزل بالإنسان كل هذا الأذى، لما فطرت عليها طبيعته. أتحب للطفل - مثلا - أن يبرأ من أوهامه، حتى لا يحسب العصا التي يركبها جوادا؟ وإذا كان لا بد للطفل من حياة الوهم، أفليس يكمن في كل إنسان راشد ذلك الطفل الذي كان؟
الأوهام - يا صاحبي - هي وجبات طهوناها لأنفسنا على أية صورة نشتهي. ماذا يكون مصير الإنسان إذا لم تكن في حياته أحلام؟ وإنني لأعني الأحلام بنوعيها؛ أحلام اليقظة وأحلام النوم؛ فكم من عاشق روى ظمأه في أطياف الحلم، وكم من مغلوب على أمره في الحياة الواقعة كان نصيبه في أحلامه دور الغالب الظافر.
ضحك صاحبي وأجاب: إنني لأعلم بأن صحراء الحياة إذا لم يتخللها واحات الوهم والحلم، لأصبحت جحيما قبل يوم الحساب. وهل الفن كله إلا وسائل يلوذ بها الإنسان إلى صور من أحلامه ليصحح بها ما يفسد الحياة الواقعة؟ كل ذلك مفهوم ومقبول، فلا ضير فيه إذا كان للحلم ساعته وللصحو الواعي ساعات. ومن ذا يوجه اللوم إلى مدام بوفاري لو أنها واجهت واقع حياتها معظم أحيانها، ثم خصصت حينا تسرح فيه بأوهامها؟
على أن ما هزني من الأعماق، فيما قرأته من القصة المزعومة، هو ظني بأن صديقنا - بعمق فكره ودقة تحليله - إنما يصور شعوبنا في جملتها، ولا يقصد إلى فرد بعينه. وإذا كان ذلك هو مرماه، كان الأمر عندي جديرا بأن أحضر إلى دارك، لنتعاون على التماس السبل، التي نحد بها من جنوح الناس نحو أوهام يصنعونها ليستدفئوا بها، حتى لا تنفرج بنا الزاوية.
صفحة غير معروفة