وإني لأطيل الأحاديث مع رفاق أكرمين، ارتفعت قاماتهم في ميادين الفن والأدب، فأسمع منهم ما يدلني على روح عصرنا، كيف أنه عصر التحولات التي تلتمس مخرجا نحو عالم جديد؛ فنابغة من نوابغ الفن عندنا، يشعر شعور الرضا عن نفسه؛ لأنه ما ينفك يجدد في اتجاهه الفني عاما بعد عام، أو شهرا بعد شهر. ونابغة من نوابغ الأدب المسرحي، يفاخر بأنه قد عاهد نفسه منذ أول شوطه ألا يقيم على شكل أدبي واحد، إلا ريثما يصوغ نموذجا له، ثم ينتقل إلى شكل أدبي آخر. ونابغة ثالث من نوابغ القصة، يحاول عامدا أن يكون له في كل مرة قالب أدبي جديد، خشية أن يقال عنه إنه يتبع التقليد في مجاله الأدبي ... هذه كلها حالات قد تدل على خصوبة الابتكار عند الرواد، لكنها كذلك علامات على عصر التحولات الذي نعيش فيه، والذي لا يدري أحد من أبنائه دراية الواثق، ما الحدود الفواصل بين الجيد والرديء.
ولم تكد المرأة عندنا تكسب شيئا من حقوقها، حتى بدأنا اليوم نسمع من المرأة نفسها عجبا؛ إذ أخذت كثيرات من سيداتنا وبناتنا يتشككن في أن يكن قد اخترن الأفضل، حين اخترن الخروج على ميادين العمل. ولقد سمعت عن استفتاء جرى بين مجموعة من فتيات الجامعة، يسأل عن رأيهن في صورة العلاقة المثلى بين الزوجين، فكانت الكفة أرجح في جانب الصورة التقليدية التي سادت قبل أن تظفر المرأة بشيء من حقوقها، وهي علامة أخرى على أن عصرنا يكتنفه ضباب فهو يتردد في كل موضوع بين نعم ولا؛ لأنه عصر التحولات.
ولعل بحث الإنسان في عصرنا هذا، عن شيء يجعل لحياته معنى، حتى لا يراها عبثا من العبث، هو الذي أحدث التعدد في الآراء حول تقويم الأشياء والمواقف؛ فأصبح ما هو مقبول عند هذا مرفوضا عند ذاك. ولم يكن مثل هذا البحث عن معنى للحياة، أو قل عن هدف واضح لها، أمرا واردا في عصور كثيرة مضت؛ لأن ظروف العيش فيها لم تكن تستدعي سؤالا كهذا، كما تستدعيه ظروف العيش في عصرنا.
ففي الفترات الطويلة التي سادها الإيمان الديني الراسخ، كان معنى الحياة في هذه الدنيا لا يحتاج إلى بحث أو سؤال؛ وذلك لأن الجواب كان حاضرا في الأذهان، وهو أن سعي الإنسان في دنياه، يستهدف حياة في الآخرة تكون أكمل وأعدل.
كلا، ولا كان السؤال عن معنى الحياة واردا، في العصور التي سادتها روح الإبداع الفني - وقد يكون ذلك الإبداع الفني منبثقا عن حياة دينية وقد لا يكون - كما كانت الحال في عصر النهضة الأوروبية لأن الإنسان وهو يبدع فنا، أو وهو يغامر كاشفا للبحار المجهولة، وصاعدا للجبال القاسية، وضاربا في الأرض هنا وهناك - وكل ذلك كان في أوروبا أيام نهضتها، أقول إن الإنسان وهو منهمك في مثل هذا الإبداع لا يسأل ما معنى الحياة وما هدفها؛ فمعناها عندئذ وهدفها ماثلان بين يديه. وكذلك لا يكون السؤال واردا في عصر تكثر فيه منجزات العلوم، كما كانت الحال إبان القرن الماضي في أوروبا أيضا؛ فلقد خيل للإنسان الأوروبي - والأمريكي - يومئذ أن مفاتيح التقدم الإنساني كلها في أيدي العلوم ومنجزاتها. وإذا كانت تلك هي نظرته إلى العلم وقدرته على فك أسرار الوجود، فلم يعد للسؤال عن معنى الحياة موضع؛ إذ يكون ذلك المعنى في تحصيل العلوم، ثم في استخدامها حتى تتحقق للإنسان سيادته على الطبيعة بكل ما فيها من أسباب القوة.
أما في عصر التحول هذا الذي نعيش نحن اليوم فيه، فالسؤال وارد لأن الموج مضطرب - كما قلنا - والمعايير مهتزة، والأهداف الحقيقية يلفها الضباب، فلا ندري في مسالك حياتنا أين الخطأ وأين الصواب، على أن هذا كله مدعاة للتفاؤل؛ لأنه هو نفسه الإرهاصات التي تسبق ولادة عصر جديد.
سجناء الكهوف
التشابه بين رءوس الناس وكهوف الجبال مألوف عند أصحاب الفكر والأدب، الأقدمين والمعاصرين جميعا؛ فكما كان الإنسان الأول يحتفر في صخر الجبل كهفا يأوي في ظلمته من غوائل بيئته، كذلك يجعل الإنسان - من تقدم به الزمان ومن تأخر على السواء - يجعل من جوفه شيئا يشبه الكهف، يدس في عتمته مخزونات من أفكار ومشاعر، بثها فيه المحيطون به منذ استيقظ فيه أول شعاع من نور الوعي، فلما أن شب أخذت تلك المخزونات تمسك بزمامه وتسيره هنا وهناك، وهو يحسب أن الذي يسيره إنما هو الحق المنزه عن الهوى؛ فهو في ذلك أشبه بالحجر ألقاه من ألقاه، فتحرك بقوة الدفع ليسقط في مكان معلوم لمن قذف به. لو كان ذلك القاذف ممن يعلمون حساب السرعة في الأجسام المتحركة، لكن ذلك الحجر الملقى، لو دب فيه وعي الكائنات الحية، مضافا إليه شيء من أوهام البشر، لظن أنه مصمم بإرادته على السقوط عند النقطة التي سقط فيها، كأنه إنسان مسافر في سيارة أو قطار، نزل في مدينة طنطا قادما من القاهرة؛ لأنه هو الذي رسم لنفسه أين يبدأ رحلته وأين ينتهي.
نعم؛ فهكذا تحركنا مخزونات النفس من مشاعر وأفكار، لم نكن نحن الذين اختزناها لأنفسنا بأنفسنا عن وعي وقصد وتدبير، بل فعل ذلك أناس أحاطوا بنا وتولوا تنشئتنا ونحن صغار.
ولعل أفلاطون لن يكون أول من استخدم هذا التشبيه للإنسان بسجناء الكهوف، وهو تشبيه أورده في محاورة «الجمهورية» ليبين للناس علة جهلهم بالحقيقة الموضوعية الخارجية؛ فهم كمن سكنوا كهفا، وللكهف فتحة على الطريق العام، يدخل منها ضوء الشمس، لكن سكان الكهف جلسوا فيه مشدودين بسلاسل؛ بحيث تكون وجوههم نحو الحائط الخلفي، وظهورهم نحو فتحة الكهف على الطريق الخارجي، فإذا ما مرت كائنات من بشر أو حيوان، أو مرت عربات، ألقي بظلالها على الحائط الخلفي الذي تتجه إليه أنظار سجناء الكهف. ولما كانت تلك الظلال هي كل ما يرونه طوال حياتهم في جوف الكهف، ظنوا أنها هي كل ما هنالك من كائنات الوجود. وإنك لتجهد نفسك عبثا إذا أنت حاولت أن تبين لهم بأن ما رأوه إنما هو ظلال للحقائق، خارج كهفهم، طرحت ظلالها أمامهم بفعل أشعة الشمس الساقطة عليهم من وراء ظهورهم. تجهد نفسك عبثا لو حاولت ذلك؛ إذ إنه محال عندهم أن يصدقوا ما يقال عن أشياء لم يرها منهم أحد ولم يسمع.
صفحة غير معروفة