ومع ذلك، فقد مضيت، تدفعني الرغبة الجامحة في أن أكمل نقصا كان معيبا في ثقافتي، كما هو - من غير شك - نقص معيب في ألوف آخرين ممن ساروا في نشأتهم الدراسية كما سرت. وما أكثر ما دهشت، عندما كنت ألاحظ لنفسي - فيما أقرأ - بعض الملاحظات، فأتحدث فيها مع زملائي من أهل الاختصاص العلمي في جوانب ذلك التراث، فإذا هم لم يلحظوا بسبب الإلف - ما لحظت - فكان ذلك يزيدني رغبة، ويزيدني جرأة، حتى انتهيت إلى محصول، رأيت من الإخلاص للتاريخ الفكري أن أعرضه على الناس، في كتب ومقالات، تلاحق صدورها منذ ذلك الحين.
على أن كل قضية فكرية مما كان يعرض لي أثناء السير، سرعان ما كانت تفجر معها قضية أخرى، ثم ثالثة ورابعة؛ فمثلا: كنت أتساءل - كلما مضيت في قراءتي - ترى هل ينفعنا هذا الميراث فيما نحن فيه الآن؟ وإلى أي مدى؟ ثم لا ألبث أن أسأل نفسي قائلا: وما هو على وجه الدقة هذا الذي نحياه الآن؟ ما هي العناصر الأساسية التي يقوم عليها عصرنا، لنكون على بينة منها، قبل أن نجيب عن سؤال يسألنا: أيصلح ميراثنا الفكري لعصرنا الحاضر أم لا يصلح؟ حتى إذا ما تكاملت لدي جوانب من الحياة المعاصرة، تكفي للمقارنة وللحكم، رأيت المشكلة الأساسية وقد تبلورت أمامي؛ حيث ما زالت قائمة إلى يومنا هذا، تتحدانا جميعا بالبحث والتفكير من أجل جواب مقنع مفيد، وهي: كيف نمزج مزجا طبيعيا حيا بين ذاتنا القومية ذات العناصر الموروثة، وبين الأركان الأساسية من حضارة العصر؟
ولم تكن هذه المشكلة مقصورة علينا وحدنا، بل كانت مشكلة شغلت طوائف المفكرين والأدباء، في سائر الأقطار ذوات الحضارات القديمة، كالهند والصين واليابان وأمريكا اللاتينية؛ ولذلك عن لجماعة من أهل الرأي في باكستان، أن يقيموا ندوة ثقافية عالمية، يدعون إليها نفرا ممن يمثلون تلك الأقطار ذوات الحضارات القديمة، ليتدارسوا معا عسى أن يصنعوا في موقفهم بين الحضارتين. كان ذلك في سنة 1965م أو نحوها، وكنت ممن سعدوا بالدعوة لحضور تلك الندوة التي انعقدت في مدينة لاهور بباكستان. وكان أهم ما خرجت به من الندوة، ليس هو حلا معينا بذاته تحل به المشكلة المعروضة، بل هو أن لتلك المشكلة الثقافية أهمية خاصة، تجعل لها - أو يجب أن تجعل لها - أولوية على كل ما عداها في حياتنا الفكرية؛ لأن محاولة حلها، ترسم أمامنا طريق السير كيف يكون، وإلى أي اتجاه يميل.
إننا اليوم في مرحلة التحول بين عصرين. وإنها لبديهية واضحة، أن القيم والمعايير التي يقيس بها الناس أفكارهم وسلوكهم، ليميزوا فيها بين الصحيح والضال، لا بد أن يصيبها اهتزاز وغموض في مراحل التحول؛ إذ هي لا تستقر، ولا تتحدد معالمها، إلا حين تطرد أساليب الفكر وطرائق العيش. فإذا قال قائل، والناس في مرحلة التحول، يجب التمسك بما كان سائدا في العصور الماضية، كان بقوله هذا، بمثابة من ينكر أننا نتحول من عصر إلى عصر؛ لأنه يريد للحاضر أن يكون امتدادا للماضي بغير تفرقة ولا تمييز. إنه لا مندوحة - لمن يجتاز مرحلة التحول كالتي نجتازها - عن الاستجابة المتوثبة السريعة لعوامل التغير من حوله، وإلا أورد نفسه موارد الهلاك، إذا هو - في خضم التغير الذي يحيط به - لجأ إلى قواعد سلوكية خلقت لتجيب عن بواعث أخرى غير البواعث المؤثرة فيه الآن. وهل هنالك ما هو أوضح من القول بأن حكمنا على المستقبل بقواعد الماضي هو حكم يفترض الثبات والاطراد في صورة الحياة، مع أن مثل هذا الثبات ليس له وجود؟
لكن هذه الضرورة الحتمية الموجبة لسرعة التغير، لنرد على العوامل الحضارية الجديدة بما يلائمها، لا بد أن تصاحبها ضرورة حتمية أخرى، توجب علينا أن تجيء ردودنا تلك التي نرد بها على العوامل الحضارية الجديدة، ردودا متميزة بالطابع الشخصي الأصيل، الذي لا نحاكي به أحدا، وهي أصالة لا تتوافر لنا، إلا عن طريق امتلائنا بروح تراثنا؛ بحيث نحافظ على الموقف الذوقي الخاص، الذي عرف به أسلافنا. أعني أن نحافظ على طرائق الحكم على الأشياء والمواقف، حكما أخلاقيا أو حكما إجماليا، لا نراعي فيه إلا وجهة النظر المأثورة عن تاريخنا الماضي. ولعل شيئا كثيرا جدا من هذا الحكم الذوقي الأخلاقي، يكتسب عن طريق دوام اللغة العربية، بما تحويه في بطونها من أصول ثقافية وفنية، كما يكتسب عن طريق استمرارنا في إطار تشريعي ثابت، على الأقل من جهة الأصول.
تلك كانت، هي وأمثالها، إيحاءات اللحظة الخصبة الفريدة، التي أخذني فيها العزم على أن أكمل النقص من جوانب ثقافتي، فبدأت الغوص في بحر الثقافة العربية. فإذا لم أجد الفرصة سانحة لما يشبه المعرفة الشاملة، والإلمام الكامل، فلا أقل من أن أضيف إلى فكري إضافات، تبرر أن أكون عربيا معاصرا.
من تحولات العصر
عودة إلى قواعد
لقد أردت عن عمد أن أورد في هذا العنوان كلمة «قواعد» نكرة، لا تقيدها أداة التعريف؛ فلست أحب أن تفرض علينا القواعد المعينة المحددة من أرض غير أرضنا، ولا من عصر غير عصرنا. ولكنني في الوقت نفسه لا أتصور حياة للفكر أو للفن دون أن تضبطها «قواعد» يقيمها أصحاب المواهب العليا فيما يبدعونه، فيجري على طريقهم أصحاب المواهب المتواضعة، وعندئذ يقال إن «مدرسة» في الفكر أو في هذا الفن أو ذاك قد نشأت، كان فلان منشئها وإمامها، ثم اقتفى أثره الأتباع. وأما أن يقال إن رجل الفكر أو رجل الفن حر في إبداعه حرية مطلقة، لا إلزام عليه من أحد في منهاج عمله، ولا التزام أمام نفسه بما قيدته به من ضوابط الحركة، فتلك هي الفوضى، التي سرعان ما يذهب زبدها جفاء.
نعم، إنه من طبائع الأمور، أنه إذا نشبت حرب كبرى تهز العالم، كله أو معظمه، وإذا ما اشتعلت ثورة داخل الشعب الواحد، فإن تلك الحرب أو هذه الثورة، لا بد أن تجر في ذيلها جموحا يحطم القيود جميعا إذا استطاع، دون وقفة عند كل قيد، ليسأل عنه الغاضبون: أهو قيد جاء لينظم حركة الإبداع في فكر أو في فن؟ أم هو قيد نزل عليهم بلاء ليعيق خطو السائرين ؟ لا، إن الناس يومئذ لا يفرقون بين قيد نافع وقيد قاتل؛ فكل قيد عندهم ساعة الغضب واجب التحطيم. وإلا ففيم نشبت الحرب؟ وفيم اشتعلت ثورة؟ ولقد حدث منذ حين ليس ببعيد، أن شاركت في حديث يجري بين مجموعة من الزملاء، وجاء سياق قلت فيه إن ناقد الأدب والفن والفكر، لا يسير في نقده على هدى إلا إذا كان يضمر في دخيلة نفسه «الأسس» أو «القواعد» التي بيني عليها أحكامه. وبعبارة أخرى، فإنه يتوقع للإنتاج الجيد أن يقام على صور معينة يمكن تقنينها، ثم يبحث عن تلك الصور فيما سيعرض لنقده. وإذا هو لم يلتزم منهاجا كهذا، جاء بعده أشد ضلالا من خبط العشواء ... قلت ذلك لجماعة الزملاء - أو قلت شيئا يقرب منه - فعصفت من أفواههم عاصفة من لاءات، لا، لا، لا، ليس للإبداع في شتى مجالاته «قواعد»؛ لأن القواعد قيود، ونحن نرفض أن يقيد المفكر أو الفنان بأي قيد - هكذا قالوا.
صفحة غير معروفة