أما بعد، فقد كان التاجر أجنبيا يقيم في مصر، وهكذا كانت حالة الجاليات الأجنبية التي قال المستعمرون بعدئذ إنهم جاءوا ليحموا مصالحهم من إجحاف المصري الظالم! ثم هكذا كانت حالة الفلاح الذي قال عنه الطغاة يوما إن التعليم يفسده! لكن هكذا كان يكتب رواد الحركة المصرية في مصر منذ ثمانين عاما! إيقاظا للرقود وتنبيها للغافلين، وكان في طليعة أولئك الرواد الأديب الموهوب عبد الله النديم.
باب النجار المخلع
أنا من الذين يؤمنون إيمانا قويا بما في الأمثال السائرة من صدق ونفاذ؛ لأنها خلاصة خبرة طويلة لشعب بأسره، لكنني كذلك كثيرا ما أقف إزاءها وقفة تحليلية أحاول بها أن أفهمها على الوجه الصحيح، حين أجدها في ظاهرها لا تتسق مع الواقع. أريد أن أقول إنني كلما وجدتني مختلفا في الرأي مع المثل السائر، رجحت أن يكون المثل هو الصحيح، وأنني أنا المخطئ، وعندئذ أحلل لأفهم معناه المقصود.
فمن ذلك قولهم إن «باب النجار مخلع»، وهذا ظاهره أمر غير معقول، فلماذا يكون؟
الحق أن باب النجار لا يكون مخلعا إلا إذا كان نجارا ناجحا! هكذا فسرت المثل وعلى هذا النحو أزلت عنه غموضه الظاهر؛ وذلك أن العامل الناجح مشغول بعمله المنتج عن النظر إلى ما لا ينتج؛ فلو وجد النجار فراغا من وقته لالتفت إلى بابه يصلحه، لكن فراغه هذا لا يتوافر له إلا إذا قل زبائنه.
أتعلم كيف جاءني هذا التفسير؟ جاءني من زيارتين زرت بهما طالبين من أقربائي وهما في غمرة الاستعداد للامتحان. أما أحدهما فقد رأيته غارقا إلى أذنيه في العمل؛ فالكتب والأوراق حوله في غير انتظام. حييته فكاد لا يجد من نفسه الدافع إلى رد التحية؛ لأنه مشغول. وسألته سؤالا عابرا: هل أعددت لنفسك جدولا تنظم به طريق العمل؟ فقال وكأنما يسخر من هذه العقلية التي شاخت: جدول؟ ليس لدي من الفراغ ما أكتب فيه الجداول.
وتركته وذهبت إلى زيارتي الثانية، فإذا صاحبنا الثاني جالس إلى مكتب مرتب منظم، وأمامه ورقة ومسطرة وفي يده قلم: ماذا تصنع يا بني؟ فأجاب: أسطر جدولا للمذاكرة.
فعدت إلى داري وقد ازددت للطبيعة الإنسانية فهما، وانتهيت بيني وبين نفسي إلى حكم عن الطالبين: أيقنت من نجاح الأول وشككت في نجاح الثاني، وأهم من ذلك أنني رأيت موضع الصواب في قولهم: «باب النجار مخلع»، لكنني أضفت إلى المثل كلمة توضحه، فأصبح عندي: باب النجار الناجح ...
صفحة غير معروفة