7
فإذا كانت الحياة النفسية والقوة والنزوع منتشرة في الطبيعة بأكملها، فإن ذلك يعني أن كل ذرة تمثل الكون بأكمله، وتشعر بكل ما يحدث فيه، وكما اتضح في كشوف علم الأحياء أن بذرة النبات تنطوي في ذاتها على صورة الكائن بأكمله، وأن في البذرة نوعا من التشكيل الأصلي
، فإن معنى ذلك أن كل ذرة روحية تنطوي في ذاتها على مبدأ جميع تطوراتها المقبلة.
هذه الفكرة الرئيسية في فلسفة ليبنتس كان لها - كما رأينا - أصل تجريبي مستمد من تطور العلوم في عصره. غير أن في وسعنا أن نرجعها إلى أصول أخرى إلى جانب الأصل التجريبي، فقد استمدها ليبنتس من مبدأ منطقي عام، هو المبدأ القائل: إن كل محمول متضمن في الموضوع
omne prqedicatum inest subjecto ؛ بحيث لا تكون فكرته الميتافيزيقية إلا تطبيقا أنتولوجيا لهذا المبدأ المنطقي. وفضلا عن ذلك فربما استطاع المرء أن يردها إلى أصل مستمد من نمط الحياة التي عاشها ليبنتس ذاته؛ ففي حياته الحافلة بالنشاط السياسي والعملي كان كلما فرغ لنفسه وخلا لأفكاره؛ استخرج من ذاته كشفا جديدا أو فكرة رائعة؛ فالذات إذن تنطوي في داخلها على كل شيء، وتطوراتها كلها موجودة فيها ضمنا، وتستخلص منها بالاستنباط، وهي رغم عزلتها تعكس العالم كله وتمثله، مثلما كان ذهنه يعكس معارف عصره كلها ويمثلها. ولقد كانت لهذه الفكرة الرئيسية؛ أعني فكرة تمثيل الذرة الروحية الواحدة للكون بأسره؛ بحيث تكون «مرآة» ينعكس عليها الكون في صورة مصغرة، وانطواء كل ذرة روحية على عناصر تطورها المقبل كلها، كانت لهذه الفكرة نتائج فلسفية متعددة، سنورد فيما يلي أهمها:
أولى هذه النتائج هي القضاء على الحد الفاصل بين الكون والفساد والميلاد والممات بحيث لا تكون هذه الأضداد إلا حالات طارئة تتعاقب على الذرات الروحية فحسب، ويؤكد ليبنتس أنه لا يعترف بوجود نفس خاصة تظل مرتبطة بكتلة معينة من المادة وتقتصر على رعاية شأنها؛ «ذلك لأن الأجسام كلها في صيرورة دائمة كالأنهار، وهناك أجزاء تدخل فيها وتخرج منها بلا انقطاع ... ويترتب على ذلك أنه لا يوجد كون تام، ولا فساد أو موت كامل بالمعنى الدقيق، يكون قوامه مفارقة النفس. وليس ما نسميه بالكون إلا نماء وزيادة، مثلما أن ما نسميه بالموت إنما هو ضمور ونقصان.»
ومن النتائج المترتبة على القول بأن الذرة الروحية مرآة ينعكس عليها الكون كله، الاعتقاد بإمكان تحصيل معرفة كاملة عن طريق مجموعة من الأفكار البسيطة مرتبة ترتيبا صحيحا، فالأفكار البسيطة تؤدي على المستوى المعرفي نفس الدور الذي تؤديه الذرات الروحية على المستوى الأنتولوجي، وهي بدورها تعكس عالم المعرفة بأسره، وتكشفه لمن يستطيع أن يستنبطه منها. ولقد كان هذا الاعتقاد ملازما لتفكير ليبنتس منذ شبابه المبكر، وظل على الدوام مؤمنا بإمكان وجود «أبجدية الفكر البشري»، وبإمكان التوصل إلى ذلك «العلم الإلهي» القائم على التحليل والرمزية والتركيب الجامع. وكان ذلك في رأيه أهم الأهداف وأجدرها بجهد الإنسان وسعيه، فإذا أمكن الاهتداء إلى قائمة كاملة بالأفكار البسيطة، وبالعناصر الأولية التي لا تقبل الانقسام في كل فكر بشري، فمن الممكن عندئذ أن نرمز لكل منها بعلامة، ويصبح استنباط كل الحقائق التي لم تكشف بعد مسألة حساب وجمع فحسب، وعلى هذا النحو ينشأ «علم كلي»
Scientia universalis
يتيح للإنسان فهم أدق أسرار الكون بطريقة حسابية رياضية دقيقة. ولقد كانت الخطوة الهامة التي اتخذها ليبنتس في سبيل بلوغ هذا الهدف، هي وضعه للدعائم الأولى للمنطق الرياضي، الذي قصد منه أن يكون أداة تدوين هذه المعرفة البشرية الشاملة. وفي هذا المجال كان ليبنتس رائدا لحركة لم تستأنف سيرها إلا بعد وفاته بما يقرب من مائة وخمسين عاما، ورغم أن المنطق الرياضي الحديث لا يضع لنفسه - في الوقت الراهن على الأقل - مثل هذا الهدف الطموح الذي قصد إليه ليبنتس، فإنه يدين لهذا الأخير قطعا بفضل التمهيد لظهوره والقيام بالأبحاث الأولى التي أدى تطورها إلى نضوج هذا العلم.
أما النتيجة الثالثة لرأي ليبنتس هذا فهي فكرة الانسجام، وقد ظهرت هذه الفكرة عند ليبنتس نتيجة لوجود صفتين متعارضتين - الظاهر - للذرات الروحية عنده؛ فكل ذرة هي - حسب تعريفها - فردية تماما، منطوية على نفسها، ليست لها «أبواب ولا نوافذ» تطل منها على العالم الخارجي، غير أنها - من جهة أخرى - تعكس العالم كله من وجهة نظرها الخاصة، فكيف إذن يتسنى تحقيق الاتفاق بين وجهات نظر الذرات الروحية كلها؟ لا بد لذلك من وجود نوع من «الانسجام المقدر»
صفحة غير معروفة