يشتمل التشبيه - كما هو واضح - على جذور وجذع وغصون تحمل الثمار، وهذه العناصر الثلاثة تؤلف كلها «شجرة»؛ أي إنها تؤلف وحدة واحدة. بل إن الشجرة، وغيرها من أشكال الحياة، هي في تفكيرنا العادي نموذج للوحدة «العضوية»، ولما كانت الفلسفة هي «الشجرة» ككل، فإن المعنى الواضح لذلك هو أن ديكارت نظر إلى الفلسفة بمعنى شامل، وجعلها مرادفة «للمعرفة» بوجه عام، فالعلوم النظرية كالفيزياء، والعلوم التطبيقية أو العملية كالميكانيكا، تندرج تحت ذلك الكل الشامل، الذي هو الفلسفة. وهكذا كان ديكارت من أنصار «وحدة المعرفة»؛ بحيث تؤلف فروع العلم المختلفة في نظره - وكذلك الميتافيزيقا - كيانا شاملا واحدا، ترتبط أجزاؤه في وحدة عضوية. وفي هذه المسألة كان ديكارت فيلسوفا مذهبيا بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة؛ أي بمعنى الفيلسوف الذي يدخل كل جوانب المعرفة في إطار استبصار رئيسي واحد، وإن كان قد اختلف عن أصحاب المذاهب الكبرى من اليونانيين في أنه جعل للعلم مكانا رئيسيا في هذا المذهب، كما اختلف عنهم في تأكيده أن الغاية من المعرفة - آخر الأمر - عملية تطبيقية. وليست مجرد إرضاء حب الاستطلاع النظري لدى العقل الإنساني فحسب.
وهذا التأكيد لوحدة المعرفة - من ميتافيزيقيا وعلوم نظرية وتطبيقية - في إطار «الفلسفة» مفهومة بمعنى شامل، هو أمر له دلالة بالغة في تفسير الفكر الديكارتي؛ ففي عصر ديكارت كانت مظاهر انفصال نوع خاص من المعرفة - هو العلم - عن المعرفة الفلسفية قد بدأت تتجلى بوضوح، وأخذت تتحدد معالم هذا النوع الجديد من المعرفة البادئ في التبلور، وبدأت مناهجه تتشكل بصورة مستقلة عن المناهج الفلسفية، وقد ظهر ذلك بوضوح في أعمال علماء مثل جاليليو وروبرت بويل، بل لقد عبر عنه فيلسوف مثل فرانسس بيكن تعبيرا صريحا، حين جعل «للفلسفة الطبيعية» (أي العلم التجريبي) طبيعة ومنهجا وهدفا يختلف بصورة قاطعة عن كل ما عرفته «الفلسفة التأملية» السابقة.
أما ديكارت فكان تفكيره - ولا يزال - يدور في إطار «المعرفة الموحدة» التي تكون فيها الفلسفة والعلم شيئا واحدا، يستخدم فيه منهج واحد، فهو لم يتأثر كثيرا بالتيار الجديد الذي يدعو إلى بناء معرفة علمية على أنقاض الأسلوب التقليدي في التفلسف، وإنما ينادي بفلسفة واحدة، تبدأ بمبادئ ميتافيزيقية يقينية، أي «بالمبادئ الأولى» (التي كان أرسطو بدوره يركز بحثه عليها)، ثم تنقل يقين هذه المبادئ حتى أبعد فروع البحث التطبيقي، والشيء الذي تميز به ديكارت عن الأسلوب التقليدي في التفلسف هو دعوته إلى تطبيق منهج يتسم بالوضوح واليقين على جميع مراحل عملية المعرفة؛ ذلك لأن مثل هذا المنهج الصارم كان مفقودا في أساليب التفلسف التقليدية، التي كانت تعتمد على التأمل والخيال أكثر مما تعتمد على دقة الاستنباط وإحكام الروابط بين المقدمات والنتائج. (2)
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه بقوة عندما يتأمل المرء هذا التشبيه، هو: أين موقع الرياضيات فيه؟ إن الرياضيات لا تجد مكانا في أي جزء من أجزاء شجرة المعرفة. وهذا أمر يبدو غريبا لدى فيلسوف كان يتخذ من الرياضة نموذجا لكل معرفة يقينية، ويضع لنفسه منذ بداية حياته هدفا طموحا هو أن يحقق في جميع مجالات المعرفة نفس اليقين الذي تحققه الرياضة. ولكن الحقيقة هي أن الرياضيات وإن كانت غائبة عن الشجرة، هي في واقع الأمر حاضرة فيها كل الحضور، فالرياضيات هي التي تقدم إلينا منهج البحث في جميع هذه المراحل، بدءا بالميتافيزيقا وانتهاء بالأخلاق، وهي الروح التي تسري في جميع عمليات المعرفة التي يقوم بها العقل البشري، فعن طريق الاستنباط - الذي يتبعه الرياضيون - ينقل الفكر يقين المبادئ الأولى إلى كل معرفة تالية يستخلصها منه، ويتوسع في معارفه على الدوام دون أن يفقد خلال ذلك يقين المبدأ الأول، ولو شئنا أن ندخلها ضمن هذا التشبيه لقلنا: إنها هي العصارة التي تسري في الشجرة من جذورها حتى أغصانها وثمارها، أو هي الفن الذي يتبعه البستاني الماهر حين يتعهد النبتة منذ أن كانت بذرة حتى تستوي شجرة باسقة. (3)
على أن المشكلة الكبرى في بناء هذا التشبيه هي علاقة عناصره بعضها ببعض، ولا سيما الإشكالات المتعلقة بأول هذه العناصر وهو الجذور التي تعني عند ديكارت «الميتافيزيقا»، هنا تصادفنا مشكلة التفسيرات الممكنة لطبيعة «الجذر» في علاقته بالنبات المتكامل، أو بعبارة أخرى: الميتافيزيقا في علاقتها بالعلوم. (أ)
فالجذر قد يكون هو «الأهم» والأجدر بالبحث من كل ما عداه؛ لأنه هو الأصل وهو العمق، وهو الثابت المغروس بقوة في الأرض، على حين أن سائر أجزاء الشجرة سطحية مهتزة قد تودي بها الرياح.
وبهذا المعنى نتحدث عن جذور أي شعب بوصفها، عنصر الأصالة فيه، في مقابل العناصر السطحية التي لم تتأصل فيه بعد، ونتحدث عن جذور أي موضوع بوصفها أحق الجوانب بالاهتمام فيه. (ب)
ولكننا قد نفهم الجذر بمعنى آخر، هو أنه ما يأتي في البداية لكي يظهر غيره (الجذع، والثمار بوجه خاص) بناء عليه؛ أي إنه بهذا المعنى هو «المقدمة» أو «التمهيد»، هو الذي يهيئ الطريق للنبات الكامل ثم لا يعود بعد ذلك موضوعا لاهتمامنا، إنما ينصب هذا الاهتمام على نواتجه وعلى ما تجنيه الشجرة آخر الأمر من ثمار، فمن منا يفكر حين يرى شجرة ناضجة في الجذور التي هيأت لانبثاقها؟ أليس حجم الشجرة واستواء جذعها ونوع ثمارها هو ما يجتذب كل اهتمامنا، على حين أن الجذر يتوارى عن تفكيرنا لأنه «أدى مهمته» ومهد الطريق للشيء الأساسي والهام؟ إن مما يعزز هذا الفهم للجذر أنه بطبيعته يختفي ويتوارى عن الأنظار؛ فالجذر «تحت الأرض»، والجذع والثمار هي التي تشق طريقها إلى النور، وهي «المرئية» والملموسة، وبقاء الجذر مختفيا تحت الأرض يرمز إلى وظيفته التمهيدية هذه، فهو عنصر ممهد لغيره فحسب، ومهمته الوحيدة هي أن يكون تهيئة لظهور الأجزاء الظاهرة من الشجرة؛ ومن ثم فهو أشبه ما يكون «بالشرط السلبي» لوجود هذه الشجرة، أو هو مجرد «وسيلة» لغاية هي النبات المكتمل. (ج)
وأخيرا، فمن الممكن أن نفهم علاقة الجذر بالنبات الكامل على نحو ثالث يجمع بين عناصر في كل من المعنيين السابقين؛ أي إنه يؤكد - مع المعنى - أهمية الجذور. ولكنه يؤكد - مع المعنى الثاني - أن جذع الشجرة وثمارها هي الغاية، ونقطة الانطلاق في هذا المعنى هي أن الجذر - وإن كان وسيلة لغاية هي النبات المكتمل - لا تنتهي مهمته بعد ظهور هذا النبات، بل إن الشجرة - مهما نمت وعلت - تظل في حاجة دائمة إلى جذرها؛ لأنه هو الذي يظل يزودها بالعصارة الغذائية التي يتوقف عليها استمرار حياتها، ولو انتزعت جذور الشجرة لذبلت على الفور مهما بدت لأعيننا متطاولة إلى السماء، ومعنى ذلك أن وظيفة الجذور في النبات الكامل «مستمرة»، وأنها هي التي تزود هذا النبات برحيق الحياة، ولولاها لما عاش جذع ولا ثمار؛ أي إن تأثير الجذر هو الذي تطغي أهميته على كل ما عداه. وليس صحيحا أن النبات المكتمل يلغي أهمية الجذر ويتخذه مجرد أداة تنتفي الحكمة من وجودها بعد أن تؤدي رسالتها، وإنما الصحيح أن هناك علاقة استمرار واتصال دائم بين هذين العنصرين.
وهكذا يكون للجذر - في علاقته بالشجرة - ثلاثة معان؛ فهو إما أن يكون العنصر «الأهم» الذي يطغى على كل ما عداه أو يحجبه ويكون جديرا باهتمامنا بدلا منه، وإما أن يكون العنصر «الممهد» الذي يهيئ المجال لغيره ويتوارى بعد ذلك عن الأنظار، وإما أن يكون العنصر «المستمر» الذي يظل يزود النبات الكامل برحيق الحياة طوال مراحل نموه.
صفحة غير معروفة